back to Books |
"هذا أنا.. جورج نادر"
نشر موقع "ليبانون ديبايت" سلسلة حلقات بقلم
القائد السابق لفوج المجوقل العميد الركن المتقاعد جورج نادر تحت عنوان "هذا أنا..
جورج نادر"، يروي فيها العميد نادر محطات من تاريخ عايشه وتعايش معه وعصر شهد
أحداثه، فطبع مسيرته في المؤسسة العسكرية والحياة العامة.
يعيد موقع القبيات الالكتروني
kobayat.org نشر هذه الحلقات كاملة وإضافة الجديد منها
فور صدورها.
هذا أنا ... جورج نادر - الحلقة الاولى.
هذا أنا جورج نادر.. من زواريب الضيعة الى رحاب الوطن -
الحلقة الثانية
هذا أنا جورج نادر.. عمق الالتزام بالارض والوطن -
الحلقة الثالثة
هذا أنا جورج نادر.. تحقيق حلم ال ـMon Lieutenant
الحلقة الرابعة
هذا انا جورج نادر.. المهمة الاولى واتخاذ القرار الصعب
- الحلقة الخامسة
هذا انا جورج نادر.. الوطن المشلّع والجيش " المقسوم " -
الحلقة السادسة
هذا أنا جورج نادر.. فوج المغاوير والبطل الذي لا يموت -
الحلقة السابعة
هذا انا جورج نادر.. ذكريات المغاوير: منها الأليمة
وأخرى رائعة - الحلقة الثامنة
هذا انا جورج نادر.. المغاوير استعادت المعنويات وحقوق
الجيش المعيشية - الحلقة التاسعة.
هذا أنا جورج نادر.. هكذا أفشل السوريون احتلال الجيش
للمجلس الحربي. - الحلقة العاشرة
هذا انا جورج نادر.. هكذا عامل السوريون جثث شهداء الجيش - الحلقة الحادية عشر
هذا انا جورج نادر.. معركة أدما، المغوار هو أول من يموت - الحلقة الثانية عشر
هذا انا جورج نادر.. هكذا قاومنا في أدما - الحلقة الثالثة عشر
هذا انا جورج نادر.. معركة ادما والمغوار الذي يموت واقفاً ولا ينحني - الحلقة الرابعة عشر
هذا انا جورج نادر.. لهذه الاسباب لم نربح حرب الالغاء فكان 13 تشرين الاسود - الحلقة الخامسة عشر
هذا انا جورج نادر.. 13 تشرين اليوم الاسود ولهؤلاء أدين بحياتي - الحلقة السادسة عشر
هذا انا جورج نادر.. الوطن بكامله تحت الإحتلال - الحلقة السابعة عشر
هذا انا جورج نادر.. وجهاً لوجه مع فوج من الوحدات الخاصة السورية - الحلقة الثامنة عشر
هذا انا جورج نادر.. دورة الأركان في فرنسا والأفق الأكاديمي الواسع - الحلقة التاسعة عشر
هذا انا جورج نادر.. فوج المغاوير والعودة إلى البيت - الحلقة العشرون
هذا انا جورج نادر.. ثمن الكرامة والمناقبية العسكرية - الحلقة الحادية والعشرون
هذا انا جورج نادر.. نهر البارد اندلاع المعارك - الحلقة الثانية والعشرون
هذا انا جورج نادر.. نهر البارد وإعادة التنظيم في اثناء القتال - الحلقة الثالثة والعشرون
هذا انا جورج نادر.. معركة نهر البارد ورفع إرادة القتال - الحلقة الرابعة والعشرون
هذا انا جورج نادر.. معركة نهر البارد: نعشق الحرب، نتقن القتال - الحلقة الخامسة والعشرون
هذا انا جورج نادر.. معركة نهر البارد: المقاتل الشجاع لا يتخلّى عن إنسانيته - الحلقة السادسة والعشرون
هذا انا جورج نادر.. الجيش ينتصر على الإرهاب في نهر البارد - الحلقة السابعة والعشرون
هذا انا جورج نادر.. عودة العسكر من المعركة - الحلقة الثامنة والعشرون
هذا انا جورج نادر.. مرحلة إعادة التنظيم والتدريب الإحترافي - الحلقة التاسعة والعشرون
هذا انا جورج نادر.. "ضربة موجعة للجيش" - الحلقة الثلاثون
هذا انا جورج نادر.. احداث 7 أيار 2008 - الحلقة الواحدة والثلاثون
هذا انا جورج نادر.. المناقبية العسكرية تنتصر في 7 أيار 2008 - الحلقة الثانية والثلاثون
هذا انا جورج نادر.. 7 أيار 2008 صوت الضمير يعلو على كل صوت - الحلقة الثالثة والثلاثون
هذا انا جورج نادر.. ابواب الثكنات تُفتح للمواطنين - الحلقة الرابعة والثلاثون
هذا انا جورج نادر.. الشعب يشكّل رديفاً للجيش - الحلقة الخامسة والثلاثون
هذا انا جورج نادر.. الحرب السورية على الأرض اللبنانية - الحلقة السادسة والثلاثون
هذا انا جورج نادر.. حادثة الكويخات: الفخّ المنصوب - الحلقة السابعة والثلاثون
هذا انا جورج نادر.. حادثة الكويخات وحيداً واجهت وبقيت وحيدا - الحلقة الثامنة والثلاثون
الحلقة الاخيرة من مذكرات العميد جورج نادر..
انهم المجوقلون الأشدّاء
هذا أنا ... جورج نادر - الحلقة الاولى
16 ك1 2015
ليبانون ديبايت - الحلقة الاولى من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
في يومٍ حار من أيام ايار، وفي قريةٍ وادعةٍ من جبال عكار، في بيت رقيب في الجيش، إستُدعِي للخدمة من الإحتياط في أعقاب أحداثٍ أمنية في الخمسينات من القرن الماضي، كنتُ ذلك الطفلُ الذي وُلِد أسودَ الوجه، كأنه خُنِق في حشا أمه، التي لمّا رأته بين الحياةِ والموت، بكت، وإنتحَبت وخاطبت " الداية " ( القابلة ) : " يا ويلي كنّو ما بيموت هالصبي " .. لكن " مرشا " العارفة الخبيرة بأمور الولادات، طمأنت " هند " الوالدة الخائفة: لا تخافي، ونظرت صوب دير مار جرجس القابع على تلّةٍ مشرفة على البلدة : " سمّيه جورج ، وأبو رمح هوي بيخلّصو " ( إشارة إلى القديس جاورجيوس الذي يلقبه جمهور المؤمنين في تلك الناحية ب " بو رمح " كونه يظهر في صورة الفارس الذي يمتطي ظهر حصانه وبيده الرمح يقتل التنّين ). وعملت الوالدة بنصيحة " الداية " وأسمته جورج تيمّناُ بالقديس جرجس الذي له في كل بيت من ذلك الحي ولدُ يحمل إسمه. تلك المرأة حبلت أربعة عشر مرّة، أجهضت منها مرتان، وولدت عشرة صبيان مات منهم أربعة في سنيّ الطفولة، وبنتين، وكان المولود الجديد في المرتبة الحادية عشرة زمنياُ، لذلك خافت الوالدة أن تخسر الطفل الخامس الذي بدا وكأنّ حبلاً لُفٍّ على عنقه.
ترعرع الطفل بقوة أبو رمح في ذلك الحي الغربي من بلدة القبيات، وكان قد وُلِد في السنة ذاتها من أمهات كانت تكافحن إلى جانب أزواجهن في حقولِ القمحِ والزيتون والكرمة، ثلاثة عشر ولد، والآن، وبعد مضي أكثر من نصف قرن، بالكاد يولدُ طفل واحد في ذلك الحي الذي بدأ يفقد تراثه الجميل وعاداته المحبّبة.
المدارس رسمية، (كانت تسمّى " المعارف " نسبة إلى وزارة التربية التي كانت تدعى وزارة المعارف) من الصفوف الإبتدائية وحتى التكميلية، والأساتذة معلمات ومعلمين هم من أبناء المحلّة ذاتها حيث تسود المَونة على الأصغر سنّاً حتى ولو لم يكن من تلامذتهم، فكيف إذا كان كذلك وهو " شاطر " بين أقرانه؟؟
لا زلت أذكر الصفوف الإبتدائية
بتفاصيلها، وأُحِب أن أروي طرفتان حصلتا معي : إحداها في الصف الثاني الإبتدائي،
عندما كنت أصنَّف الأول إلا مرّة واحدة " طلعت التاني " إذ كان الأول فتاة .. "
ووين بيت ألله ت نهدّو ".
بعد " تفريق " العلامات ، أخذت " منى " تختال أمامي
متباهيةُ متشفّية ، فما كان مني إلا أن كمَنتُ لها أمام منزل ذويها ورحت " أحلشها "
بشعرها الطويل وأضربها مؤدباُ لتتعلّم كيف تسبق الصبيان وتحرمني " الفرنك " الذي
وعدتني فيه مدام " نزهة " معلمتي التي كنت وما زلت أحبّها كثيراُ ( الفرنك يساوي
خمسة قروش ، والليرة اللبنانية تساوي مئة قرش .. رزق الله) . لكن والد منى هرع إلى
صراخها ولم يستطع اللحاق بي وأفلتت من " كم قضيب رمان ت أتهذّب "، وهربت منه، لكن
إلى أين ؟؟؟ فقضيب الرمّان الخاص بوالدي لم يرحم الولد الذي إنتقم لكرامته
التعليمية وخسارته المكافأة السخية، فنلت حصّتي أضعافاُ من القضبان المخصّصة
للتأديب المنزلي والتعليمي في آنِ معا ُ.
والطرفة الثانية حصلت في الصف الرابع الإبتدائي ، لم أكن
بطلها ، بل مُلحقاً بإبن عمي " ريمون " الكسلان في ال Dictée الإملاء الفرنسية ،
كان أستاذ اللغة الفرنسية قاسياً لا يهادن ولا يسامح ولم نلاحظ مرّة أنه إبتسم أمام
التلامذة، فكان دائماً مقطّب الوجهِ عابساً "مربّح حالو ألف جميلي" ، وقد وضع "
تسعيرةً " للعقاب : قضيب رمان على اليد لكل غلطة إملائية ، وكنت التلميذ الذي "
ياكل قتل اقل واحد "، وكان ريمون التلميذ المشاغب الظريف إذ كنا نشكّل عصابة ً
بقيادته كونه الأكبر سنّاً والعارف بشؤون الحيّات والدبابير وإختراع الألعاب
البدائية. وذات يومٍ أخبرنا ريمون أنه إكتشف حلاً سحرياً لتلافي أوجاع قضبان الرمان
التي يكيلها لنا الأستاذ " كمال " وهو : دهن اليدين بدم الحردون .... ، وهي وصفةُ
مضمونة أكّدها لنا رئيس العصابة، وذلك بحكم الخبرة والمعرفة، وهرعنا، بكامل عتاد
الحرب على الحرادين، وتمكننا من قتل إثنين منها كانا " يتشمسان " على حيطان
المقابر، وعصرناهما ودهننا أيدينا بالدم الحلال، وتلافينا غسل الأيادي في المنازل.
في صباح اليوم التالي، ذهبنا إلى الصف واثقين بأن قضبان
الأستاذ كمال قد أُبطِل مفعولها، وكم كانت مفاجأته كبيرة عندما أدرك حجم الأخطاء
الإملائية التي تضاعفت نكايةً به، فزاد لتوّه تسعيرة العقاب : قضيبان لكل غلطة ..
ولتكن ثلاثة وأربعة وعشرة، ما همنا وعلى أيدينا وصفة القائد ريمون السحرية؟
إبتدأ القصاص بالزعيم الذي كان يجلس في المقعد الأول : "
فتاح إيدك " فمدّ يده بهزءٍ ولا مبالاة، ونزل القضيب الأول على يد ريمون، فنظر خلفه
بإتجاهنا وهزّ رأسه كأنه يريد إفهامنا ان لا تأثير يذكر على فعالية دم الحردون حامي
الأيادي الكسلى، ونزل القضيب الثاني، فاهتزّت يد القائد، وكنا ننظر إليه مرتعبين
نصلّي أن يكون مفعول الدواء أكيداً ، ومع القضيب الثالث صرخ : " آخ " .... فصرخ
أفراد العصابة بصوتٍ واحد : آخ .. ، بعدما تأكدنا أن دواء الزعيم لا يستطيع مقاومة
قضبان الرمّان ، وأن العلاج الوحيد لتلافي غضب الأستاذ كمال هو الإجتهاد وعدم " حط
أغلاط " في الإملاء الفرنسية.
************
Top
هذا أنا جورج نادر.. من زواريب الضيعة الى رحاب
الوطن - الحلقة الثانية
23 ك1 2015
ليبانون ديبايت - الحلقة الثانية من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
الشيطنة والألعاب الخطرة وتسلّق الأشجار و"حركشة"
المدابر ( أوكار الدبابير ) وتحمّل لسعاتها المؤذية، واللعب بالكلّة، كانت الجامع
بين جيل من الأولاد يملأون ساحات القرية وشوارعها وبساتينها وحقولها باصواتهم
وضجيجهم ومشاغباتهم، فكانوا لا يعودون الى البيوت إلا والليل يطبق على تلك المنازل
الفقيرة المتشابهة، يعودون، وعلى أجسادهم الكدمات والجروح والورم المتأتي من لسعات
الحشرات، كذلك كانوا يأوون إلى الفراش المشترك (حيث لم يكن لكل فردٍ من العائلة
سريره، بل يتشارك الأولاد إثنان أو ثلاثةالسرير الواحد أو الفرشة الممدودة أرضاً)
وفي ذاكرتهم الكثير من "البطولات" الصبيانية يفاخرون بها ويمنّون النفس بشيطنات
أخطر.. لكن بالطبع أجمل وأحبّ إلى الطباع الشقية وتبقى في الذاكرة تراثاً يندثر
وعادات إضمحلّت..
أخبرتنا أمهاتنا أننا كنّا نرضع أحياناً من أمهات أخريات
تتجاور وتتشارك العمل اليدوي، فكانت "فيكتوريا" رحمها الله و"جوليا" أطال الله
عمرها، كل منهما أمي بالرضاعة، كما كانت والدتي أماً لكل من ولديهما "ميشال" و
"نادر" شقيق رئيس العصابة. إذ كانت النساء تعمل في الحقول مع الرجال ولمّا كان لكل
منها رضيعاً لا تستطيع إصطحابه إلى الحقل، كانت تودعه جارتها التي تُرضِع طفلاً من
العمر ذاته، فيرضع الـطفلان من الثدي عينه، وهكذا كان حليب الأم يزيد في لحمة
العائلات والأولاد حتى بعد المشيب وطيلة الحياة، ويكون لكل شخص أم أو أكثر بالرضاعة
إضافة إلى أمه التي ولدته.
في المرحلة التكميلية تتغير جغرافية المدرسة،
فالإبتدائية كانت في منتصف الحي، الذهاب إليها لايتطلب أكثر من عشرات الأمتار لأبعد
منزل على طرف القرية، بينما التكميلية تبعد أكثر من كيلومترين، وعلى الأولاد الذين
لا تتعدّى أعمارهم العاشرة، السير يومياً هذه المسافة ذهاباً وإياباً، إلا في
الأيام الممطرة، إنما ليس في نشرات الأحوال الجوية في التلفزيون، إذ كان في القرية
جهازي تلفزيون فقط، وبالطبع بالأسود والأبيض، يتجمع الأهالي مناصفةَ في المنزلين
لمشاهدة تلك الآلة العجيبة التي تسمح برؤية الأشخاص وأصواتهم في الوقت ذاته.
كنت أقطع تلك المسافة سيراً، متأبطاً الكتب والدفاتر،
أحملها دون حقيبة، بل "محزومة" بشريط مطّاطي، توفيراً لثمن حقيبة جلدية أو قماشية
كان على الوالد براتبه المتواضع أن يؤمن منها على عديد أولاده. السير الطويل يومياً
لم يكن المسألة الصعبة في حياتي المدرسية بل تقدير حالة الطقس من قبل الوالد الذي
كان ينظر صباحاً إلى الشفق ويقدّر بحسب خبرته "أنو الدني رح تشتّي" ، فكان يعطيني
نصف ليرة إيجار السيارة أدفع ربع ليرة في الذهاب وربع أخرى للإياب، فإذا لم تمطر
كان علي أن اردّ "المبلغ المرقوم" إلى الوالد دونما نقصان حتى ولو إشتهيت شراء لوحِ
من الشوكولا الذي كان إحدى الكماليات التي لا لزوم لها ف "لشو المصروف ال بلا طعمة"
؟، لكن إذا قدرت أرصاده الجوية " انو الدني صاحيي وما بدا تشتّي" فلا يعطيني
شيئاً.. وإذا "شتّت الدني" وجيبي فارغة، فهذه مشكلتي التي علي أنا حلّها بالركض
السريع كي لا أتعرّض للمطر كثيراً فأصاب بالرشح الذي دواؤه الوحيد عند الأم "فنجان
زهورات ساخن وكمور حالك ونام بتعرق وبتصحّ ".
كان "طنّوس الزمتر" رحمه الله، هو السائق الذي يُقِلّنا
في الأيام الماطرة، بسيارته ال بيجو 204 طراز الستينات، وكان "يحشرنا إثنين أو
ثلاثة أولاد على المقعد ذاته، وتوخّياً للكسب، كان صندوق السيارة أيضاً يستقبل
أيضاً تلميذين أو ثلاثة، لكنّ ذلك لم يزعجنا البتّة، لأن كثرة الركاب كانت تخفّض
قيمة الإيجار إلى النصف، فنخبّىء النصف الآخر "خرجية " مستورة لوقت الحاجة، وما
أكثر أوقات الحاجة.
في السبعينات كانت الأحزاب تتنافس في جذب الشبيبة، وكان
الوالد العسكري الطباع يحذّر دائما: "الأحزاب ما بتطعمي خبز" ولحسن حظ جيلي، قررت
وزارة التربية فتح ثانوية رسمية في البلدة، فلمّا "أخذت البريفيه " فرح والدي بإبن
الأربعتعش الذي "أخد الشهادة" و "قوّص بالجفت أربعة ضروب" إبتهاجاً.. ونلت منه
مكافأةً سخيّة : ليرة لبنانية كاملة نقداً وعدّاً قضيت ثلاثة أشهر الصيف وأنا
"أبعزق" بالمصروف إستعداداً للمرحلة الثانوية.
إن ما ميّز المرحلة التكميلية كان تجميع المدارس في
البلدة في مدرسةٍ واحدة لحضور عروض عسكرية تقيمها كتيبة المغاوير بقيادة النقيب
مخول حاكمه "إبن الضيعة": الزحف على الحبال، أكل الأفاعي، القتال وجهاً لوجه و
الهبوط من الطوافة.. كلها عروض أثارت إعجاب التلامذة لكن الذي ميّز تلك العروض
بنظري كان إطلاق النار من قبل أحد العسكريين بإتجاه رفيقه الذي لم يمت حتى لم يُصب
باي أذى، فالتفتت إلى أحد الرفاق مذهولاً : "شفت ؟ قوّصو تلاتين ضرب وما مات"
فالمغوار لا يموت، ولم أكن أعرف آنذاك أن الخرطوش خُلّبياً، وأدركت لاحقاً أن
المغوار هو أول من يموت..
لا زلت أذكر خلال المعارك بين الجيش والمنظمات
الفلسطينية في العام 1973 وبعد إحتلال مركز الأمن العام في وادي خالد من قبل
المسلحين كيف أن أهالي البلدة تداعوا بقيادة رئيس البلدية وحملوا بنادقهم الحربية
ال 36 ( البندقية الفرنسية المصنوعة العام 1936 ) وقصدوا ثكنة عندقت، وكنت قد "حشرت
حالي" بين الكبار، وقابلوا الضابط المسؤول واضعين أنفسهم بتصرفه: أأمرنا Mon
Lieutenant
قالها رئيس البلدية لذلك الضابط "بنجمة واحدة" ، فعظم
هذا الضابط بعيني كون البلدة بشبابها وشيبها وضعت نفسها بتصرفه، وفي تلك الليلة لم
أنم، بل بقيت أحلم بهذا الملازم القصير القامة اشقر الشعر، فقلت لوالدي: بكرا بس
أنجح بال Terminal بدي أعمل ملازم.
لم يجب الوالد بل إكتفى بهزّ رأسه لا مبالياً كأني به
يدرك مصيري الذي كنت احلم به صغيراً .
**********
Top
هذا أنا جورج نادر.. عمق الالتزام بالارض والوطن
- الحلقة الثالثة
30 ك1 2015
ليبانون ديبايت - الحلقة الثالثة من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
المرحلة الثانوية تختلف عن سابقاتها، الثانوية تبعد أكثر
من 3 كلم عن المنزل، والذهاب والإياب سيرا" هو السمة المشتركة مع المرحلة
التكميلية، كذلك "الخرجية" التي لم ترتفع قيمتها مع إرتفاع المرتبة التعليمية
والعمر، "والخرجية" لا تتعدّى الليرة الواحدة في أحسن الأحوال، وتمنح لمدّة أسبوعين
وثلاث، وكان علي "تزبيط" المصروف بحسب قيمة ما يتيسّر من جيب الوالد الذي كان يكدح
في الأرض، "ينقبها" يزرع القمح والكرمة، والخضار في الصيف "بعل" (أي بدون ري) وكان
علي أن "أطلِّع خرجيتي" من بيع البندورة واللوبية "المسلّات".
لا زلت أذكر كيف كان يغريني بالعمل معه في الحقل بأن
"يعطيني أربع ضروب بالجفت" على أن أنقل عدة العمل: المعول، ويسمّى "المعدور"
والرفش، و"العتلة" أي المخل ..، وذلك من المنزل صعوداً حتى تلّة "الحميرة" حتى كاد
"ينقطع" ضهري من الثقل والتعب .
"إزا بتنكش كل يوم ع قد المساحا اللي بتقعد عليها بتكون
طلّعت يوميتك"، و"اليومية " هي إيجار عمل نهار كامل للعامل.
سألت عن قيمة ال "يومية" فكانت ليرة واحدة مبلغ حرزان كي
تعب لأجل الحصول عليه، ولو " بدو ينكسر ضهري بدي طلع ليرة " . عملت في اليوم التالي
بكل ما أوتيت من قوة لأنكش بحجم المساحة التي أجلس عليها، ثم طالبت والدي باليومية.
فضحك وأجاب: "بكرا بتقبضها بس تكبر."
أشكره وهو في الدنيا الآخرة على أنه زرع في نفسي محبّة
الأرض وعمق الإلتزام بها وبالتالي بالأرض الأكبر: الوطن.
أذكر "نهفةً" حصلت معي في أثناء العمل مع الوالد في
الأرض التي أورثني إياها مع إخوتي وأخواتي:
الألقاب تطغى على الأسماء، فهناك عائلة "الشالح" أي
الراهب الذي "شلح" ثوب الرهبنة، وبيت "بو طحين" و "بو كشك" و "الصوص" و "الطير" و
"الشطيط" و "الزليط" .. ألقاب نسينا أسماء أصحابها .. لكن لقب جارنا في "حفّة
الخيمة" يختلف عن كل الألقاب الدارجة في القرية، إنه يلقّب بكل بساطة ...... :
"الضبع .
نفذت أوراق السجائر مع والدي الذي يدخّن "عربي لفّ"
فناداني: "روح لعند الضبع وقلّو يعطيك ورقتين سيجارا.
"الضبع" الجار رجل طويل القامة، أسمر الجبهة، يده غليظة
بحجم وجهي بالكامل، يحمل المعول في يده كأنّه "قضبونة" أي قضيب صغير.
- "عمّو الضبع بيقلك بيي ت تبعتلو ورقتين سيجارا."
- "يلعن أبوك عكروت، أبن مين أنت ولاه."
لما رجعت بالورقتين، وكنت أرتجف كالورقة خوفاً من
"الضبع."
لاحظ والدي خوفي : "عيّط عليي وكان بدّو يضربني ."
- لماذا ؟ فأخبرته ما قلت للجار اللطيف، فصرخ الوالد :
"يا عيب الشوم عليك كيف بتقلّو الضبع، ما اسمو طنّوس ساسين."
في الثانوية الأحزاب اللبنانية راحت تجتذب الشباب:
الكتائب اللبنانية، الوطنيون الأحرار، الشيوعي، القومي .. لكن وصيّة الوالد، وأوامر
الأخ الأكبر "عبدالله" الذي يخدم في قوى الأمن الداخلي واضحة: "شو بدك بالأحزاب
دروس وتعلّم هيدا اللي بينفعك" وهكذا كان: درست وتعلّمت وإنتفعت.
الذهاب إلى الثانوية في "الهواء الشرقي" كان أشبه
بعقوبةٍ فُرِضت علينا بدون أن نعرف ما هي المخالفة: هواء قارس يهبّ في شهري كانون
الأول والثاني بقوّة وسرعة حتى كان يدفعنا تراجعاً مع أننا كنّا نلبس الكوفية
الفلسطينية "الشملة" التي تلفّ الرأس والعنق والأكتاف ولا يبقى إلا الأعين للنظر.
إتفقنا يوماً "بوطة الزعران" أن نأتي إلى المدرسة على
ظهور الحمير التي ندُر وجودها، فرُبِطت الحمير الستة مكان سيارت الأساتذة في
المواقف المخصّصة لها، فلنتصوّر غضب ألأساتذة الذين فوجئوا بالحمير تحتلّ مواقف
سياراتهم .. والنتيجة: طرد "مجموعة المشاغبين لمدّة يومين ليتعلّمو التهذيب وإحترام
الأساتذة."
في نهاية المرحلة الثانوية، إندلعت الحرب المسمّاة أهلية ( 1975- 1976)، وتقطّعت
أوصال الوطن وكانت أخبار القتل والتهجير تحتلّ المساحات الإعلامية اليومية
للتلفزيون والراديو (لم يكن من قنوات تلفزيونية آنذاك إلا تلفزيون لبنان وإذاعة
لبنان من بيروت) . "قِسمة الجيش" كانت الضربة القاضية، الأمهات تنتظرن أخبار
أولادهن وأزواجهن العسكريين المنتشرين في وحدات وثكنات لا يمكن الإتصال بها، فلا
هاتف، ولا كهرباء، والذهاب خارج البلدة ضرب من الجنون. أحد عشر عسكرياً من ابناء
البلدة خُطِفوا وقُتِلوا وهم في طريقهم إلى ذويهم. الرجال والنساء يتسمّرون أمام
الراديو لتنسّم أخبار "الشباب" والإطمئنان على أن اسماءهم لم تُذكر في عداد
الضحايا.
هُجِّرت قرية "بيت ملات" العكارية، ثم "دير جنين" ف "تل
عبّاس" و "رحبة" و "منجز" .. وكنا نسمع أخبار القتل وتشريد الأهالي وتدمير البيوت
وسرقة محتوياتها وحرقها، وإتلاف الحقول والمزروعات. وننتظر أن "يأتي دورنا" .
نُظِّمت أعمال الدفاع عن بلدتي القبيات وعندقت من قبل العسكريين المتقاعدين وبعض
الذين في الخدمة الفعلية، فإنتظم الشباب ضمن مجموعات قتالية يرأس كل منها رتيب
متقاعد ذو خبرة عسكرية، فكان يمارس الإمرة كما لو أنه في الخدمة الفعلية وكنّا
نطيع، لعلمنا أن هؤلاء العسكريين ملمّين بالأمور العملانية ويدركون ما يفعلون، فكيف
إذا كانوا بعمر الوالد، عندها يقتضي رفع مستوى الطاعة "العسكرية" إلى مستوى
الإحترام للكبار الذي تربينا عليه منذ الصِغر.
كنت يافعاً ومتحمّساً للدفاع عن بلدتي، أقاتل مع
"الشباب" على تخوم القرية مسلّحين من تنظيمات وأحزاب مختلفة بالإضافة إلى ما سُمِّي
آنذاك ب "جيش لبنان العربي"، لحوالي الثمانية أشهر من الحصار المحكم والقتال شبه
اليومي، وصمدت البلدتان بالرغم من الشحّ في الذخائر .. وفي المواد الغذائية، ولولا
"المونة" وحسن التدبير لدى النساء المناضلات لمات بعضنا جوعاً او خوفاً من الجوع ..
صمدت البلدتان حتى دخول ما سُمِّي آنذاك ب " قوات الردع
العربية " في شهر حزيران من العام 1976 .
نجحت في شهادة البكالوريا القسم الثاني وبدأ حلم ال Mon
Lieutenant والمغوار الذي لا يموت ...
********
Top
هذا أنا جورج نادر.. تحقيق حلم الـ"Mon
Lieutenant" - الحلقة الرابعة
6 ك2 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الرابعة من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
الشخص الوحيد في العائلة الذي عارض إختياري المدرسة
الحربية كان والدي العسكري.
- " ما تروح يا بيي وتتركني ، أخواتك راحو ع الجيش خلّيك
حدّي هون "
- " أخواتي عسكريي بس انا بدي أعمل ضابط "
- " طز .. أنت رح تتعب كتير ببيروت لأنك آدمي وبتشتغل من
قلبك، خليك حدّي وبشتريلك جفت جديد وبتعمل معلم مدرسي " .
لم تفلح محاولاته في ثنيي عن تقرير مصيري، قبّلت اليد التي ربّتني، ولثمت يد
الوالدة التي مسحت دمعتها: "ألله يرضى عليك يا امي، إنتبه ع حالك ".
خلال إمتحان الدخول إلى المدرسة الحربية تجتاحني الرهبة،
وأذكر في إمتحان "المثول أمام اللجنة الفاحصة" أن طُرِح علي سؤال من قبل رئيس
اللجنة :
" إنّا لله وإنا إليه راجعون "لماذا راجعون وليس راجعين؟
طُرِح هذا السؤآل على أكثر من متبارٍ، وكانت الأجوبة كلها ...خاطئة “.
- راجعون هي خبر إن، وخبر إن مرفوع ، والكلمة هي "إننا
لله وإننا إليه راجعون " ...
- " برافو عليك.... فلّ من هون. "
نجحت في المدرسة الحربية وإلتحقت بها بصفة تلميذ ضابط في 22 أيلول من العام 1980.
في تلك الحقبة، كان الوطنُ ممزّقاً: "إسرائيل" تحتلّ
قسماً من الجنوب، سوريا تحتلّ الشمال والبقاع وقسم من جبل لبنان تحت مسمّى قوات
الردع العربية، والعاصمة مقسّمة بين شرقية وغربية، ميليشيات الطوائف والمذاهب
تتنازع السيطرة على مناطق النفوذ بإسم الدين والخوف والتخويف من الآخر، وفي
الحقيقة، لم يكن للدولة من بقعة تسيطر عليها إلا محيط وزارة الدفاع ...
في هذا المشهد المؤلم والمُحبِط إلتحقت بالمدرسة الحربية ثائراً على واقع سياسي
وعسكري مريع، حالماً بوطنٍ حرّ من الإحتلالات، يحميه جيشه، وجيشه فقط، وتكون
بندقيته هي السلاح الأوحد على كامل تراب الوطن .. لكن، شتّان ما بين الحلمِ والواقع
...
في الليلة الأولى في مبنى "سمير الشرتوني" لم أنم
إطلاقاً، كنت أتقلّب من جنبٍ إلى آخر محاولاً النوم، وأحسست بالبرد في رأسي كون
شعري كان "مقصوصاً ع الصفر"، القلق إستبدّ بي ورحت أفكر وأحلّل هذه الخطوة "هل
أقدمت على الخيار الصائب؟ هل لو" سمعت من ابي أما كان الجفت الجديد في كتفي أذهب
إلى الصيد ساعة أشاء، وكنت "عملت معلّم مدرسي" ك ريمون إبن عمي، أنام في منزلي وبين
أهلي كل يوم، وليس مع أناسٍ أجهلهم "وكل واحد ما معروفي قرعة بيو من وين" ؟؟
لكن ألم أكن أحلم منذ الطفولة بأل " Mon Lieutenant "
والمغوار الذي لا يموت ؟ كيف أحقّق المبتغى وأنا "مزروب" في الضيعة "وجي ووج الناس
ذاتن ؟؟ "
حاولت النوم مراراً، لكن جفونَ الشاب الحالم لم تغمض
البتّة.
نظام المدرسة الحربية قاسٍ وجامد، كنت أخالف التعليمات
الرتيبة فأحصل على الحجوزات في نهاية الأسبوع، ومراراً عدّة، كان الرفاق
"الإنضباطيون" يخرجون بمأذونياتهم في الويك أند، بينما كنت أقبع مع بعض "المحجوزين"
الفوضويين ضمن جدران الثكنة، أطالع، أقرأ، أمارس الرياضة تقطيعاً للوقت الذي يمرّ
ثقيلاً جداً دون تدريب.
في فترة الحجز القانوني، اي الفترة التي يبقى فيها
التلامذة الضباط إثر دخولهم المدرسة دون مأذونيات ويمنع عليهم مقابلة اي كان من
خارج الثكنة، إذا بأحد الرفاق يهمس في أذني كي لا يسمعه أحد: "بيّك ع المدخل ".
كان الوالد يتجادل مع آمر الحرس: "بدي أبني ما بدي ياه
يروح ع الجيش مش حرّ أنا؟ " ومن بعيد أومأت له بأن ينصرف، لكنّه ناداني بالصوت
العالي: "ضبّ تيابك ورجاع معي يا بيي. "
تركت الوالد وفي قلبي غصّة على "كسفه" بهذا الشكل، لكن
النظام لا يرحم .
"عشرين برمي بالفوج الرابع والساك ع ضهرك، والكاسك ع
راسك" أي علي الركض عشرين دورة في ملعب الفياضية وعلى رأسي الخوذة الحديدية وحقيبة
الضهر، هذه أوامر النقيب "نعيم فرح" مدرّب السنة الأولى، عقوبتي لأنني "واجهت أهلي"
خلافاً للنظام.
أكثر ما كان يوجعني ويحزّ في نفسي هو "تمنّي" الضباط
المدربين بعدم إرتداء البزة العسكرية خلال المأذونيات "حرصاً" على حياتنا، فلا سلطة
للجيش خارج أسوار الثكنات، لكنني كنت أرفض دائماً هذا "التمنّي" وأرتدي اللباس
العسكري خارج الثكنة "نكايةً بيللي ما بيعجبو" لأنني كنت أشعر في قرارة نفسي، وعن
قناعةٍ راسخة بأن البزّة التي حلِمت يافعاً بإرتدائها، هي رداء الشرف في وطنٍ تسيطر
عليه "بزّات" جيوش الإحتلالات والميليشيات التي مزّقت الوطن أشلاء ودمّرت نسيجه
الإجتماعي.
بالرغم من معارضته المبدئية على إنخراطي بالمدرسة
الحربية، كان الوالد فخوراً بي، أمضى في الجيش ٢٥ سنة وغادر المؤسسة برتبة رقيب مع
أنّه كان أمّياً عند التطوّع، إختصاصه هندسة، خدم في سوريا في "جبل الدروز" إبّان
فترة الإنتداب، وقاتل مع قوات "فيشي" ضد قوات الحلفاء وفرنسا الحرّة بقيادة الجنرال
"ديغول" ثم إختيارياً في ليبيا مع القوات الفرنسية ( De Gaulliste ) ، وبعد قيام
"دولة إسرائيل" قاتل في صفوف الجيش الوطني في معركة "المالكية" (١٩٤٨) التي
إستعادها الجيش من عصابات "الهاجاناه" اليهودية ، قبل أن ينسحب منها ، لأن وحدات ما
سُمّي آنذاك ب "جيش الإنقاذ" العربي لم تنفّذ المهام الموكولة لها فبقيت وحدات
الجيش اللبناني الفتي وحدها، مما إضطرّها إلى الإنسحاب .
عندما كنت "أمسح" حذائي العسكري " لتلميعه " كنت أمسح
حذاءه أيضاً ، فيعترض: "كيف أنت ضابط وبتمسح صبّاط رقيب".
قرب نهاية السنة الثانية، إجتاح جيش العدو الإسرائيلي
جنوب الوطن ووصلت طلائع قواته إلى العاصمة، فإحتلها وكم آلمني مشاهد أرتال دباباته
وملالاته تجوب الشوارع في المدن والأحياء، "تتمختر" كأنها في تل أبيب، والذي أحبط
معنوياتي ، لكنه زاد النقمة والثورة في داخلي، هو عدم قدرة الجيش اليافع (الذي أعيد
بناؤه العام 1977) على الدفاع أمام جحافل عدوٍ عجزت الجيوش العربية مجتمعةً على
التصدّي له، لكن تبقى في هذا الجيش ومضات عزِّ وشرف، فإستشهد جنديان (العريف حسين
جعفر والعريف قاسم سعيد) أمام مدخل وزارة الدفاع محاولين ببندقيتهما منع رتلِ من
دبابات العدو من الدخول إلى مبنى الوزارة، وكأني بهما يعلنان للعالم أن مقاومة
الإحتلال تحتاج إلى إرادة القتال، وكل ما يلزمها من وسائل بشرية ومادية، لا بدّ وأن
تحصل عليه إذا توافرت هذه الإرادة، فكان إستشهادهما نذير المقاومة اللبنانية ضدّ
الإحتلال الإسرائيلي.
في تلك المرحلة ، خُيِّر التلامذة الضباط في السنة
الثانية إنتقاء الإختصاص في أسلحة الجيش ( مشاة ، مدرعات ، مدفعية ، هندسة ، إشارة
ونقل ) فأخترت مع زميلي الذي أحببته دائماً بسام جرجي إختصاص المشاة وكان علينا
ملىء إستمارة بإنتقاء ثلاثة إختصاصات بالأفضلية، فإخترنا سوية المشاة كخيارِ أول ثم
كخيار ثان وثالث، فأنّبنا الضابط المدرّب بأنه علينا إنتقاء الإختصاصات الثلاث
مغايرة، فسألني بسام "شو اللي بيقوص أكتر شي غير المشاة ؟" فأجبته: المدرعات،
فإخترنا: مشاة، مدرعات... مشاة.
وعلا صراخ المدرب مهدّدا بالعقاب، فكتبنا مرغمين: مشاة،
مدرعات، مدفعية... وإختير بسام للمشاة بينما إخترت للمدرعات لنفترق في السنة
الثالثة كلُّ إلى إختصاصه.
تخرجنا في السادس من ايار العام 1983 ، قبل موعد التخرّج
التقليدي الأول من آب، وذلك للحاجة إلى الضباط الأحداث كون الجيش قد كَلف حفظ الأمن
في أعقاب إنسحاب جيش العدو من بيروت وضواحيها وكذلك المنظمات الفلسطينية، وتفرّق
رفاق الدورة ال 189 كلُ إلى القطعة التي شَكل إليها، وكانت المهمة الأولى لي في
منطقة ال "مازدا" في عين الرمانة .
*********
Top
هذا انا جورج نادر.. المهمة الاولى واتخاذ
القرار الصعب - الحلقة الخامسة
13 ك2 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الخامسة من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
كنت آنذاك بوضع المأذونية وقد "عزمت" الأهل على الغداء
بمناسبة عيد الميلاد، وبُسِطت المائدة، ولمّا هممنا بالجلوس إذا ب " بيك آب " عسكري
يقف امام المنزل يترجّل منه أحد العسكريين، ما زلت اذكر إسمه : الرقيب "غسان ابو
ضلع" فقال لي: "سيدنا بدو ياك قائد الكتيبة هلق..." ووسط ذهول الأهل والزوجة
وبكائها ( كنت قد تزوّجت باكراً ) إرتديت لباسي العسكري ووضّبت حقيبتي وذهبت مع "
أبو ضلع ".
في مكتب قائد الكتيبة النقيب "عمر العلي" : "في مهمة
بتنفذها ؟"
أجبته على الفور: أكيد.
الا تريد أن تعرف ما هي قبل أن تجيب دون تفكير؟
- بلى لكن دعني أولاً أجهّز العسكريين لكسب الوقت.
ولما عرِف عسكريو الكتيبة أنني سأنفّذ المهمة الأولى
للكتيبة المنشأة حديثاَ ( الكتيبة 94 التابعة للواء المشاة التاسع، واللتي أنهت
لتوّها التدريب مع القوات الفرنسية العاملة في لبنان من ضمن القوات المتعدّدة
الجنسيات : فرنسية، أميركية، بريطانية وإيطالية ) حتى رغب أكثرهم ب " الإنضمام "
إلى فصيلتي..، لكن التعليمات واضحة : الملازم نادر من السرية الأولى ينفّذ بفصيلته.
قال لي قائد الكتيبة بالحرف: "على مستديرة الشفروليه
ناطرك النقيب عباس هزيمة من اللواء السابع، وهوي بيقلك شو لازم تعمل". إنطلقت
فصيلتي المؤلفة من ثلاث مصفّحات "بانهارد" وبلغة العسكر "بنهر" (المصفّحة الفرنسية
نوع AML تصنيع شركة Panhard) وبيك آب لنقل الذخيرة،بالإضافة إلى جيب "الويللس"
الخاص بي كآمر فصيلة، وجَلّ العناصر أحداث في الخدمة: رقباء تخرجوا حديثاً من مدرسة
الرتباء، جنود أغرار أنهوا فترات التدريب الأساسية والنوعية وضابط تخرّج حديثاَ من
المدرسة الحربية، لا خبرة له في القتال إلا ما تلقّنه في المدرسة الحربية ومع
القوات الفرنسية.
إنتقلت الفصيلة في بقعة تجتاحها نيران القذائف من كل
حدبِ وصوب، سيارات تحترق في الشوارع، سيارات الإسعاف التي تقلّ المصابين تسير بسرعة
هائلة، ليس لإنقاذ المصاب وحسب، بل خوفاً من القذائف المدفعية المنهمرة دونما تمييز
بين أهداف عسكرية والمدنيين. أرشدني النقيب هزيمة إلى منطقة في عين الرمّانة تدعى
ال "مازدا " وأشار إلى مجموعة بنايات بإتجاه الشياح قائلاً : " شفت هالبنايات"
إحتلها المسلحون وأنت ستعيدها، ثم عاد إلى حيث لا أدري ...
لاحقاً عرفت أن مهمتي كانت تأمين ميمنة القوى التي
ستهاجم محيط كنيسة مار مخايل في الشياح حيث إحتلّ المسلحون أبنية محيطة بمراكز
الجيش التي سقط بعضها بأيدي مسلحي حركة "أمل" والتنظيمات الموالية لها.
أطرقت لبرهةٍ مفكّراً، الضابط الحدث غير ذي خبرة عسكرية،
جمعت الرتباء الثلاثة آمري الحضائر، وبلّغتهم المهمة، وبقينا معاً نراقب البنايات
التي كلفني احتلالها النقيب هزيمة، فلاحظت أن النار تَطلق من إحداها بإتجاه الأخرى
والعكس مما يدل أنه لا تزال هناك مقاومة من عناصر الجيش على الأقل في إحداها. قلت
للرتيب الأعلى رتبة، وأذكر إسمه "توفيق الصرّاف": انا ذاهب لأتفقّد تلك البناية
فإذا لم أعد بعد عشر دقائق على الأكثر إرمِ بالمصفّحات على الطوابق السفلى وأفِد
قيادة الكتيبة لتتلقّى أوامرك منها...
إنطلقت بجيب "الويللس" برفقة عنصرين إضافة إلى السائق
وبسرعة وصلت إلى مصدر إطلاق النار.
فسمعت أحد الجنود يُقنِع رفيقه بالإنسحاب بينما الآخر
يرفض بعناد :
- " يلا خلينا نروح ما في حدا غيرنا ".
- "خليك هون ولاه، ما تخاف ..." أحدهم يُثبِط عزيمة
الآخر بينما رفيقه يشجّعه ويتّهمه بالجبن والخوف...
صرخت بهما : "مين هون" أجاب أحدهم "الرقيب أول فلان ...
معي الجندي فلان من الكتيبة "74" عرفته عن نفسي، ولما تأكّدت أنهما وحيدان في أتون
النار، بعدما إستشهد من رفاقهما آمر الفصيلة وأربعة عناصر، و "إنسحب الباقون". قلت
لهما أصعدا معي، وعدت مسرعاً إلى مركز فصيلتي.
أخذت هذا القرار لأنني في عتمة الليل لا أعرف المراكز
العسكرية وربّما تسلل بعض المسلحين إلى البناية التي كان فيها العنصران الشجاعان.
وصدق توقّعي، فلم أكد أصل إلى مركز فصيلتي حتى علت الضوضاء والصراخ بنشوة الإنتصار:
دخل المسلحون البناية التي كان يتحصّن فيها الجنديان.
تمركزت المصفّحات الثلاث على صف، وراحت تطلق النار
بإتجاه الطوايق السفلى في البنايات حتى وصلت إلى مداخلها وكان ما تبقى من المسلحين
قد أخلوها وتمركزتُ فيها دفاعياً، وكانت الساعة بعيد منتصف الليل فإتصل بي ضابط من
إحدى الوحدات المجوقلة ( لا أذكر إسم القطعة ) الذي كَلِّف إستعادة مراكز الجيش في
محيط كنيسة مار مخايل، وكم حزنت عندما عرفت في اليوم التالي أن ضابطين من رفاق
دورتي، "فؤاد فرحات وأحمد حيدر" من الكتيبة المجوقلة 103 على ما أظنّ قد إستشهدا في
المعركة، وكانا قد مرّا بي ليلة الأمس كأنهما ذاهبان في نزهة ....( قائد الكتيبة
كان آنذاك النقيب فؤاد خوري مدرّبي في المدرسة الحربية وآمر إحدى السرايا المهاجمة
الملازم أول محمد فهمي).
المرحلة الأصعب في تلك الفترة كانت إنسحاب الجيش من قرى
الشحّار الغربي بطريقة مذلّة، ومن ثم من بيروت المسمّاة غربية، وعادت خطوط التماس
بين شرقية وغربية: في الجهة الشرقية وحدات من اللواءين التاسع والسابع وفي المقابل
مسلحون من تنظيمات مختلفة، وكنت مع فصيلتي في منطقة الأسواق التجارية في بيروت.
*********
Top
هذا انا جورج نادر.. الوطن المشلّع والجيش "
المقسوم " - الحلقة السادسة
20 ك2 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة السادسة من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
حزنتُ جداً لما آلت إليه الحال في الجيش، كنت أختلي
بنفسي مفكّراً، ملازم لم يمضِ على تخرّجه تسعة اشهر، يرى أمام ناظريه وحدات جيشه
الذي حلَم به قوياً مسيطراً، تتقسّم دينياً ومذهبياً على جغرافيا معقّدة، يتنازع
السيطرة عليها كل سلاح غير شرعي وخارج سلطة الدولة. كنت اسمع الأخبار المسيئة
والمؤلمة: عسكريون يتركون وحداتهم العضوية ويلتحقون بوحدات أخرى تناسب مناطق سكنهم.
نصف عديد فصيلتي تقريباً كان من المسلمين، سنة وشيعة (آسف على هذا التعبير لكن
يقتضي توضيح الوقائع) لا أزال أذكر بعضهم: الرقيب عمر فرحات ( أصبح حالياً ضابطاً
برتبة رائد على ما أعتقد) الرقيب محمد الخالد، الجنود: علي سعيفان، على أبو حويلي،
خلدون السحمراني، عمر عبد الحميد، محمد عوض، عادل علالي وآخرون لا تحضرني أسماؤهم،
والعريف المجنّد إبراهيم قصقص. ومع أن مجندي خدمة العلم في اغلب قطع الجيش فرّوا من
الخدمة، ولم يُلاحَقوا قانونياً، بقي مجندان في فصيلتي: أنطوان الشامي وإبراهيم
قصقص اللذان لا يزالان، على تواصل دائم معي حتى اليوم بالإضافة إلى عدة عناصر من
تلك الفصيلة المميّزة والذين أحببتهم كأولادي.
كنت في داخلي أرفض هذا الواقع التقسيمي، وأتألّم عندما
أرى العسكريين المسلمين يقضون فترات إجازاتهم في المركز كونهم لا يستطيعون زيارة
أهاليهم بسبب إنتشار الحواجز المسلّحة في كل المناطق، فألزمت العسكريين المسيحيين
الذين يقطنون "الشرقية" بإصطحاب رفاقهم المسلمين إلى بيوتهم "لتغيير الجو"
ومشاركتهم الطعام البيتي والإستحمام وغسيل الثياب.. وقضاء فترة المأذونية، وهكذا
كان: بقيت تلك الفصيلة الصغيرة بعناصرها الخمس وعشرون، أنموذجاً للجيش الذي طالما
حلمت به.
وللدلالة على متانة العلاقة وقوة الإلتزام بين عناصر
الفصيلة، أروي ما حصل مع أحد الجنود ويدعى " سيمون لحود ":
خلال رمي أحد مراكز المسلحين بالمصفّحة، إرتكب خطأً كاد
أن يعطّل مدفع المصفّحة، فصرخت به، ووجّهت له كلاماً نابياً ( للأسف لم أستطع ضبط
أعصابي آنذاك ) وأرسلته ليلتحق بمجموعة الإحتياط المتمركزة تحت جسر " شارل حلو "
كعقوبة له. بعد عشر دقائق ناداني رتيب الفصيلة : "سيدنا.. عجّل.. لحود رح يموت ".
كان الجندي لحود يبكي ويشهق بنفسٍ متقطّع كأنه الحشرجة،
لأنه شعر بالمهانة، ليس للكلام الذي وجّهته له، بل كونه سيكون "بلا قيمي تحت الجسر"
فهو وُجِد ليقاتل مع رفاقه لا "ليختبىء كالفأر" بحسب تعبيره.
أحد العسكريين ويدعى "ميلاد الحاصباني" من دير ميماس في
الجنوب المحتلّ من قبل العدو الإسرائيلي، لم يكن ليذهب إلى اي مكان آخر، فلا أقرباء
له ولا أصدقاء في المنطقة، فـ "منحته" مأذونية شهر إلى بلدته حيث ذهب إليها
بالباخرة من مرفأ بيروت وحتى مرفأ الجية، ومن ثم كان أحد الأقرباء يوصله إلى ذويه
ومن ثم يعيده بالطريقة ذاتها (لم يكن لي الحق بمنح المأذونيات كوني آمر فصيلة،
وفترة الشهر يمنحها قائد الكتيبة وحده، لكنني تحمّلت مسؤولية غياب الجندي لما كان
يعاني من بعده عن أهله وإنقطاع الإتصال معهم).
يخطرني طرفةً حصلت معي في تلك الفترة : كنا، في بناية
"فتّال" عناصر الفصيلة وأنا نتسامر في إحدى الليالي الهادئة نسبياً، وإذا بأحدهم،
كهلَ خمسيني يلبس بزة الجيش الفرنسي القديمة بلون الكاكي والأزرار المعدنية يدخل..،
فوضعت مسدّسي على وضع النار تحسّباً، لكن دخول الجندي "داني الفغالي"، الخفير
المولج بالحراسة، وراء الرجل مشيراً بيده على أنه سكران ومختلَ عقلياً، أعاد إلي
الطمأنينة.
إنه " السرجنت بيزنط " كما يسمّي نفسه، حاملاً ماسورة
قياس وقلماً ودفتر، فقاس أحد العسكريين وقرأ : الطول 178 سم.
- شو اسمك ؟
- جوزيف الهاشم، سجّل الإسم: جوزيف الهاشم، والطول: 178
سم
- فسأله أحد العسكريين: "شو بتشتغل يا عمّ؟
- "نجّار توابيت، ما بدّي أتفاجأ فيكن بكرا"
وإنفجر بعض العسكريين بالضحك بينما وجم الآخرون عابسين
"لانّه يفوّل عليهم" أي ينذرهم بالشؤم، لكنّهم أمضوا تلك الليلة وال" سرجنت بيزنط "
يقصّ عليهم أخبار طرائفه وجولاته العالمية.
أحب أن أروي حادثة إنسانية حصلت مع ذوي أحد العسكريين
الأحداث:
من عناصر فصيلتي في الأسواق التجارية الجندي جورج القسيس
من بلدة "رحبة" العكّارية، "كبّر" هويته ليتسنّى له التطوع في الجيش، كان طفلاً
بالشكل والصوت، إنما كان شجاعاً مندفعاً إلى حدود التهوّر. عند إندلاع معارك
الأسواق التجارية لم يكن يتعدّى الستة عشر عاماً (عمره الفعلي وليس بحسب بطاقته
العسكرية " المكبّرة " ثلاث أو أربع سنوات). في أحد الأيام الهادئة قتالياً فوجئت
بوالده ووالدته يزورانني في المركز المتقدّم. والدته مريضة بحاجة إلى إجراء عملية
جراحية مستعجلة، والوالد فقير الحال، وإبنها البكر جورج لم يتقدّم بطلب منح والديه
بطاقة خدمات إجتماعية تخوّلهما الإستشفاء والطبابة على نفقة الجيش، مع أن ذلك حقَّ
له.
- " ليش ما عملت طلب ل أهلك؟ " سألته بغضب ..
- "بستحي" أجابني بصوتِ خافت خجول..
على الفور نظّمت له الطلب ووقّعته من آمر السرية فقائد الكتيبة، وباليد إلى مكتب
قائد اللواء، ثم في اليوم التالي كان على طاولة الرائد" سمير الشويري " في قيادة
الجيش - مديرية الأفراد.
- يا ملازم ، ما بيحقلك تاخد الطلب باليد هيدي عمليي
إداريي طويلي مش ع زوقك "
- "صحيح سيدي لكن والدة الجندي بحالة صحية حرجة ولا
تحتمل التأجيل"
نظر الرائد شويري ( الله يوجّهلو الخير ) بتمعّن وقال: "
لأنك بتحبّ عسكريتك رح امضيلك البطاقا مع انو ما بيحقّلك ".
المُحزِن، انه خلال خمسة أعوام لم أرى هذا الجندي إذ
شُكِّلت إلى فوج المغاوير في مطلع العام 1985،
تحديداً 12/1/ 1985، و في العام 1990 خلال المعارك بين
الجيش وميليشيا القوات اللبنانية، أخبرني أحدهم بإستشهاد الرقيب أول جورج القسيس
وعسكريين إثنين من فصيلتي كنت أحبّهما كثيراً: ميشال حنّا، والياس خير الله الذي
كان رفاقه يلقّبونه "الببّور"، حزنت كثيراً لخسارة اولئك الشباب الشجعان، لكن
الحياة العسكرية، خصوصاً في اثناء القتال، تجعل من كل جندي مشروع شهيد.
تشكيلي إلى فوج المغاوير كان "تأديبياَ"، ولماذا ؟
لأنني أوقفت على الحاجز في منطقة "الرينغ" موكب الرئيس
كامل الأسعد.. ونعم التأديب..
********
Top
هذا أنا جورج نادر.. فوج المغاوير والبطل الذي
لا يموت - الحلقة السابعة
27 ك2 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة السابعة من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
شُكلت إلى فوج المغاوير بموجب أمر صادر عن مديرية
الأفراد على ورقة صغيرة :
يُطلب إليكم أخذ الملازم جورج نادر من لواء المشاة
التاسع الكتيبة 94، في عداد قطعتكم ريثما تصدر تشكيلات بذلك.
اليرزة في .../1/1985
المقدم موظايا مدير الأفراد
وهو العميد الركن شامل موظايا النائب السابق.
أنشىء فوج المغاوير في العام 1966، وسُمّي كتيبة
المغاوير الأولى، وكان نواة القوات الخاصة في الجيش، خضع لتدريبات قاسية وكان
عناصره يلفتون النظر باللباس المرقّط والبيريه السوداء، لتمييزهم عن باقي وحدات
الجيش التي كانت ترتدي اللباس " السادة " باللون الأخضر. وبعد إندلاع الحرب
المسمّاة أهلية وإعادة "توحيد الجيش" في العام 1977، أُلغي فوج المغاوير وتأسست
مجموعة "مكافحة الإرهاب والتجسّس" التي تتبع لمديرية المخابرات (لا تزال حتى اليوم
وتسمّى إختصاراً : "المكافحة") وأكثر عناصرها من عسكريي فوج المغاوير السابق.
أُعيد إنشاء الفوج نهاية العام 1984 وعند تشكيلي إليه
كان يخدم فيه نخبة من رفاق الدورة: بسام جرجي، ميلاد النداف، شامل روكز، بسام عيسى،
أنطوان بشعلاني، جورج خميس، آمرو فصائل قتال، وجورج شريم وجورج النغيوي وغازي
الخوري، ضباط من الدورة 1982، وأنطوان أبي سمرا، شربل الفغالي وحليم الفغالي (دورة
1980) عسكريون متحفزون دائماَ، أحببتهم كلهم ولم أزل، لكن الأحبّ إلى قلبي كان بسام
الصديق القديم الجديد.
فوج المغاوير كان أشبه بجمهورية عسكرية مستقلّة، الثكنة
تعجّ بالعسكريين الأشدّاء، إنما الفوضويين الذين يتفلّتون من التعليمات والأنظمة في
كل سانحة باللباس والتقيّد بالتوقيتات والإنضباط داخل وخارج الثكنة.. ألخ، شَكلت
ضمن الفوج إلى سرية المدرعات وآلياتها " البانهارد " الأنموذج الجديد 1983، ولخبرتي
بتلك المصفّحات في الكتيبة 94، إبتدأ تدريب السرية وإستلمت إمرتها لمدّة سبع سنوات
متواصلة، فكنت أحفظ اسماء العسكريين وفئات الدم وأسماء الأهل والزوجة والأولاد، صرت
أعرف مشاكلهم وحاجاتهم، و "صرنا نفهم ع بعضنا من تطليعة ".
إشتركت السرية في معارك عدّة: راس النبع 1985، الدوّار
1986، أفقا 1986، أدما 1990 والتي كانت أقساها وأشدّها ضراوة بين الجيش وميليشيا
القوات اللبنانية. وشرق صيدا 1991. وبعد تشكيلي من الفوج بقيت تلك السرية متراصّة
كما كانت، ولا زال عدد كبير من عناصرها واغلبهم قد تقاعدوا من الجيش، على تواصل
دائم، حتى انهم شكلوا " غروب ع الواتس آب، وأشركوني معهم".
للدلالة على عمق العلاقات التي كانت تربط ضباط الفوج
ببعضهم، والضباط بالرتباء والأفراد، والحال شبه المتفلّتة من القوانين والتعليمات
الرتيبة، أروي إحدى الطرفات التي حصلت بيني وبين صديقي بسام جرجي:
عدنا من درس في قراءة الخرائط بعد منتصف الليل وكنا
متعبين للغاية، ورمينا كل بنفسه حتى دون خلع الثياب، على السرير الحديدي في الغرفة
ذاتها، وبالكاد نزعنا من الأرجل حذاء الرنجر، وكان النور مضاءَ، قلت ل بسام:
- "قوم طفّي الضو"
- "قوم أنت يا ..."
- " أنقبر أنت قوم وخلصني بقا " فلم يتحرّك، عندها
تناولت مسدّسي واطلقت طلقة واحدة على "اللمبة" فإنطفأ النور من غير عناء.. لكن تلك
الطلقة أشعلت الثكنة، فهرع الجميع إلى الغرفة المشتركة خائفين من حصول أمر كريه،
لكن بعد التأكّد أن إطلاق النار كان "عناداَ وقيام كلمة" ضحك العسكريون وقالوا
لبعضهم البعض "معقول؟ بيمنعونا نتخانق مع بعضنا وهني بيقوّصوا ع اللمبة بنصّ
القوضا، شو هالضباط هودي!"
كان بسام، وأكثر الرفاق عزّب، يبيتون في الثكنة بشكل
متواصل، فلا ماذونيات ولا علاقات إجتماعية، بل الخروج لساعات معدودة ل" شم الهوا "
ثم العودة إلى الثكنة.
تشاركت الغرفة ذاتها مع بسام، مع أننا إستلمنا إمرة
سرايا القتال مما يقتضي الإنفراد كل في مكتبه، لكن فضّلنا البقاء سويةً حتى تلقينا
من أمر قائد الفوج: كلَّ في مكتبه..
الملازم أول أنطوان أبو سمرا آمر السرية الثانية شُكِّل
إلى "القوة الضاربة" في مديرية المخابرات، فتنافسنا بسام وانا على حيازة مكتبه
الخشبي المصنوع من السنديان (مكاتبنا كانت حديدية متشابهة لذلك كنا "نستحلي" مكتب
الملازم أول أبي سمرا )
- "لمين بدك تترك المكتب"؟
- ل جورج "أنت واحد عكروت ما بتحافظ عليه بتجيب صاحباتك
لهون و... ع المكتب"
- "لا أنا بدي آخدو"
المكتب المصنوع من خشب السنديان تمركز في غرفتي ، لكن
لمدّة 14 ساعة فقط حيث دخلت الغرفة صبيحة اليوم التالي لأجد باب الغرفة " مخلوعاً "
والمكتب الخشبي ليس فيه.
"خلعت " مكتب بسام وإستردّيت مكتبي المسلوب، وبقيت أبواب
الغرف خلال أسبوعين "مخلّعة" مشلعة ليستقرّ المكتب الخشبي في غرفتي. ولا زال
يذكّرني بأحبّ الذين رحلوا وكانوا فخر الجيش والوطن.
من الحوادث الأليمة التي حصلت في فوج المغاوير ، معركة
رأس النبع في العام 1985.
كنت آمر فصيلة في سرية المدرعات وبسام آمر فصيلة في سرية
قتال مشاة، زارنا ذات ليلة النقيب سعيد يمين قائد الكتيبة 83 (على ما أظنّ )
وبرفقته الملازم أول الياس ابي راشد من الكتيبة 94، وكانت القوى بتصرف النقيب يمين،
وأصرّ على تجربة "الناضور" على بندقيته، فإقترح الملازم جرجي البناية 11 (ذات
الطوابق الأحد عشر). أرسل النقيب يمين أحد مرافقيه لإبلاغ خفير المغاوير (الذي يتبع
لسرية بسام) أننا في البناية 11، ولما فَتِح باب المصعد وأضيىء مدخل البناية، أطلق
الخفير رشقاً من رشاشه فأصيب الملازم أول ابي راشد برصاصة في عنقه، لم تمضِ دقائق
حتى إستَشهد في مستشفى أوتيل ديو، وتبيّن أن مرافق النقيب يمين لم يبلغ الخفير
المعني العريف "مارون بدر"، بل بلغ خفيراَ آخر يراقب الجبهة لجهة أخرى.
إستشهاد ضابط عن طريق الخطأ، يحتّم إجراء تحقيق أجرته
مديرية المخابرات، لكن المفارقة أنه بعد خمس سنوات، إستشهد كل من الرائد سعيد يمين
بتاريخ 17 شباط 1990 خلال المعارك مع ميليشيا القوات اللبنانية في بياقوت بقذيفة
مدفعية، والنقيب بسام جرجي في التاريخ والتوقيت ذاته في أدما بقذيفة مدفعية، بينما
كان قد أصيب الرقيب مارون بدر (الخفير الذي أطلق النار) منذ شهر في معارك ضبيه عام
1990 وبَتِرت ساقه.. يا لها من مصادفة محزنة خسرت فيها أحبّ الناس إلى قلبي.
*******
هذا انا جورج نادر..
ذكريات المغاوير: منها الأليمة وأخرى رائعة - الحلقة الثامنة
3 شباط 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثامنة من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
الحياة العسكرية في ثكنة "غسان رمان " (1) التابعة لفوج
المغاوير، لا تشبه أي مكان آخر، فهي ليست رتيبة مملّة. الفوج هو إحتياط القيادة،
يقتضي بقاؤه في وضع الجهوز الدائم: العناصر، الآليات، السلاح والذخائر الموضّبة في
الملالات والمصفّحات، إرادة القتال المتوثّبة عند العسكريين وضباطهم جعلت من الفوج
خلية تدريبية دائمة: دورات تنشئة مغوار، رماة على المصفّحات، سائقو الملالات، سدنة
أسلحة الدعم من هواوين 120 ملم و 81 ملم ومدافع 106 ملم، التدريب الإجمالي
للسرايا.. ألخ
الإلفة بين الضباط شملت عائلاتهم أيضاً، قائد الفوج
المقدّم "جهاد شاهين" مغوار من الرعيل الأول (١٩٨٦ ـ ١٩٩١)، يغتنم أيام الهدوء
النسبي على الجبهات ويدعو الضباط وعائلاتهم إلى العشاء في مطعم خارج محيط الثكنة،
توطّدت أواصر الصداقة حتى بين العسكريين فكان الفرد للمجموع والمجموع للفرد.. عصبية
القطعة والزهو والفخر بالإنتماء إلى وحدات النخبة.
خلال الأعوام 1984 وحتى 1988 كانت جبهة سوق الغرب وضهر
الوحش يحميها لواء مؤلل يتناوب على الإنتشار فيها الألوية: الخامس والثامن والعاشر،
ووُضِعت سرية مغاوير في سوق الغرب إحتياط الجبهة.
أحبّ ان أروي إحدى الطرائف التي جرت للإشارة إلى ثقة
وحدات الجيش والعسكريين من أية قطعة، بوحدات المغاوير:
كانت إحدى السرايا من فوج المغاوير إحتياط جبهة سوق
الغرب، وكان صديقي بسام جرجي ضابط الخدمة في السرية، واللواء الثامن ينتشر على طول
الجبهة حتى ضهر الوحش، قضيت ليلة "في ضيافة بسام"، كانت ليلة هادئة نسبياً.
"قوم ت نعمل جولة ع الخفراء" قالها بسام، أجبته: أي
خفراء ما أنت إحتياط! أجاب: "نحنا الإحتياط ولازم نكون نعرف كل شي بالجبهة".
على تلة الثلاث ثمانات (المرتفع 888) المواجهة للمسلحين،
ثلاثة خفراء للواء الثامن قرب مركز الفصيلة، وصلنا بسام وأنا وبعض المرافقين ولم
نسمع صوت الخفير ينذرنا بالوقوف، إقتربنا بحذر فإذا خفيرين يغطّان في نومهما :
"قوم ولاه كيف نايم هون وأنت الخفير؟" فنظر الخفير في
الظلام ولم يتبيّن له الوجوه ولا الأصوات وإعتقد أننا من رفاقه في المركز فأجاب
متثاقلاً:
"روح، روح نام يا حبيبي منك عارف انو في معنا مغاوير؟"
كنّا "نركّب مقالب" لبعضنا البعض، ضابط الإدارة الملازم
اول "جورج صعب" من أظرف الضباط وأقربهم إلى القلب، كنا نستلف منه المال ليعود في
آخر الشهر فيحسمه من الراتب، وخلال الأزمة الإقتصادية المتأتية من إنخفاض سعر صرف
الليرة وبالتالي إزدياد الحاجة، ما من ضابط في الفوج إلا وإستلف مرتين أو ثلاثة
اضعاف راتبه وكان "صعب دايماً بيزبطها" إلا لما أرسل بسام جرجي سائقه إلى جورج صعب
ليستلف على راتبه خمسين ليرة؟
"قلو أنو ما بيحقلو يقبض ل بعد تلات شهور لأنو قابض
معاشو سلف..."
لكن رصاصتان من بندقية بسام بإتجاه مكتب جورج صعب كانتا
كافيتين لأن يتصل به ضابط الإدارة:
"أخت هالعصابة، تعا خود قد ما بدك بس كفّني شرّك".
أحد "المقالب المهضومة" دبّرته للصديق بسام الذي لم
يوفّرني بمقالبه: كنا نتشارك المكتب ذاته، فإتصلت إحدى الفتيات طالبة التكلّم مع
بسام، وأدركت أنها "صاحبته":
- ال Lieutenant جرجي مش هون أخد أبنو ع المستشفى"
- " مش معقول ما هوي مش مجوّز!"
- "يا عيني عم تعلميني ع رفيقي؟ عم قلك أخد أبنو ع
المستشفى..."
بعد حوالي ساعة دخلت سيارة بسام المرسيدس 230 الخضراء
اللون إلى الثكنة بسرعة هائلة والمسدّس في يده شاتماً متوعّداً: "صار لي شهرين
بحاول ت زبطت وأنت خربتا بكلمتين يا أخو أل..." لكنه لم يستطع فشّ خلقه، إذ كنت
عندما دخل الثكنة على هذه الحال غادرتها من الباب الآخر تحسّباً لردّة الفعل
المرتقبة.
كنّا نشتري ثياب الرياضة والتزلّج بالتقسيط المريح جدّاُ
من شركة unisport صاحبها جورج جلّاد، الذي كان له بذمّة كلّ منا ما يوازي ضعفي
راتبه يستوفيها شهرياً.
شُكّل إلى الفوج الرائد فؤاد خوري مساعد قائد الفوج وهو
من الضبّاط "اللي ما بيعتلو هم المصاري" كون أقربائه يرسلون له العون المادي اللازم
من المهجر، يعرفنا جيّداً كونه كان أحد مدرّبينا في المدرسة الحربية. أُعجب بهندام
الرياضة الذي نقتنيه:
"شو حلوين كتير هالتياب.. من وين جايبينن؟"
"من روميه، هون قريب، بتحبّ تروح تشوف؟"
في محل الرياضة إختار الرائد خوري عدة بزات للرياضة
وعتاد التزلّج بأضعاف راتبه الشهري، فنظر صاحب المتجر ناحيتنا كأنه يقول لنا: "شو
هودي كمان بالتقسيط؟"
"قديش بتريد؟" سأل الرائد صاحب المحل.
" 700 دولار ( على ما أذكر ) "
دفع نقداً المبلغ كاملاً.. تعجّب التاجر وقال: "شو صاير
عليك حضرة الرائد أنا عم قسًط للشباب ع رياحتن دفاع متل ما بدّك ل شو تتديّن؟"
"شو، شو عم تقول؟ أنت ألك مصاري مع ضباط الفوج؟ قديش ألك
معن؟"
عبثاً أقنعنا الرائد خوري أننا ندفع بالتقسيط للرجل الذي
هو راضٍ أصلاً، لكنّه لم يرض إلا أن يدفع نقداً، كامل المستحقّات عن ضباط الفوج:
"الضابط ما بيتديّن مصاري؟"
معركة الدوار بين الجيش ومسلّحي الحزب السوري القومي
الإجتماعي مدعومين من جيش الإحتلال السوري، أعقبت توقيع الإتفاق الثلاثي والإنقلاب
عليه من قبل سمير جعجع مدعوماً من رئيس الجمهورية آنذاك الشيخ امين الجميّل (وقّعه
كل من: نبيه بري رئيس حركة أمل، وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وإيلي
جبيقة رئيس القوات اللبنانية). لواء المشاة التاسع هو المسؤول عن الجبهة، خُرِقت
خطوطه في الدوّار وسقطت بعض مراكزه، فكُلِّف فوج المغاوير إستعادة المراكز الساقطة.
سريتي تنتشر لحماية مخازن ذخيرة الجيش في اللويزة، لم
أستطِع تحريكها، إستُعيض عنها بفصيلة دبابات من اللواء الثامن لتأمين تقدّم سرية
المغاوير الثالثة التي كُلِّفت الهجوم، تركت سريتي وعملت ضابط إرتباط بين دبابات "
الثامن" والفوج.
إستُعيدت المراكز بسرعة لكن الثمن كان باهظاً، إستشهاد
آمر السرية الملازم أول جورج النغيوي ومساعده الملازم إبراهيم بطرس، وسبعة عسكريين.
كان ذلك في 16 كانون الثاني من العام 1986.
خسارة الرفاق موجعةَ حتى العظم، لكن الأكثر إيلاماً هو
عدم التمكن من تكريم هؤلاء الشهداء في قراهم، كونهم يقطنون جميعاً خارج مناطق سيطرة
الجيش، والقصة المحزنة تخص العريف الشهيد "محمود الغريب" من بلدة عكار العتيقة:
لا إتصالات مع المناطق النائية ولا وسيلة لإبلاغ ذويه
إلا الرقيب "السحمراني" إبن بلدته، رافق وحيداً نعش الشهيد في سيارة الإسعاف
مجتازاً حواجز جيش الإحتلال السوري والميليشيات التي كانت تفتّش العسكريين بدقّة
وكل من تشتبه بإنتمائه إلى بزة الشرف، فكيف لنعوش الشهداء التي قتلها جيش الإحتلال؟
وصل الرقيب سحمراني بسيارة الإسعاف التي تحمل نعش الشهيد
إلى مدخل بلدته:
"دخيلك روح خبر بيت الغريب انو ابنن محمود إستشهد
والتابوت معي هون"
هكذا، وبهذه الطريقة المفاجئة والمؤلمة إستقبلت عائلة
الغريب وعكار العتيقة بلدة الجيش والشهداء، جثمان إبنها الشهيد محمود الغريب.
والأصعب في مسيرة الإستشهاد ليس الموت بحدّ ذاته فحسب،
بل إفتقاد الرفاق في كلّ لحظة صعبة، والرحيل الصامت دون وداع.
(1) الملازم غسان رمان من رفاق دورتي إستشهد في شباط
1984 في منطقة الشحار الغربي وكان من عداد فوج المغاوير، أطلق إسمه على ثكنة الفوج
في رومية.
************
Top
هذا انا جورج نادر.. المغاوير استعادت المعنويات
وحقوق الجيش المعيشية - الحلقة التاسعة
10 شباط 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة التاسعة من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
المعركة الأخرى التي حصلت، وإستُعيدت فيها معنويات
الفوج: 27 ايلول العام 1986.
بعد توقيع ما سُمّي بالإتفاق الثلاثي وإبعاد إيلي حبيقة
مع مقاتليه إلى خارج المنطقة " الشرقية "، أعاد تنظيم ميليشياته والتي أطلق عليها
أسم " القوات اللبنانية " كونه كان مقتنعاً أنه القائد الشرعي لميليشيا القوات التي
" إغتصبها " منه سمير جعجع. تركّزت مجموعاته في مدينة زحلة البقاعية حيث حشد عدداً
لا بأس به من المقاتلين الناقمين والحاقدين على قيادة سمير جعجع للقوات.
إجتازت مجموعات " القوات
اللبنانية " التابعة ل " إيلي حبيقة " خطوط التماس في بيروت وتغلغلت في الأشرفية
بنية إستعادة السلطة على ميليشيا القوات بقيادة سمير جعجع.
كنت آنذاك بوضع النقاهة المنزلية بسبب سقوطي عن حبل ال
"Poulie - البكرة" في البحر في اثناء تنفيذ تمارين في دورة مغوار، وقد كُسر أربعة
اضلع وصرت اتنفّس بصعوبة بالغة مع ألم شديد لا يزول إلا مع الوقت لأنه "ما بينعمل
شي لكسر الضلع" كما قال الطبيب.
إتصلت مصادفةً بالهاتف بالثكنة وعرفت أن سرايا الفوج
ستتدخّل في بيروت، قُدت السيارة بصعوبة حتى الثكنة، ملأت إحدى آليات "البيك آب"
بذخيرة المصفّحات، وإتجهت برفقة السائق بإتجاه بيروت.
لحسن الحظ، الآلية العسكرية لا تحمل شعار الفوج، أوقفني
حاجز مسلّح عناصره ملثّمون، عند المطاحن في بيروت:
"لوين رايح ؟"
ع اللواء التاسع هون ع البور " ( المرفأ )
"روح"
وعرفت لاحقاً أن عناصر الحاجز تابعين ل إيلي حبيقة،
الذين كنت ذاهباً لقتالهم.
بسرعة قياسية تمكن فوج المغاوير بإستعادة المراكز وإقفال
خطوط التماس من بيت "الكتائب " في " الصيفي " وحتى " السوديكو " دون خسائر في
الأرواح إلا بعض الجروح الطفيفة، لأنه بالحقيقة، كنا نضع دائماً نصب أعيننا معركة
الدوّار لتلافي الأخطاء والخسائر، فكان قتال الثنائي مشاة - مدرعات بإحتراف وتأنّ،
يجنّب الوحدات الخسائر التي ينتج أغلبها من التهوّر أو الحماس الفائق دونما حسبان
قوة العدو.
العملية التي نفّذها الفوج بسرعة وإحتراف ودون خسائر في
الأرواح، دفعت بقائد الجيش العماد ميشال عون ورئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميل إلى
زيارة وحدات الفوج في أدما حيث كانت تنفّذ دورة المغاوير الحادية عشرة، وتناولا
الغداء مع ضبّاط الفوج وإعتمرا "القلنسوة" ( البيريه ) الخاصة بالفوج، وذلك تقديراً
لجهود الفوج وبراعته وسرعة تنفيذه الأوامر وإحترافه في القتال.
النصر دون شهداء، فيه مقدار كبير من الغبطة والفخر
والإعتزاز، لكن الحزن على فقدان الرفاق، لا يمحيه مرور الزمن ولا كل الإنتصارات.
عند بداية كل معركة كان يقال لنا، أو كنّا نحلّل الوضع حسبما نراه: "هيدي آخر
معركي، بكرا بتزبط"
فكان السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي دائماً:
" أليس لهذا النفق الطويل من نهاية؟ ومتى تنتهي الحرب في
هذا الوطن الصغير؟
"كيف رح يزبط هالبلد" ويسيطر على أرضه أربع إحتلالات:
العدو الإسرائيلي، الجيش السوري، المنظّمات الفلسطينية، والميليشيات اللبنانية
الطائفية التي يتوزّع ولاؤها بين الإحتلالات الثلاث، وتنفذ اوامر أسيادها
الخارجيين؟
"كيف رح يزبط هالبلد" وكل شيء فيه "مُطيّف، وممذهب"
نفكّر طائفياً، نتصرف طائفياً، ونتنفّس طائفياً؟
"كيف بدو يزبط هالجيش" وبعض ألويته لا يأتمر بقيادته بل
تنفّذ أوامر زعماء الطوائف والميليشيات؟
"كيف بدو يزبط هالجيش" والسلطة الحاكمة "تتناتش" وحداته
وألويته وولاء ضبّاطه؟
أسئلة كانت تراود ذهني دائماً، وأفكر بها بصوت عال،
أناقشها مع رفاق السلاح الذين لا يقلّون حماسة وإندفاعاً عني، ونتيجة كل نقاش كانت:
"شو بدنا فيهن، نحنا منعمل واجباتنا، وما منتطلّع
بغيرنا" وهكذا كنا كالحصان في مضمار السباق، لا يرى إلا الطريق أمامه وأمامه فقط.
الأعوام 1987 و1988 لم تحملا شيئاً جديداً، إلا أن العام
1987 كان عام الفقر بإمتياز: الدولار الأميركي تخطّى عتبة الخمسين ليرة، إذ كانت
قيمته لا تتعدّى الأربع ليرات، والرواتب هي ذاتها،الليرة تفقد القوّة الشرائية
والعسكريون بالكاد تكفي رواتبهم لإطعام عائلاتهم، فكيف باللباس والتعليم
والإستشفاء؟ كنا "نسمح" للعسكريين خلافاً للقانون بالعمل في أوقات المأذونيات لسدّ
الحاجات الملحّة لهم، حتى كمية الطعام المحضّر في المطابخ العسكرية شحّت والنوعية
تراجعت. كنا بعد تنفيذ الرياضة الصباحية، يحاول كل منا الإستحمام بسرعة للذهاب إلى
"الترويقة" كي يصل قبل رفيقه إلى نادي ضباط الفوج، ليأكل "بيضة" زيادة عن حصّته
التي هي بيضة واحدة مسلوقة أو مقلية. المحظوظ الذي كان يحصل على بيضة الآخر.
من المسيء ان نقارن الجيش بالميليشيات، لكن من ناحية
توافر الأموال اللازمة والدعم اللوجستي لا بأس بذكر بعض الروايات التي إن دلّت فهي
ترسم صورة الوضع اللوجستي السيء للجيش وإحجام السلطة السياسية عن توفير أدنى
مقوّمات الحياة الكريمة لعناصره والحدّ الأدنى من المال لصيانة العتاد والسلاح
الموجود، على قِدمه.
الضابط الآلوي في الفوج، أي الذي يعنى بإصلاح آليات
الفوج كافة وتأمين قطع الغيار لها. كان يقوم بالوظيفة آنذاك الملازم طوني لحّود،
أخبرنا يوماً أنه قصد تاجر قطع غيار الآليات العسكرية لتحقيق بعض حاجات الفوج، وصار
يفاضل على السعر و "يكاسره".
"ولو هيدي ألنا ما بتعمل سعر للجيش وبدل خمس قطع عطيني
قطعتين وبعدين بشوف.. ألخ."
في أثناء "المشارعة" وصل أحد "ضباط" ميليشيا القوات
اللبنانية، طلب من التاجر اضعاف ما طلب الملازم لحّود من قطع غيار أصلية للآليات
العسكرية في الميليشيا، ثم سأل عن مجموع المتوجّب عليه، ودون أي نقاش أو مفاضلة،
وقع شيكاً بالمبلغ المطلوب وذهب.
فإلتفت التاجر إلى الضابط: "هيك بيصير التعامل، لكن
متلكن أنتو؟"
كم كانت هذه الأخبار تحزّ في النفس، ميليشيات "ما بتعوز
شي وجيش بيعوز كل شي."
جمع قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون قادة الوحدات
الكبرى، ووصف الوضع المادّي المذري للجيش، وأن مجلس النواب الذي سيلتئم في اليوم
التالي، لن يوافق على زيادة ميزانية الجيش، إذ أن التكلفة اللوجستية للعنصر الواحد،
من لباس وطعام هي تسع ليرات يومياً عندما كان سعر صرف الدولار ثلاث ليرات ونصف،
وبعدما تخطّى سعر الصرف الخمسين ليرة، بقيت التكلفة ذاتها. يا لهذه الطبقة السياسية
الفاسدة التي تحكّمت بأوصال الوطن منذ عقود ولم تزل حتى الآن.
على جهاز "الموتورولا" أخذ المبادرة المقدّم جهاد شاهين
قائد الفوج:
" اللي بيعرف وين في نواب بيروح وبيقول للنايب بالحرف
الواحد: "بكرا في جلسة مجلس نواب، إذا ما بتمضي ع ميزانية الجيش بدنا..."
تكلمنا بلهجة قاسية مع النواب وحملناهم مسؤولية عدم
التوقيع. والمبادرة كانت عفوية ونتيجة ردة فعل لمطلب معيشي محق دون اوامر من قائد
الجيش ميشال عون.
كان النقيب مارون حتي رئيس فرع الاستعلام واللوجستي
والنقيب انطوان ابي سمرا رئيس فرع العمليات. انطلقوا مع آمري السرايا الملازمون
الأول: جوزف عون، جورج شريم، بسام جرجي، شامل روكز، سامي حويك، غازي خوري وانا.
وهكذا كان: لم " يزمط " نائب يقطن في " الشرقية " من
تهديد وتحميله مسؤولية عدم التوقيع ما لم يوافق على رفع ميزانية الجيش.
في اليوم التالي، ذهبنا، آمرو السرايا في الفوج، كل مع
بعض المرافقين إلى محيط مجلس النواب "للتذكير" بالواجبات الوطنية فقط، وخلال الجلسة
وافق النواب على رفع الميزانية المخّصصة للجيش، وكانوا يتهامسون وهم يشيرون إلينا:
"أنا هيدا اللي هددني".
.. لا " أنا هيداك "
" أنت شو قالولك؟"
في نهاية الجلسة، وبعد الموافقة على رفع ميزانية الجيش،
وأمام وسائل الإعلام، راح النواب يتبارون في الدفاع عن حقوق الجيش ويفاخرون بأنهم
رفعوا ميزانيته، متناسين الذي حصل "قبل بيوم".
في اليوم التالي استدعانا قائد الجيش ميشال عون وذهبنا كلنا حوالي ٣٠ ضابطا وكان
عنده بعض النواب وقام بتأنيبنا امامهم بسبب الطريقة المستعملة لاستعادة حقوقنا.
وعندما خرج النواب من منزله قام بتهنئتنا وقال: "هذه هي الطريقة المشرفة لاستعادة
حقوقنا المهدورة."
أرغب في سرد حادثةٍ جرت في الرابع من ايار العام 1988، يراها البعض غريبةً وصعبة
التصديق، وذلك للدلالة على أن التنسيق والإتفاق كان قائماً، بين الميليشيات التي
"تقاتل" بعضها البعض، على تقاسم الحصص حتى في عزّ الحرب ( ولا تزال حتى اليوم ).
أحد العسكريين من سريتي، جندي غرّ يدعى "عصام سلمان" من زحلة، عند مروره عائداً من
مأذونيته، بحاجز ميليشيا القوات اللبنانية في منطقة الدلب قرب بكفيا، أهانه عناصر
الحاجز ورموا بطاقته العسكرية أرضاً عندما عرفوا أنه من فوج المغاوير.
- "طلاع ضبّ الحاجز كلو وجيبن لهون" أمر المقدّم جهاد
شاهين قائد الفوج.
نُفِّذ الأمر، ولما هممت مع عناصر المداهمة بالرجوع، إذا
بأحد سائقي الشاحنات يقف على الحاجز، فأشرت له بإكمال طريقه.
-"بدي أدفع الماليي" أي يريد أن يدفع الرسوم ( الخوّة )
المفروضة على الشاحنات المحمّلة القادمة من "خارج الشرقية ".
-"كفي طريقك ما بقا في دفع ".
-"لا.. لا قرطت الدروز بدّي أدفع ل جماعتنا "
هكذا، فسائق الشاحنة مسيحي من زحلة، إكتنف حاجز ميليشيا الحزب الإشتراكي فخوراً
مسروراً لأنه يريد أن يدفع الخوّة للميليشيا المسيحية وليس للدرزية، فلو دفع
لميليشيا الإشتراكي وإستحصل على الإيصال لكان أُعفِي من الدفع لميليشيا القوات،
وإذا أكمل الطريق إلى "الغربية" عليه إبراز الإيصال المدفوع إما للإشتراكي وإما
للقوات، وإلا فسيدفع التسعيرة ذاتها لميليشيا "حركة أمل ".
هل تصدّقون هذه "الخبرية"؟ أذكر من العناصر الذين كانوا
ضمن المجموعة المنفّذة كل من: جوزيف سركيس وغسان الراعي وجوني عبدو، وآخرون لا
تحضرني أسماؤهم. كما كان من قيادة الفوج النقيب أنطوان أبي سمرا.
تعطّل إنتحاب رئيس الجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميل
الذي إنتهت ولايته في 22 ايلول من العام 1988، فشُكِّلت حكومة عسكرية برئاسة قائد
الجيش آنذاك العماد ميشال عون، وإبتدأت مرحلة جديدة من الحروب: "حرب التحرير" في
العام 1989، وحرب "الإلغاء" في العام 1990، لتنتهي بإجتياح جيش الإحتلال السوري
للمناطق الحرّة في 13 تشرين من العام 1990.
************
Top
هذا أنا جورج نادر.. هكذا أفشل السوريون احتلال
الجيش للمجلس الحربي- الحلقة العاشرة
17 شباط 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة العاشرة من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
مرحلة جديدة بانت ملامحها بعد تولي قائد الجيش مسؤولية
الحكومة العسكرية التي شكلها الرئيس أمين الجميّل قبل ربع ساعة من إنتهاء ولايته
الدستورية، وهي تتألف من أعضاء المجلس العسكري الذين أُسنِدت إليهم الوزارات كافة.
بعد أيام معدودات من إعلان الحكومة العسكرية، "إجتياح "
مدبّر للمناطق التي كانت محسوبة على الرئيس الجميّل من قبل ميليشيا القوات بقيادة
"سمير جعجع"، وتوتّر في "الغربية" حيث تشبّث "حلفاء سوريا" بحكومة الرئيس "سليم
الحص"، مقابل حكومة العماد عون في "الشرقية"، حيث عيّنت حكومة الرئيس الحص اللواء
"سامي الخطيب" قائداً للجيش، فأصبح للجيش "قائدان" وللوطن حكومتان، ورئاسة
الجمهورية شاغرة مما زاد الإنقسام الطائفي حدّة، فكان المشهد السياسي العسكري
كالآتي:
شريط حدودي يحتّله جيش العدو الإسرائيلي يعاونه ميليشيا
"أنطوان لحد"، ويمتدّ من الحدود مع فلسطين المحتلّة حتى قرى شرق صيدا.
باقي مناطق الجنوب تقع تحت سيطرة المقاومة الإسلامية
المتمثّلة بـ "حزب الله ".
بيروت "الغربية" والبقاع والشمال وقسم من جبل لبنان يرزح
تحت ثقل الإحتلال السوري.
المخيّمات الفلسطينية في الجنوب والبقاع والشمال تسيطر
عليها منظمات فلسطينية مختلفة يتوزّع ولاؤها بين سوريا ومصر والسعودية والعراق.
بيروت " الشرقية " من جسر المدفون شمالاً حتى كفرشيما
جنوباً يسيطر عليها الجيش، ينازعه السيطرة ميليشيا القوات اللبنانية.
في هذا الواقع المأزوم والجغرافيا المقطّعة الأوصال،
توزّعت وحدات الجيش: بعضها يخضع لقيادة العماد عون وهي التي تتمركز في "الشرقية" ،
والبعض الآخر يأتمر باللواء الخطيب وتتمركز خارج سيطرة الجيش في المنطقة المسمّاة
غربية.
الحادثة الأولى التي أعقبت قيام الحكومة العسكرية كانت
الإشتباك مع ميليشيا القوات اللبنانية في 14 شباط من العام 1989 . إشتباكات توقّفت
تحت ضغط القيادات الدينية والسياسية أعقبها "حرب التحرير" بعد شهر واحد: 14 آذار
1989.
هذه الحرب أُعلِنت من قبل العماد عون بعد قيام المدفعية
السورية بقصف مناطق سيطرة الجيش ووزارة الدفاع بالأخص، وذلك بشكل مفاجىء، ولا
أخالني أفشي سرّاً إذا رويت ما حدث قبل ذلك التاريخ:
كانت سريتي وسرية بسام جرجي تتمركزان في معسكر أدما
والقرى المحيطة، وكنّا بسام وأنا لم نذهب بمأذونية منذ تاريخ الإشتباك في 14 شباط
الذي مضى ، وذلك بسبب "تنبيه" من مديرية المخابرات في الجيش بعدم التجوّل لأن جهاز
أمن القوات قد إتخذ قراراً بتصفيتنا بسبب كوننا منعنا إنتقال قوافل المسلحين بين
جبيل والمتن، وكون المعركة معهم أسفرت عن مقتل ثلاثة عناصر وتدمير ملالة على مفرق
"غزير"، كما لم نرضخ مع ضباط الفوج كافة ، للمغريات المادية ، ولا للتهديدات التي
كانت تصلنا عبر أشخاص أو بواسطة الهاتف، بالقتل أو بالإعتداء على الأهل والأقارب.
بعد وقف إطلاق النار مع القوات ونجاح الوساطات التي
قادتها "بكركي" و "الرابطة المارونية" تأزّم الوضع السياسي ومن ثم العسكري، فقرّرت
قيادة الجيش السيطرة على المعاقل الرئيسية للقوات ووضعت خطّة لذلك، وكان دور
"مجموعة أدما" قطع الطريق فقط بين جبيل وكسروان ومنع الإمدادات القواتية إلى بيروت
والمتن.
عشية الهجوم المقرّر، وحفاظاً على سرية الإتصالات
بالهاتف أو بأجهزة الموتورولا "المخروقة"، أتى قائد الفوج المقدم جهاد شاهين إلى
أدما برفقة الملازم أول بسام عيسى آمر سرية الدعم في الفوج، ليعطينا التعليمات
ويحدّد مهمتنا: قطع الطريق فقط ومنع الإمدادات ونحن (أي باقي قوى الفوج ووحدات أخرى
من الجيش) نحتلّ المجلس الحربي وثكنات "ضبيه". التنفيذ فجر الغد..
سهرنا طيلة الليل بسام وضبّاطه: الملازمون الأول جوزيف
عون، سامي الحويك وسليمان سمعان، أنا وضباطي الملازمين الأولين يوسف الحصني ومنصور
دياب، نخطّط لمهمّة الغد، إستنفرنا السريتين، الآليات، السلاح، الذخائر وأجهزة
الإتصال وأوامر الإشارة، كلَ يعرف مهمته غيباً.
فجر 14 آذار 1989 ، سمعنا القذائف تتساقط في بيروت، ولم
نكن ندرك أين تسقط ومن هي الجهة التي ترمي.
" يا الله يا بسام ت نقطع الطريق، بلّشت الرمايات."
"بعد ما عطا الأمر المقدّم، ما سمعتو شو قال نطرو أمر
منّي؟"
وكان بسام في تروّيه وهدوئه على حقّ، إذ عندما تأمن
الإتصال مع قيادة الفوج أمر القائد: "ما تعملو شي أبداً وبكرا بخبركن" وهكذا كان.
لماذا عدلت قيادة الجيش عن مخطّط الهجوم؟
في المبدأ، المخطّط الموضوع كان سرياً، لكنّ التنسيق مع
" قيادة" اللواء الخطيب بأن طلب إليهم إفتعال معارك من جهة الشمال ( حاجز المدفون
ومحيطه ) مع ميليشيا القوات لإلهائها بغية تخفيف زجّ القوى في مواجهة الجيش، هذا
"التنسيق" أدّى إلى إفشاء الخطّة، وتكفّلت مدفعية الإحتلال السوري بـ "القضاء" على
هذه الخطّة بقصف وزارة الدفاع، وبالتالي "صرف النظر" عن إحتلال مراكز ثقل القوات في
الكرنتينا وضبيه ، وقيام "حرب التحرير" من الإحتلال السوري، التي أعلنها قائد الجيش
ورئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون. حرب كانت نتيجتها تدمير البنية التحتية
للجيش وأحكام "إغلاق" مناطق سيطرة الجيش فكان الخروج منها للعسكريين ضرباً من
الجنون، لكن هل يستطيع العسكريون البقاء لشهور بعيدين عن عائلاتهم وذويهم حيث كان
يصلهم ( إلى الأهل ) أخبار القتل والتدمير، ينتظرون شاشات التلفزيون ليعرفوا هل
تحمل نشرة الأخبار أخبار سوء؟
المنفذ الوحيد المنطقة "الشرقية" كان مرفأ جونيه البحري
، الذي وبواسطته كانت ترسو البواخر التي تنقل الحاجات الحيوية لتلك المنطقة، إذ أن
مرفأ بيروت كان مضروباً بالنيران المباشرة وأُوقف إستخدامه.
كان العسكريون يذهبون بـ "مأذونيات" غير عادية وغير
منتظمة للإطمئنان على ذويهم وعائلاتهم: الذهاب والإياب باللباس المدني بالطبع،
والسؤآل الذي كان يُطرح دائما من قبل جنود الإحتلال السوري على الحواجز:
"أنت عسكري ولاه.. مو؟"
لذا كنّا "نسمح" للعسكريين القاطنين خارج مناطق سيطرة
الجيش ب "إرسال" اللحى، وعدم "قصّ" الشعر أقلّه قبل أسبوعين أو ثلاث من موعد
المأذونية المنتظر كي لا يلفت منظر اللحية والشعر الطويل نظر جنود الإحتلال.
وبالرغم من ذلك كانوا، وللتأكّد من "عسكرية" المارّين يطلبون خلع الحذاء، يراقبون
"بطّة" الأرجل، فإذا كانت منتفخة عند الوسط، يكون صاحبها "عسكريا" لأن إنتعال حذاء
"الرنجر" لمدّة طويلة، يجعل من الساق منتفخةً عند الوسط جرّاء شدّ الحذاء للرجل
لمدة طويلة.
طريقة أخرى إبتدعها جنود الإحتلال لتمييز العسكريين
المارين على حواجزهم:
المواطن اللبناني ينادي الجندي "يا وطن" ولهذه المناداة
وقعَ جميل وعذب، كأني به يختصر الوطن كله ببزّة الجيش، وهذا مدعاة فخر وإعتزازا.
كان جنود الإحتلال يجمعون ركاب السيارات حيث يشكّون
بوجود عسكريين، وينادون: يا وطن، فالراكب الذي يدير رأسه ويلتفت تجاه الصوت، أو
يجيب، عفوياً، يكون عسكرياً. والعسكري الذي يتأكّدون من هويته، كانوا إما يُلحِقونه
بالقوة بالوحدات التي تأتمر بقيادة اللواء الخطيب، وإمّا إلى سجونهم وذلك بحسب
"الذنب" الذي إقترفه، والذنوب كانت القتال إلى جانب وحدات الجيش.
نعم، هذا بعض مما عاناه جنودنا، فكأن القتال على
الجبهات، والبعد عن عائلاتهم، لا يكفي، وإذا تجرّأوا وخاطروا، كانت "عبقريات" جنود
الإحتلال تكتشف هوياتهم وتجبرهم على الإلتحاق بالوحدات التي تتبع لقيادة اللواء
الخطيب، أو "يُلحقون" بسجون الإحتلال في عنجر ومن ثم في سوريا، والبعض منهم إتقطعت
أخباره أو لا يزال حياً في تلك السجون.. ألله وأعلم.
*******
Top
هذا انا جورج نادر.. هكذا عامل السوريون جثث شهداء الجيش - الحلقة الحادية عشر
22 شباط 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الحادية عشر من مذكرات العميد
الركن المتقاعد جورج نادر
في حرب التحرير، ثمّة عمليات بطولية نفّذتها وحدات من القوات الخاصة في الجيش (السرية الثالثة من فوج المغاوير بإمرة النقيب جورج شريم):
معركة 13 آب 1989، إحتلّ مسلّحو ميليشيا "الحزب التقدّمي الإشتراكي" مدعومين بوحدات من جيش الإحتلال السوري بعض مراكز الجيش في سوق الغرب، وذلك بعد قصفٍ عنيف ليومين متتالين على كامل البقعة التي يسيطر عليها الجيش وطرق التموين والإمداد ووزارة الدفاع، وتركّزت الرمايات على مراكز الجيش في سوق الغرب وضهر الوحش.
فوج المغاوير الذي هو إحتياط القيادة يتألف من ثلاث سرايا مشاة وسريتي مدرعات وسرية دعم، يتمركز في معسكر أدما بشكل دائم سرية مشاة وسرية مدرعات، ويبقى في الثكنة ومحيطها سريتا مشاة وسرية مدرعات وسرية دعم، وبما أن الفوج هو إحتياط القيادة كانت تستنفر بشكل دائم سرية مشاة حيث السلاح والذخيرة والعتاد الفردي بشكل دائم في الملالات، وعناصر السرية وضباطها يلازمون الثكنة طيلة فترة جهوزها.
تحت الغطاء المدفعي الكثيف والمباشر على مراكز الجيش في سوق الغرب وضهر الوحش، وعلى طول طرق الإمداد، وعلى يومين متتاليين، هاجمت وحدات جيش الإحتلال السوري مع ميليشيا الحزب الإشتراكي مراكز الجيش في سوق الغرب وضهر الوحش ونجحت بإحتلال مركزين للواء العاشر في سوق الغرب، وكلّف فوج المغاوير بإستعادة المراكز الساقطة.
إستدعى النقيب مارون حتي رئيس
الفرع الثالث في الفوج (العمليات والتدريب) النقيب جورج شريم آمر السرية الثالثة،
مع أنه لم يكن دور سريته في الجهوز اليومي:
- "بتروح ع سوق الغرب"
- "جاهز"....أجاب شريم بدون تردّد
إنطلق النقيب شريم إختيارياً، وبجرأته المعهودة ووصل أرض المعركة تحت وابل من القذائف التي دمّرت له إحدى الآليات في أثناء الإنتقال، وإستعادت سريته مركزين سقطا للجيش في سوق الغرب، وذلك بإحتراف وشجاعة، فسقط له في تلك المعركة شهيدان: منير مساعد والياس القزّي، بالإضافة إلى عدة جرحى.
عمليات أخرى نوعية نُفّذت "خلف خطوط العدو" اي في المناطق التي تخضع لجيش الإحتلال السوري، في بيروت و"قرطاضة" و "الزندوقة " ومناطق أخرى في الشمال، فكانت مجموعات صغرى من القوة الضاربة في الجيش بإمرة النقيب انطوان ابي سمرا ومن السرية الثانية في الفوج (التي كان يأمرها الملازم أول شامل روكز) تتسلل إلى مناطق سيطرة جيش الإحتلال السوري، تنفّذ عمليات خاطفة، ثم تعود وتلتحق بقيادتها، بعد تحقيق إصابات في صفوف جنود الإحتلال وفي سلاحهم وعتادهم.
في بداية شهر آب (السادس منه) إستُشهِد شقيقي الأصغر "جوزيف" وكان "متطوعاً إختيارياً" (كانت قيادة الجيش قد أعلنت عن التطوع الإختياري دون مقابل للمدنيين الذين يرغبون القتال إلى جانب وحدات الجيش) لكن إستشهاده لم يكن في خلال إشتباك مع جنود الإحتلال، بل بشظايا قذائف المدفعية التي كانت تطلقها المدفعية السورية بشكل دائم على المناطق "الشرقية". وكان في طريق عودته ليلاً في محلّة نهر الموت حيث سقطت "هطلة" صاروخية فأصيب بشظية صغيرة في رأسه لم يلبث أن فارق الحياة على أثرها في مستشفى الأرز.
كان قد سبقه وفاة والدي في 12 كانون الثاني من العام 1985، ووالدتي في 23 حزيرن من العاام 1988. وكان خبر إستشهاده علي كوقع الصاعقة، ليس فقط لأنني سحبت الجثمان من برّاد مستشفى الأرز في الزلقا، بل لأنني لم أتمكّن من حضور مراسم جنازته في بلدتي الخاضعة آنذاك، كما بقية مناطق الشمال، لسلطة الإحتلال السوري، حيث أن قرى عكّار كانت تعاني أكثر في ظل الإحتلال.
فعكّار خزّان الجيش الذي لا ينضب، رجالها شجعان، فتيانها أقسموا الولاء للوطن وجيشه، فكانت قوافل الشهداء "تتبهدل" على الحواجز السورية: أحياناً كثيرة يفتحون النعوش، حتى تلك المقفلة باحكام لاسباب طبية وصحية نظرا لتشوه الجثامن التي تحتويها.. فهل يمكن تصوّر شعور الأهالي الذين ينقلون جثامين ابنائهم، وهم يرون أمامهم من "يسخر" من شهادتهم "ويبهدلهم" كأن يفتحوا النعوش للتأكّد من هوية الميت وذلك بإحتقار وسخرية؟ أو كأن يرموا بعض النعوش أرضاً، وينتشلون منها الجثامين الطاهرة؟ هل يمكن تصوّر إنعدام الإنسانية والأخلاق إلى هذا الحد؟
عند وصول جثمان شقيقي الشهيد إلى
ما قبل حاجز "المدفون" السوري، هممت بمتابعة المسير مع الموكب، إلا أن الإعتراض
العنيف جاء من صديقي بسام أوقفني ومسدّسه في يده:
"والله العظيم بقتلك هون ولا بخلّيك تروح ويقتلوك هنّي
يا مجنون..."
وبعد ستّة أشهر، وخلال حرب "الإلغاء" لم أتمكّن من حضور جنازة "الأخ" الآخر بسام الذي سار موكب جنازته عبر البقاع، وعلى حواجز جيش الإحتلال نفسه، لأنه كان وللأسف، أسلم من المرور على حاجز "القوات" في البربارة.
ودُفِن "الشقيق" الآخر في "تل عبّاس"، وهكذا كان قدري أن أدفن شقيقِ ولدته أمي، وبعد أشهر شقيقاً ولدته الحياة العسكرية، مع إبني أختي الذين سقطا مع بسام في معركة "أدما".
أكمل موكب الجنازة الطريق التي إستغرقت أربع ساعات للوصول إلى القبيات بعد التفتيشات الدقيقة على كل حواجز جيش الإحتلال والأسئلة المتكرّرة عن هوية الميت إذا كان عسكرياً أم لا....، وقفلتٌ راجعا إلى رومية.
إجتماع " نواب الأمّة " في مدينة " الطائف " السعودية، وتعديلهم الدستور وإنتخاب رئيس للجمهورية (الرئيس رينه معوض) ومن ثم حلّ مجلس النواب من قبل الحكومة العسكرية، زاد الوضعَ تعقيدا.
حكومة تعتبر مجلس النواب منحلّاً وغير شرعي، وفي المقابل أخرى تعتبره العكس واصفة الاولى (الحكومة العسكرية) "بمغتصبة السلطة"، فيما سفراء الدول الكبرى يقدّمون أوراق إعتمادهم إلى الرئيس المنتخب، نازعين الشرعية عن حكومة العماد عون العسكرية، وبالتالي عزلها سياسياَ ودولياً.
ومما رفع منة منسوب التوتّر، إعتراف ميليشيا القوات اللبنانية بشرعية الرئيس "الياس الهراوي" الذي إنتُخب خلفاً للرئيس معوض الذي أغتيل في 22 تشرين الثاني من العام 1989 قبل إلقائه "خطاب القسم" وإستلام سدّة الحكم. إعتراف وضع ميليشيا القوات اللبنانية في مواجهة مباشرة مع الجيش.
لا زلت أذكر زيارة السفير الأميركي "جون مكارثي" إلى الرئيس معوض وتصريحه الشهير بعد الإعتراف "بشرعية الرئيس المنتخب" قائلاً بما معناه: "إني أتعجّب من سكوت القوات اللبنانية عن الوضع غير الدستوري الشاذ" وكأنّ به يحرّض علناً ميليشيا القوات على قتال الجيش اللبناني و "إحلال الشرعية" المتمثلة بحكومة الرئيس معوض في المناطق المسمّاة شرقية، لتسلك تلك المناطق "برعاية" أميركية درب الانتحار المجنون.. قتال الاخوة وأهل البيت الواحد، في كل مدينة وقرية وحي وشارع.. قتال لا تزال آثاره المادية والمعنوية ماثلة حتى اليوم، في كل بيت وكلّ عائلة وحي وقرية. في كل شارع ومدينة يتناقل السكان أخبار تلك المعارك الشرسة التي أودت بحياة الآلاف وشرّدت وهجّرت مئات الالاف ودمّرت القرى والأحياء السكنية بالإضافة إلى الشرخ المعنوي الهائل الذي لا يزال بعض المخلصين حتى اليوم، يداوون مفاعيله وآثاره التدميرية.
********
هذا انا جورج نادر.. معركة أدما، المغوار هو أول من يموت - الحلقة الثانية عشر
25 شباط 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثانية عشر من مذكرات العميد
الركن المتقاعد جورج نادر
إندلعت شرارة الحرب المتوقّعة بين الجيش وميليشيا القوات في 31 كانون الثاني من العام 1990، وكان قد سبقها توتّر يومي وحوادث إطلاق نار بين عناصر من الطرفين وشحن إعلامي، فخلّفت تلك الحرب 284 شهيداً في صفوف الجيش وعدد مماثل تقريباً في صفوف القوات، وحوالي 1100 من المدنيين، وهجرة أكثر من 300 ألف شخص من تلك المناطق، بالإضافة إلى التدمير الهائل في الممتلكات العامة والخاصّة.
معسكر أدما للتدريب كان تابعاً لفوج المغاوير وتنتشر في محيطه سريتان تتبدلان مداورةً كل شهرين: إحداها سرية مشاة والأخرى سرية مدرعات وكانت السرايا تتلافى التمركز في ثكنة رومية نظراً لكونها مؤلفة من طابقين لا يحميان من القصف ، بالإضافة أن تلك البقعة كانت "على لائحة الأهداف" للمدفعية السورية في حرب التحرير، ومدفعية القوات في حرب الإلغاء، لذلك كانت السرايا تنتشر في برمانا ومحيطها تلافياً لقصف المركّز.
لم يمضِ على إستبدال سريتي وسرية
بسام في أدما ثلاثة اسابيع، عندما إستدعانا قائد الفوج:
"بتروحو ع أدما " موجّها السؤآل إلى بسام وإلي..
إستغربنا بداية السؤآل، لأننا لم نكد نتمركز في محيط
الثكنة خلال أسبوعين من إلتحاقنا من معسكر أدما، لكن الإندفاع والإلتزام وعدم
مناقشة الأوامر خصوصاً إذا كانت تحمل طابع التحدّي، كما كان من المفترض ان تبقى
السريتان البادلتان ثمانية اسابيع كما العادة، وليس ثلاثة..
"إي أكيد منروح" أجاب بسام بإسمه وطبعاً بإسمي، فأعادت
السريتان تمركزهما في معسكر أدما قبل ثلاثة أسابيع من المعركة..
التمركز في أدما يطاول جغرافياً "LBC، الصفرا، طبرجا، كفرياسين، كازينو لبنان، مبنى ال "Bel Horizon حتى تلال أدما"
بقعة تحتاج تغطيتها إلى خمس سرايا قتال، يحرسها بشكل دائم 41 خفيرا، مساحتها حوالي 4 كلم مربع، تدافع عنها سريتان لا يتجاوز عديدهما 120 عنصر.
إندلعت المعارك بعد حادثة مدرسة "قمر" الرسمية في فرن الشبّاك، ثم توسّعت لتشمل أغلب المناطق "الشرقية" وخصوصاً في "أدما" ومحيطها.
في بداية الإشتباكات في أدما إستُشهِد ثلاثة عسكريين: ميشال داغر في مركز "كبّة" أول طلعة أدما من جهة الأوتوستراد، ثم يوسف سابا ودوري رزق (إبن شقيقتي ) خلال مهاجمة مركز "المفتشية" التابع للقوات في طبرجا.
لم نستطع إخلاء جثث الشهداء ولا يتوافر برّاد ولا مستشفى ولا حتى مستوصف ميداني أللهم إلا مستوصف عسكري صغير في معهد التعليم غير مجهّز لا بالأدوات الطبية، ولا بالإختصاصيين، ولا يفي بالحاجة، لكنّه مضروب بالنار لا يمكن الإستفادة منه.
وحدها الدكتورة "إليزابيت باز" المتعاقدة مع الجيش كانت، إختيارياّ، تترك منزلها تحت القصف لتضمّد جراح العسكريين المصابين.
عندما بدأت تنبعث الروائح من جثامين الشهداء الثلاثة، اشرت على بسام أن نشكّل لجنة دفن بحسب النظام العام في الجيش لدفن الشهداء حفاظاً على كرامتهم، لكنّ الإتفاق على وقف إطلاق النار بين الجيش وميليشيا القوات، سمح بإخلاء الجثامين إلى مناطق سيطرة الجيش وبالتالي إستلمها ذووها.
منظر أختي الأرملة، التي فقدت
إبنها البكر إثر عملية جراحية في القلب، وهي تبكي إبنها دوري الشهيد، لا يترك
مخيّلتي البتّة. حتى الآن، لا زلت أشعر بعذاب الضمير لأنني طوّعت إبنيها في الفوج
ولو بناءً لطلبها:
"مش أحسن ما يلحقو الأحزاب؟ الجيش أشرف وافضل."
"بس يا أختي أنا ما عندي شمسيي حطّا فوق راسن، يسواهن ما
يسوا غيرن من العسكر."
"ولو كان، نحنا ولاد الجيش، جوزي كان بالجيش وولادي ألن
الشرف يكونو بالجيش."
بعد ثلاثة ايام من إخلاء جثامين الشهداء، وفي اثناء تقدّم مجموعة من مسلحي القوات بإتجاه مراكزنا لجهة فندق "الرابية مارين" في الصفرا، إستٌشهِد مرافقي شربل إبراهيم، وأُصيب كل من الملازم أول منصور دياب والرقيب اول جوزيف إسكندر رتيب سريتي إصابات خطرة في كل أنحاء جسده وأطرافه، كاد يفارق الحياة لولا أن عمّه الذي يقطن في "الصفرا"، إستطاع إخلاءه إلى مستشفى "الحاج" في "عشقوت" حيث لم يُكمِل الفريق الطبي العملية الجراحية له، لأن عناصر القوات عرفوا بأمره، فلم " يُقطّب" الجرح وبقي مفتوحاً نازفاً ، إلا أن العم "الحربوق" إستطاع تهريب الجريح إلى خارج منطقة سيطرة القوات في البترون حيث عولج وشُفِي بعد وقت طويل من العلاج.
جثة شربل إبراهيم، الذي لا أزال
أحتفظ بصورته في محفظتي، مدّدتها على سرير حديدي ، وأنرت شمعةً فوق الجثمان،
وصلّيت..
بعد يومين، وكانت الرائحة قد إنبعثت من الجثمان، خاطبته:
"مش حاسس أني عم أنهان لأني ما قدرت خليتك عند أهلك ؟"
لكن الجثمان أُخلِي بواسطة الصليب الأحمر، ولم يعُد شربل "يهينني" حيث إستلمه ذوو
الشهيد الذين أواظب حتى الآن على زيارتهم في قريتهم "بيت ملّات" العكارية ، ويكون
شربل حاضراً في كلّ زيارة..
********
هذا انا جورج نادر.. هكذا قاومنا في أدما - الحلقة الثالثة عشر
29 شباط 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثالثة عشر من مذكرات العميد
الركن المتقاعد جورج نادر
إلتحقت بمجموعة أدما بعض القوى التي تمكنت من الإنسحاب من منطقة جبيل بعد سقوط مراكزها بيد مسلّحي القوات، هذه القوى من اللواءين الثامن والسابع، قيادة اللواء السابع لم تُعط الأوامر بالقتال ولم تكن أصلاً مهيّأة نفسياً ولا ميدانياً لقتال المسلّحين، فإستولى هؤلاء على دبابات الكتيبة 74 دون مقاومة تُذكر.
لقد نبهنا، آمرو السرايا في الفوج، مديرية المخابرات في الجيش، بعدما تأكدنا بأم العين من إجتماعات بعض الضباط من اللواء السابع وقاعدة حالات الجوية مع مسؤولي القوات اللبنانية، لكن.. لاحياة لمن تنادي.
معهد التعليم أيضاً يتمركز في البقعة ذاتها، قائده العميد الركن "رياض شمعون" كان قائداً للمدرسة الحربية عندما كنت تلميذاً في السنتين الأولى والثانية، كنّا نزوره أحياناً، بسام وأنا، وفي الليل طبعاً لنطمئنّ عليه وكان يردّد دائماً: "معي بارودتي قولولي وين بدكن ياني روح ".. هكذا وبكلّ شهامة وعنفوان كان هذا الضابط يريد أن يدافع عن مركزه كمقاتل فردي.
قاعدة أدما الجوية تتمركز ايضاً في البقعة، في اللحظات الأولى للمعركة، دُمِّرت الطوافات في مهابطها من قبل مدفعية القوات، لأنها تُركت عرضةً لنار المسلّحين دون أخذ المبادرة الميدانية ونقلها إلى أماكن أكثر أمناً وحيطة. إستشهد جرّاء قصف الهواوين ثلاثة ضباط طيارين: "العقيد بول معلوف شقيق اللواء الوزير إدكار معلوف والنقيب ميلاد موسى والملازم أول ايلي شمعون".
في الحصار، وعند الشحّ بالذخائر، إعتمدنا التقتير والتنبيه الجازم بعدم إطلاق النار إلا بعد التأكّد من إمكانية الإصابة شبه الأكيدة، لكن مطبخ موقع صربا سقط بيد مسلّحي القوات اللبنانية، كما الطريق من ثكنة صربا وحتى معسكر أدما، لذلك تم الإعتماد على السكان المدنيين الذين وبكلّ ثقة، ناضلوا وضحّوا مقدمين الدعم اللازم: كانت النساء تحضّرن الطعام في منازلهن وينقل إلى المراكز العسكرية، أذكر وعرفاناً بالجميل، وإعترافاً بالتقصير، السيدة "سامية" زوجة السيد "أنطوان شلالا" (رحمها الله) وإبنتها "ريما" التي كانت تخاطر بحياتها مجتازة مراكز المسلحين لتحضر ربطات الخبز للعسكريين.. وشربل شلالا شقيق زوجها الذي لم يترك قيادة الجبهة لحظة واحدة، ولا أنسى الأنسة هدى القزي والسيدة ماري زوجة النقيب ميشال شلالا، كذلك يبقى في الذاكرة الوفية شباب طبرجا "الأنصار" الذين قاتلوا معنا ببسالة وإندفاع زخيا الناكوزي وشقيقيه فريدي وفادي، جو قزي وشقيقه وليد، داني ودوري قزي شقيقيه سيرج طاور، درغام درغام ، فادي بواري فرنسوا ناكوزي خليل دميان الأشقاء إميل وإبراهيم شباط.. وآخرون لم أعد اذكر اسماءهم، فعذراً منهم. كما أذكر مع الشكر الكبير شباب بلدة الصفرا "ناجي طربيه، جوزيف عويس، جوزيف وجورج خوري وغيرهم ممن لم تعد تسعفني الذاكرة بإسمائهم، هؤلاء الأشخاص جميعاً الذين ذكرتهم، والذين نسيت اسماءهم، ناضلوا مع جيشهم، قاتلوا معه، دعموه بكل قدراتهم، الشكر من القلب لهم وأعترف أنه لو كنّا بين أهلنا لما عوملنا كتلك المعاملة من أهالي طبرجا وأدما وكفرياسين والصفرا.
رغم الشدّة والصعوبات، ورغم الجراح والالام، يبقى الأمل بالحياة والمستقبل الأفضل، وتبقى ومضات الفرح حاضرة في عيون العسكريين، ولا بأس بسرد "خبريات" أحد الجنود في سريتي ويدعى "خليل مخلوف ". فخليل هذا غريب الأطوار، هادىء الطباع، شجاع حتى حدود التهوّر، لا ينفّذ إلا ما يدور في رأسه، وهل لأحد أن يعرف ما في رأس "المخلوف"؟
كان يتكلم والسيجارة في فمه "ملزّقة " بشفته السفلى حيث كان يولّع السيجارة من أختها". كلّفته تعبئة خزانات الآليات بالمحروقات بواسطة براميل موضوعة في "بيك آب"، حيث كان يملؤها ليلا ً ثم يدور على المراكز ويعبّىء خزانات الآليات. في إحدى الليالي الباردة جاءنا الملازم أول "سليمان سمعان" آمر مركز "كفرياسين – الأوتوستراد"، صارخاً وشاكياً خليل مخلوف لتهوّره ، فقد ملأ البراميل بالبنزين والمازوت، لكن البيك آب لم يدر محركه "فدفشه ولقّطه" نزولاً لكن بقرب مركز المسلحين الذين أطلقوا النار بغزارة ِ بإتجاهه، ولحسن حظه وحظ المراكز الصديقة القربية لم يُصب البيك آب ونجت البقعة من كارثة.
"شو عملت تحت يا مخلوف؟"
"ما شي سيدنا .. أجاب والسيجارة تتحرك بين شفتيه
" كيف ما شي وكانو فجّروك؟"
"والله والله، ليش ت بدّن يفجّروني؟ ما أنا ابن الدولي،
والطريق للدولي، شو خصّن فيي؟"
هكذا كان خليل مخلوف، لا يكترث للخطر ولا حتى للموت،
شأنه شأن أغلب رفاق السلاح.
إحدى الطرائف أيضاً حصلت مع رتيب
من الذين " إستأنفوا " الخدمة إختيارياً ليقاتل إلى جانب رفاقه :
الجو في الخارج قارس، وإذا برجلِ يلفّ الراس والوجه بـ
"الكوفية" الفلسطينية ويرتدي "الكبّوت الفرنساوي" (المعطف الذي كان يرتديه
العسكريون إبّان الإنتداب الفرنسي)، ويحمل في كتفه بندقية "فال" يدخل ويلقي التحية:
"ألله معك سيدنا" باللهجة العكّارية التي تخصّ أهالي
"عندقت"، فوجئت بالزيّ واللحية، لكن من لهجته والتفرّس في وجهه تبيّنت إسمه: إنّه
"أديب الصبّاغ" أحد أظرف الظرفاء في عندقت والقبيات، ربّ عائلة من عشرة أولاد
بالكاد يكفيهم القوت اليومي.
- "شو جابك لهون يا أديب"
- "جايي قاتل معكن"، إستأنفت الخدمة وألحقوني بمعهد
التعليم، وما فيي أبقى بالملجا، لذلك جئت إليكم
- "يا أديب عندك "عرّ" ولاد نحنا مش عايزينك، رجاع ع
المعهد."
- والله والله.. لما كنت أنا عم قاتل أنت وين كنت، أكيد
كنت بعد ما خلقت "
لكنّني لم أرضخ لإلحاحه لسببين: أحتاج إلى أمر قائد
المعهد لألحاقه، ثم أن "برقبته عيلة بتاكل شعر الراس".
في اليوم التالي، وفي أثناء جولة ليلية ( بسام وأنا ) على الخفراء في مركز ال Bel Horizon، إذا بنا لم نجد الخفراء خارجاً كما العادة، والضجيج والضحك الصاخب يُسمع إلى مسافةً بعيدة: العسكريون يتحلّقون حول النار وأديب الصبّاغ في الوسط يخبرهم نكاته والمشاغبات التي كان يقوم بها في اثناء خدمه السابقة في الجيش وكيف رفض آمر سريته منحه المأذونية فأدّى التحية للعلم وطلب منه الماذونية فرفرف العلم وقال له: روح يا أديب ألله معك أنا سامحلك" وأمر العلم يعلو اي أمر آخر.
"ضبّ تيابك ويا الله رجاع معنا ع المعهد يا أديب "، لكن آمر المركز الملازم أول سيمون شاهين إعترض قائلاُ : "الله يخليك سيدنا من جمعتين ما شفنا الضحك الا لما أجا لعنّا الصبّاغ ".
المحزن أنه في 17 شباط وخلال الهجوم الأخير على أدما إستُشهِد أديب الصبّاغ الذي قاتل مع المغاوير رغماً عنهم، في البناية ذاتها التي كانت مسرح نكاته وطرائفه.كما أوجعني إستشهاد إبنه لاحقاً في "كفرحبو" الضنية، مطلع العام 2000 خلال قتال وحدات الجيش ضد التكفيريين.
********
هذا انا جورج نادر.. معركة ادما والمغوار الذي يموت واقفاً ولا ينحني - الحلقة الرابعة عشر
3 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الرابعة عشر من مذكرات العميد
الركن المتقاعد جورج نادر
عند فشل هجوم القليعات الذي قامت به وحدات من اللواءين الثامن والخامس بنيّة فكّ الحصار عن أدما، أيقننا أن إمكانية وصول الوحدات الصديقة أصبحت صعبة. أخبرني منذ فترةٍ قصيرة، أحد القادة الميدانيين من ميليشيا القوات، أن عناصرهم إنسحبت بالكامل من الجبهة وتضعضعت لكن وحدات الجيش لم تتقدّم، القوة الضاربة في مديرية المخابرات، وقوى أخرى من فوج المغاوير تسللت إلى خلف خطوط القوات في فيطرون وداريا لضرب القوات من الخلف مفسحة لتقدّم وحدات اللواءين الثامن والخامس، وإستشهد الملازم أول ميلاد عيد من فوج المغاوير كذلك الرتباء جورج قرعة وعبدو التنوري، وإستشهد أيضاً النقيب أنطوان جريج من اللواء الخامس ( إبن دورتي )، لكن أحداً لم يتقدّم خطوة واحدة، ساتر ترابي " أعاق " تقدم الدبابات... والأسباب؟ إسألوا من الذي كان يدير تلك العملية.. وإسألوا أيضاً هل حوسب أحدَ على هذا الفشل؟
الإمرة القيادية كانت للصديق بسام، إبن الدورة لأنّه في الطليعة، وورد إسمه ثانياً في مرسوم الترقية. خطّطنا مع ضباطنا كيفية التسلّل من أدما عبر وادي "المعاملتين – غزير – دلبتا – وطى الجوز" ثم الإلتحاق بخطوط الصديق من المواقع الي تسمح بالتسلّل والإلتقاء بالقوات الصديقة، وذلك بعد تدمير الآليات والعتاد والذخائر، كون أدما تقع في منبسط محاط بتلال يسيطر عليها عناصر القوات والدفاع عنها مكلف للغاية.
عند الهجوم الأخير على أدما بتاريخ 17 شباط 1990 فجراً، أُغرِقت البقعة بقذائف المدفعية من العيارات كافة وقد قُدّر عددها بحوالي 40 ألف قذيفة سقطت على مساحة لا تتعدّى 3 كلم مربع.
بدأ الهجوم من محاور ثلاث :
• محور العقيبة – البوار – الصفرا – أدما وكان هجوماً
ثانوياً
• محور المعاملتين – أدما وكان هجوماً تضليلياً
• محور فتقا – أدما حيث حشد المسلّحون قواهم الرئيسية
أُفيد عن خرق مركز ال Bel
Horizon في تلال أدما، فتمّ غلق الثغرة بقوى الإحتياط المحلّية، نظر إلي بسام بقلق
:
"طالع شوف شو الوضع وسكّر الجبها" ونظر إلي نظرة أحسستها
للوداع، فقد إخترقت قلبي وجسمي ولم أدري لماذا وجّه إلي تلك النظرة؟ هل هو يقول لي
"دير بالك ع الشباب وخلّيك واقف متل ما بعرفك ؟ "
توجّه بسام إلى البقعة لرفع "معنويات" العسكريين، وكانت قد أصيبت ملالة المضاد 23 ملم بقذيفة مدفعية عيار 130 ملم مباشر من مربض شننعير التابع للقوات، فأصيب الرقيب اول الياس شمعون آمر الملالة بجروح وحروق خطرة، لأن الطريق الوحيدة التي تصل معسكر أدما بمركز تلال أدما، مضروبة بالنار بواسطة المدفعية المباشرة والتي لا نملك وسائل إسكاتها نظراً لبعد المسافة.
ما إن وصل حتى اصابت الـ"جيب" خاصته قذيفة 130 ملم مباشرة أدّت إلى إستشهاده على الفور، مع مرافقه الرقيب جورج يزبك، القذيفة أصابت من بسام الرأس والأطراف بشظايا كبيرة وسامّة، أما الرقيب يزبك فإصابته لم تشوه منه الوجه ولا الجسد مع أنها كانت قاتلة.
ناديت بسام على الجهاز عدة مرات. دون جواب وبعد دقيقة إتصل بي مساعد آمر الفصيلة الرقيب أول بولس مسعود: ال 28 إستشهد.. وأنا هون.. (28 هو لقب آمر السرية الأولى في فوج المغاوير وكان لقبي 26). أحسست أن قطعة مني قد فارقتني إلى الأبد.
تسلّم إمرة المركز الرقيب أول بولس مسعود، رتيب شجاع يتمالك أعصابه ويحسن التصرّف في الأوقات الحرجة، لكن عند إزدياد الضغط على المركز، طلب مسعود التعزيزات، فأرسلتُ فصيلة الإحتياط بإمرة الملازم أول "جوزيف عون" وكنت قد أخبرته عن إستشهاد آمر سريته وأن الذخائر شحيحة لذلك عليه الإقتصاد بالرمايات. نفّذ المهمة بصعوبة لكن بشجاعة فائقة، فصمد المركز.
الهجوم الثانوي تمّ صدّه
بسهولة، لكنّ زجّ القوى من قبل قيادة الميليشيا وإزدياد الضغط على مركز ال Bel
Horizon عقّد الوضع الميداني فكان المشهد كالتالي :
خمسة شهداء: النقيب بسام جرجي قائد القوى، جورج يزبك
مرافقه، حنّا بشور، يوسف الهاشم من معهد التعليم، شمعون ضاهر.
الجندي دوري ضاهر من سريتي شقيق الشهيد شمعون جاء إلى
مخزن الفوج لنقل ذخيرة الـ " ماغ " (الرشاش البلجيكي حيث يوجد واحد في كل حضيرة )
فسألته:
"وين شمعون.."
"مات.."
قالها ببرودة وكأنه يخبرني عن
موت شخص لا يعرفه البتة.. فصعقت للخبر كون الجندي شمعون هو حديث الخدمة وغير خبير
بالأمور القتالية،
"أكيد أنت؟" وبعدما لاحظ دهشتي وحزني:
"إي سيدنا، وإزا كان مات شو هوي أحسن من دوري أبن أختك
وشربل إبراهيم والكابتن جرجي؟"
عجزت عن الكلام، وفي لحظة مرّت صور كل الشهداء أمام
عيني، سألت:
"يا ألله.. لماذا الحرب.. ؟ ولماذا مكتوب على أن أخسر كل
من أحبّ؟"
كبُر هذا الجندي في عيني وخفت أن أخسره هو أيضاً لأنه
أصيب بشظايا عدّة ولم يتوقف عن إطلاق النار ولم يذرف دمعة واحدة على أخيه الشهيد"
في بعد رجال متلو اليوم..."
أقامت مدفعية الجيش سدّاً نارياً أمام المركز المهدّد. الذخيرة الإحتياط نفذت، ولم يبق إلا وحدات النار الموزّعة على العناصر وفي الآليات (مصفّحات وملالات ) كذلك مربض الهاون 81 ملم، فقد نفذت ذخيرته تماماً.
الإتصالات اللاسلكية مشوّشة بحيث لم أكن استطيع إرسال إفادة من جملة واحدة إلا على دفعات ولمدّة لا تقلّ عن عشر دقائق. كنّا قد نظّمنا " أوامر إشارة " أساسية وبديلة مع عشر تردّدات لكل أمر إشارة، تُكتب بخط اليد على 45 نسخة وتوزّع على المراكز ليلاً، لذلك كنّا نستطيع نقل وتلقّي الأوامر، ولو بصعوبة، بواسطة الأجهزة المركبة على الآليات بطريقة التنقّل بين التردّدات بواسطة شيفرة متّفق عليها.
لا بد لي من ذكر المقدّم " إدمون غانم " قائد معسكر تدريب الصفرا، الذ ي، وبالرغم من كونه يعلو قائد الفوج رتبة، كان يقاتل بشجاعة وحماسة الأحداث، فصمد معسكره بالرغم من إختلال ميزان القوى مع الميليشيا المهاجمة.
بعد إستشهاد بسّام، اصبحت إمرة سريته للملازم أول جوزيف عون، فقرّرت تطبيق خطّة الإنسحاب الراجلة وتفجير الآليات، وأعدينا الترتيبات اللازمة للإنسحاب التدريجي بالحضائر لكن قيادة الجيش كانت قد أقرّت إنسحاب القوى من أدما فأرسلت لهذه الغاية" لجنة الوساطة "بين الجيش وميليشيا القوات اللبنانية والمؤلفة من: المحامي "شاكر أبو سليمان" والمطران "خليل أبي نادر" والأباتي "بولس نعمان".
وصلت اللجنة في سيارة إسعاف
تابعة للصليب الأحمر اللبناني وبأوامر واضحة من قيادة الجيش: الإنسحاب الكامل
والفوري للقوى من أدما. إعترضت على فكرة الإنسحاب لكن الأمر جاء من العماد عون
شخصياً، أجبت :
• "سيدي أنا لست مهزوماً، أحتاج إلى القذائف فقط،
معنويات العسكريين ممتازة بالرغم من الخسارة الجسيمة في الأرواح"
لكن الأوامر هي الأوامر وما علينا إلا التنفيذ ، أغلب
العسكريين بكوا قهراً رافضين التنفيذ:
• "ليش نحنا خسرانين تا بدّن يسحبونا؟"
سالت الأباتي نعمان:
• "ومن يضمن لنا الطريق؟
• "نحنا" أجاب الأباتي نعمان، إستحصلنا على تعهّد بعدم
التعرّض لكم.
• أنا لا أثق بأحد، أنتم ضمانتي، لذلك: الأباتي نعمان
يصعد في الآلية التي يأمرها الملازم أول عون، والمطران ابي نادر في الآلية التي
يأمرها الملازم اول دياب، والمحامي ابو سليمان في السيارة التي أكون فيها، وإذا قام
عناصر القوات بأي عمل على الطريق، فأول من يُقتل هو أنتم، تجهّمت وجوه أعضاء اللجنة
جرّاء اللهجة الحازمة و" الوقحة " وسمعت الأباتي نعمان يتكلّم على الجهاز اللاسلكي
مع العماد عون:
• "ضابط مجنون وما بيحترم حدا".. (اليوم، الأباتي نعمان
أطال الله بعمره من الأصدقاء الذين أعتزّ بصداقتهم).
تمّ ترتيب القافلة من آليات عسكرية ومدنية توجّهت من أدما بإتجاه المعاملتين – يسوع الملك صعوداً حتى "داريا" والدخول في جهازية الصديق.
رغم إعتراض لجنة الوساطة، وإصرار قيادة الجيش وبالتالي قيادة الفوج على الإنسحاب الفوري، أصرّيت على إصطحاب الجرحى وجثامين الشهداء والآليات كافّة، إلا الرقيب "بسام رزق" الذي ترجّل من آليته حاملاً رشاشه "الماغ " وكان يتجاوز الآليات وكلَ يعتقد أنه صعد إلى الآلية التي خلفه، إلا أنه لم يصعد البتّة: فضّل البقاء والإنتقام لشقيقه دوري الذي إستُشهد في بداية المعارك، وهكذا كان: شقيقه في البداية، والنهاية كانت إستشهاده هو. وقد أخبرني السكان لاحقاً أن بسام رزق بقي في أدما لحين دخول المسلحين إليها فكمن لهم وحصلت معركة غير متكافئة أصيب بنتيجتها إصابة بالغة، لكن عمد المسلحون إلى قتله بالخناجر.
لا بد من ذكر حادثة حصلت مع
القافلة عند حاجز ال Winners في المعاملتين:
عند وصول سيارتي التي كانت أول القافلة ترجّل المحامي
شاكر ابو سليمان ( رحمه الله ) وخاطب ألمسؤول : Mon general بدي عرفك ع " الكابتن "
نادر.
• "أنت الكابتن نادر؟"
• " إي.."
• "ماعرفتني"
• "مبلا أنت الرائد "مالك"
• " أنا الجنرال مالك (قال هذا وفق "رتبته " في ميليشيا
القوات)
• "أنا بعرفك الرائد المتقاعد فؤاد مالك.. " أدار ظهره
ومشى غاضباً.
لكن الرائد مالك أنقذ الموقف
الخطر، وأعترف له بالمبادرة السريعة والشجاعة:
خلال مرور الآليات التي تقل عناصر المغاوير على الحاجز،
وكنت واقفاً على الحاجز للتأكد من مرور الآليات بسلامة، إذا بقذيفة " آر بي جي "
تنطلق في الهواء عن طريق الخطأ من قبل أحد عناصر القوات، فإستدارت مدافع المصفّحات
والرشاشات "الملقّمة" من قبل آليات المغاوير بإتجاه الحاجز، ولوهلة تخيّلت أن كل
الذين على الحاجز سيموتون بلحظة واحدة بمن فيهم أنا ومرافقي "غسان الراعي وجوني
عبدو".
الرائد مالك ركض إلى الوسط رافعاً يديه صارخاً: " بالغلط
بالغلط منّا نحنا ما حدا يقوّص."
مبادرة شجاعة أنقذت من مجزرة حقيقية.
إن ما أراح ضميري لاحقاً في هذه المعركة أمران :
• لم نساوم، ولم نتراجع ولم نرضخ للإغراءات والتهديدات، قاتلنا بشرف وبسالة مع إدراكنا للواقع الميداني السيّء تحت الحصار، والتمركز الجغرافي لوحدات المدفعية التابعة للقوات بحيث تستطيع "إصطياد" اي هدف بالرمايات المباشرة دون التعرّض للخطر كونه لم يكن لدينا أسلحة ترمي على المسافات البعيدة، ليس أكثر من 3 كلم حدّ أقصى. وقد أخبرني لاحقاً أحد ضباط المدفعية الذي أحبه وأحترمه وكان مدربي في المدرسة الحربية، الرائد عبدو عطالله أنه سمع على التنصّت، رامي المدفعية في القوات " يشارط" زميله لاسلكياً أنه يستطيع تدمير أعمدة الكهرباء في أدما مقابل لوح من الشوكولا، وقد ربح "الشرط".
• إن كل الشهداء التسعة الذين سقطوا، كانت إصاباتهم جميعاً قاتلة، حتى ولو كنا في غرف عمليات أحدث المستشفيات. لم يستشهد أحد متأثراً بجراحه، حتى الذين اصيبوا بجراح بليغة كالرقيب أول جوزيف إسكندر والرقيب طنوس حنّا الذي اصيب بشظايا بليغة في أنحاء جسده وفي وجهه.
********
هذا انا جورج نادر.. لهذه الاسباب لم نربح حرب الالغاء فكان 13 تشرين الاسود - الحلقة الخامسة عشر
7 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الخامسة عشر من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
اندلعت معركة القليعات في 31/3/1990 بين لواء المشاة الخامس وميليشيا القوات نتيجة هجوم المسلحين على مراكز الجيش في القليعات وجوارها. فشل الهجوم بصعوبة، كذلك فشل الهجوم الذي قامت به وحدات الجيش على منطقة سن الفيل والنبعة. بعدها إنتهت المواجهة المباشرة بين الطرفين وترسّخ قيام" ستاتيكو " عملاني – أمني : ميليشيا القوات تسيطر على الأشرفية وسن الفيل والنبعة والدورة وجبيل وكسروان بإستثناء القليعات، والجيش اللبناني يسيطر على قضاءي المتن وبعبدا، وإقتصرت "المعارك " على مناوشات متقطّعة على محاور التماس بين القوى المتجابهة.
برأيي أن الجيش خسِر المعركة لأنه لم يربحها، وذلك للأسباب التالية :
لم يُكمل الجيش المعركة التي بدأها في شباط 1989 تحت ضغوط الوساطات، فلو أكملها لكان أنجز المهمة بسرعة قياسية، ولكانت ميليشيا القوات قد إنتهت، وذلك بإعتراف أحد قياديي القوات السابقين الذي أخبرني بتفاصيل المعارك وكيف إنهارت معنويات القوات، "نهار 14 شباط فضي المجلس الحربي وكان فيكن تاخدوه بكل سهولي لو.. كمّلتو."
فشل المخطّط الذي كان مقرّرا تنفيذه في 14 آذار 1990 بسبب "إعلام" قيادة اللواء الخطيب والطلب منها أن تضغط من الشمال بإتجاه المدفون لإلهاء مجموعات القوات في جبيل وإجبار قيادتهم على حشد القوى في تلك المنطقة، ثم إعلان حرب التحرير في النهار ذاته الذي كان مقرّراً مهاجمة ثكنات القوات، وإستنزاف قوى الجيش في القتال ضدّ جيش الإحتلال السوري بالعديد والعتاد واللآليات والذخائر، بينما كانت ميليشيا القوات تعيد تنظيم صفوفها وتستفيد من أخطائها وتعوّض النقص في عديدها وعتادها، وتستعدّ للمعركة المقبلة مع الجيش، وكان مقاتلوها يوجّهون عقائدياً وعسكرياً لقتال الجيش وإعتباره العدو الأكبر وتهديد الضباط الذين لم يخضعوا للإغراءات المادية، وضباط المغاوير في طليعتهم.
تُرِكت وحدات الجيش تُنخر من قبل جهاز أمن القوات، ولمدّة سنين منذ ما قبل إغتيال العميد الركن خليل كنعان قائد اللواء الخامس في منزله من قبل جهاز أمن القوات (ايلول 1986)، والصندوق الوطني التابع لمالية القوات أظهر مدى تورّط قسم كبير من الضبّاط في الجيش مالياً وسياسياً، وكان هناك غياب شبه كامل لمديرية المخابرات عن هذا الموضوع.
إن القوى الإقليمية والدولية عملت على تحريض قيادة القوات على القيام ب "عمل ما" ضد "قوات عون" وتجلّى ذلك في حديث السفير الأميركي جون ماكارثي بعد زيارته الرئيس معوض، وإعتراف الدول العظمى ب " شرعية " الرئيس الياس الهراوي، وبالتالي نزع ما تبقّى من الشرعية عن حكومة العماد عون.
بعض ضباط الجيش والرتباء والأفراد الشرفاء، الذين لم يتلطّخوا بالمال والسياسة والمفعمين بالولاء والإلتزام والمناقبية، قامت على أكتافهم جولات القتال منذ بدايتها ولم يتردّدوا يوماُ ولا فتُرت هممهم ولا فكروا يوماً بالتراجع، هم فخر الجيش وعزّة الوطن.
إنتقلت سريتي بادلةً سرية أخرى من الفوج لتتمركز في منطقة "بسكنتا" وجوارها، منطقة جميلة المنظر، أهلها وادعون محبّون، جارة لصنين الشامخ، ومسقط رأس أديبنا الخالد ميخائيل نعيمة، ناسك الشخروب.
للحرب قوانينها وأعرافها، فبالرغم من إنحلال الأخلاق العسكرية عند البعض، وتفلّتهم من القوانين والإنضباط العسكري، بقيت، ولي الشرف بذلك، عسكرياً حتى العظم، بالرغم من الجروح المعنوية التي أصابتني في الصميم جرّاء إستشهاد أحبّ الناس إلى قلبي و"أطيب شباب" في الفوج. أخبر هذه الحادثة للدلالة على الإلتزام الأخلاقي والمعنوي والتمسّك بالإنضباط والمناقبية العسكرية:
أحد المواطنين المدعو بسام ضو (
لا زلت على تواصل معه ) جاءني مرة بعد حوالي أسبوعين من تمركز سريتي في بلدته
"الشاوية" المجاورة لبسكنتا :
" سيدنا بدي خبرك شغلي لازم تعرفا "خير نشالله يا بسام؟"
في مرا هون مانعينا تطلع من بيتا لأنو جوزا أسمو سليم
ضو..بالقوات "
"كيف هالحكي، مين منعا؟"
"اللي كانو قبلك"
"قوم.. خدني هلق لعندا "
عند دخولنا منزل السيدة ( وهي قريبة بسام ) فوجئت وشهقت خوفاً، فطمأنتها وروت لي كيف أنه من الممنوع عليها مغادرة المنزل حتى لشراء بعض الحاجيات الضرورية، تعيش مع والدة زوجها الذي ينتمي لميليشيا القوات ويقاتل في صفوفها.
"شوفي مدام، من هلق وبالرايح فيكي تروحي مطرح ما بدك وساعة اللي بدك حتى لعند جوزك واللي بيتعاطى معك بفكّلو رقبتو"
لم تصدّق ما قلته، وبقيت ليومين تاليين تلازم منزلها كالعادة، إلا عندما أصرّ عليها قريبها بسام ضو مغادرة المنزل وزيارة زوجها.. وهكذا كان.
بعد إصابتي في 13 تشرين، أخبرني أحدهم أن السيدة ضو وعائلتها قد اقاموا قداساً "عن نيتي "، وبعد حين جاءت مع زوجها سليم ضو المقاتل في ميليشيا القوات اللبنانية ترافقه والدته لعيادتي، شاكرين حسن المعاملة.
حادثة أخرى مؤلمة حصلت للفوج، إستشهاد الملازم اول شربل بو نصّار من السرية الثالثة.
هذا الضابط العصامي، الشجاع
المندفع، الملتزم بجيشه حتى الرمق الأخير، أحببته لصلابته وصراحته وشجاعته
وعصاميته، أذكر في خلال إستطلاع منطقة قناة باكيش – عيون السيمان، أنه اسرّ إلى
رفيق دورته الملازم أول الياس ساسين :
"بشرفك شوف شو هالمنطقا الروعا، في أحلى من أنو يموت
الواحد بهالجبال الحلوي؟"
أرسل زوجته تانيا وإبنه طارق إلى جزين "تا حتى ما ياخد
ماذونيات ويترك عسكريتو"
بعد في ضباط من هالنوعيي؟
كان له ما إشتهى : إستشهد في "الزبوغا" بينما كان يطارد مجموعة من مسلحي القوات تسللت في الوادي بين الزبوغا وداريا، والتي تصل إلى جسر داريا، فتلقّى رصاصة في قلبه، إستشهد على الفور، ولم يتمكن الضباط والجنود من سحب جثته إلا بعد عدة ساعات، نظراً لوعورة المكان.
المحزن ليس إستشهاده وحسب، بل مقتل زوجته وإبنه، بعد عام على إستشهاده، في منزلهما في عين الرمانة.
إستمرّت الحال المهترئة في "المناطق الشرقية" لمدة ثمانية أشهر، حتى إجتاحت قوات الإحتلال السوري المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش.
عملية 13 تشرين 1990، أحكمت قبضة الإحتلال على الوطن والجيش، فدخل الوطن المثقل بالجراح حقبة سوداء دامت 15 سنة حيث كان "الوالي السوري" يعيّن رئيس الجمهورية والوزراء والنواب، وكان "الزعماء" يتسابقون لكسب ودّ ضبّاط المخابرات السورية، فزحفت قوافل المستوزرين والمستنوبين ( اللاهثين للنيابة ) والمسترئسين إلى مقرّ "الحاكم" السوري في عنجر.
بتاريخ 12 تشرين الأول 1990،
وردتني برقية من العمليات مفادها :
"يطلب من المجموعة الثانية في فوج المغاوير التصدّي
للقوات السورية التي ستقتحم المناطق الحرّة على الشكل التالي:
اللواء المدرّع ( كذا) وفوج الوحدات الخاصة ( كذا)
واللواء الميكانيكي ( كذا ) على محور راس المتن – بعبدات ومحور ضهور الشوير –
بعبدات.
لم أعد اذكر أرقام الوحدات المهاجمة، لكن وبحسب معرفتي المتواضعة بتشكيل الوحدات السورية، فإن عدد الدبابات التي ستهاجمني في صباح الغد ( 13 تشرين ) يفوق عدد القذائف التي بحوزة سريتي.
ضحكت.. وإن شرّ البلية ما يضحك، لكنني عسكري، وليس لي إلا تنفيذ أمر قيادتي.
عند الفجر، إستيقظت، حلقت ذقني و"تحمّمت" فبادرني أحد الظرفاء في سريتي: " شو ؟ مبيّن عندك شي ضهرة؟"
أجبته : "عندي أحساس أنو بدّي أنصاب اليوم، وبالمستشفى بركي قالوا شو هالضابط الوسخ الي جايبيلنا ياه".
عند الساعة التاسعة طُلِب إلي أرسال فصيلة مصفّحات لدعم السرية الثانية ( التي يأمرها النقيب شامل روكز ) على محور الدوار، فأرسلت فصيلة الملازم أول يوسف الحصني. وعند العاشرة تقريباً وردت معلومات أن دير القلعة في "بيت مري" قد سقط بيد قوات الإحتلال السوري التي لا تقل عن فوج وحدات خاصة ( فوج الوحدات الخاصة السوري يتألف مبدئياً من كتائب وحدات خاصة ويفوق عددياً بثلاثة أضعاف فوج الوحدات الخاصة في الجيش اللبناني ).
صعدت إلى جيب الويللس سائقاً
وعلى يميني رتيب السرية الرقيب أول "غسان الراعي " بنيّة إستطلاع ما يجري، و "بس
قلّعت " قفز الرقيب "هاني عبدو " إلى الجيب :
"لوين رايح ؟ ومين قلك تطلع معي ؟ خليك هون" فنزل من
الجيب، ليقفز إلى المقعد الخلفي العريف "جوزيف جريج ":
"أسم الله وأنت كمان ؟ يلا نزال من الجيب! "
"ما بتركك تروح لوحدك !"
"نزال بقا بدنا نمشي" ولأول مرة في حياتي اسمع عسكرياً
يرفض الأمر:
"ما بدي أنزل، ما بتركك تروح وحدك.." ثم عاود الرقيب
هاني عبدو الصعود إلى الجيب، عندها صرخت بأعلى الصوت آمراً :
"نزلو تنيناتكن هلق يلا ت شوف.. وتفوّهت بكلام ناب".. لم
يحرّكا ساكناً كأني بهما يعرفان ما ينتظرهما، ولو أدركت ما سيحدث بعد وقت قصير
لأجبرتهما بالقوة على النزول من الجيب.
" يلا يا سيدنا خلصنا بقا تركن وبلا ..." قالها رتيب
السرية غسان الراعي.
وصلت إلى مستديرة "بيت مري" حيث افادني أحد السكان أن "السوريين" في دير القلعة.
"جهّز السرية أنا جايي" قلتها لاسلكياً للضابط الباقي في سريتي التي تتمركز في منطقة "مار شعيا – برمانا"، كنت أعرف مسبقاً نتيجة المواجهة" سرية تنقص فصيلة ستهاجم فوج يفوق عديده بأكثر من عشرة اضعاف عديد السرية، عملية مناقضة لأ بسط مبادىء القتال، إنها ضرب من الجنون.
********
هذا انا جورج نادر.. 13 تشرين اليوم الاسود ولهؤلاء أدين بحياتي - الحلقة السادسة عشر
9 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة السادسة عشر من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
عند عودتي في الطريق الداخلية لبرمانا، وبوصولي إلى قرب مدرسة"ال هاي سكول"سقطت قذيفتا مدفعية من عيار 130 ملم بالوقت ذاته، إنّها"هطلة"بالمعنى العسكري التقني، واحدة أمام جيب"الويللس"بمترين والأخرى وراءه على المسافة ذاتها.
إستُشهِد على الفور الرقيب"هاني عبدو"بشظية كبيرة إخترقت جبينه والعريف"جوزيف جريج" بشظية في رأسه بين عينيه، وأذكر أنني سمعته يصرخ: "يا عدرا.." ووقع من فوق راسي إلى الأرض، واصيب الرقيب أول غسان الراعي بجروح بليغة لكن غير قاتلة.
نظرت، فإذا يدي اليسرى شبه مقطوعة عند المعصم"ومعلّقا بشقفة جلدة"، ولا اشعر بها إطلاقاً، واليد اليمنى عند الزند مهشّمة ولم أكن أدرك أن وجهي وفكّي الأيمن ورقبتي من الأمام والخلف قد اصيبت بالشظايا، كذلك راسي واسفل الظهر.
خلال ثوانِ معدودات، شعرت بإحساسِ غريب:
"هل هكذا أحسّ شقيقي جوزيف قبل موته عندما اصيب، أو هل هذا هو إحساس بسام جرجي في دقائقه الأخيرة؟". مرّت مراحل حياتي في ذاكرتي بسرعة هائلة وادركت حينها انني مائت لا محالة، فهل هكذا يكون الموت، و "ليش بعدني واقف وعم فكر؟".
عرفت لاحقاً من سكان المحلّة، أن مواطناً من آل سرور إستشهد أيضاً، وهو صادف مروره في المكان لحظة سقوط القذيفتين، وكان أصمّاً لم يسمع أصوات القذائف ليختبىء لسوء حظّه.
إلى مستشفى "ضهر الباشق" الحكومي أقلني المعاون أول "عبدو بو جرجس" من السرية الثالثة والذي كان يمرّ مصادفةً في المكان بسيارته الخاصة والتي كانت لا تتسع لأكثر من راكب واحد بسبب العتاد الذي كان يحمّله فيها مرسلاً من آمر سريته النقيب جورج شريم، عندما رآه الرقيب أول غسان الراعي:
"خود الكابتن مخطر، أنا بعيش، بس الشباب ماتوا"
الدمار الهائل والحجارة والردم على الطرقات ألزمت "أبو جرجس" بالترجّل لمرّات عدة من سيارته وإزالة العوائق من طريقه حتى وصل بعد عناءِ إلى المستشفى: حاول الأطباء "تقطيب" الجروح في يدي اليسرى بدون تخدير ( بنج ) لوقف النزف، القذائف تتساقط في محيط المستشفى والأطبّاء تارة يتركونني خوفاً، وطوراً يعودون بدافع الضمير المهني لمحاولة إنقاذي.
"يا حرام ع شبابك" صرخت إحدى الراهبات في المستشفى وعرفت أن جثة الرقيب هاني عبدو المهشّم الراس وصلت إلى المستشفى حيث وُضِعت في الغرفة التي أُعالج فيها وأدركت أنه إذا غبت عن الوعي فسيتركونني مع القتلى، لذلك حاولت جاهداً ألا أغمض عيناي وكنت دائماً اتكلم مع الأطباء والممرضين والراهبات لألفت إنتباههم، النزيف من الجروح الكثيرة لم يتوقّف.
• "لو كلن تركوك أنا ما بتركك" قالتها الأخت "ماري روز" من راهبات المستشفى.
وصل النقيب "مارون حتي" رئيس الفرع الثالث في الفوج ( ضابط العمليات ) ترافقه ملالة "مليانة عسكر" فئات دمهم مماثلة لفئة دمي ( A+) فكانت دماء هؤلاء العسكريين تجري في عروقي دون فحصها لضيق المجال، لتعوّض عن النقص في كمية الدم في عروقي (22 وحدة دم).
"خدوني ع أبوجودة"، عندما أدركت أن العلاج في "ضهر الباشق" مستحيل لضعف الإمكانات والتجهيزات الطبية، وتواضع الطاقم الطبّي.
"هيدا رقم"جورج كتانة "خليه يبعتلي Ambulance تا تاخدني ع أبو جودة"
عند وصول سيارة الإسعاف ودخول المسعفين، سقطت قذيفة في باحة المستشفى فا "إنفخت دولابين" إستُبدِلا بدواليب سيارة فيات.
• "يلا بنّجو خلينا نعملو عمليي
بركي بيبقى طيّب"، قالها الطبيب في غرفة عمليات مستشفى ابو جوده في جل الديب، وعلى
وجهه علامات الهلع ظاناً أني غائب عن الوعي.
• "ما بخليك تبنّجني إزا ما بتجيب الدخيري" ( ذخيرة عود
الصليب التي كنت أعلقها دائماً برقبتي وكنت على إيمانِ تام بانني لن اموت طالما هي
بحوزتي ).
• "بلا دخيري بلا بلّوط خلينا نبلّش".
• ما بخلّيك تبنّجني قبل ما تجيب الدخيري.
فتّش الطبيب عن الدخيرة فوجدها
في سلّة المهملات مع ثيابي المشبعة بالدم:
• "وين بدّك علّقها ؟" قالها بسخرية كون يديّ ورقبتي
مهشّمة.
• "علقا بأجري" وهكذا كان.
• "أنت شو اسمك "قلتها للطبيب الجرّاح.
• "روبير جبيقة"
• يلا بنّج وأشتغل اجت إيامكن". إشارة إلى الوزير إيلي
حبيقة الذي دخلت مجموعاته إلى"المناطق الشرقية".
أسبوعان في المستشفى وستة أسابيع في المنزل، الفم مقفلَ تماماً، اليدان "مجفصنتان" ومربوطتان إلى الأكتاف، الألم العميق يلازمني ليل نهار (لا يزال حتى الآن ولو بوتيرة أخفّ). لا بد لي من شكر هذا الطاقم الطبي الشريف: الدكتور الصديق "روبير حبيقة"، والدكتور "إيلي عبد الحق"، وطاقم التمريض، بالأخصّ في غرفة العناية الفائقة الممرّضة ليلى، أجهل إسم عائلتها، بالإضافة إلى العسكريين الأوفياء الذين لم يتركوني لمدّة اشهر عدّة، حيث كانوا مع زوجتي التي أشكرها بمقدار شكري لهم، يقومون على خدمتي وأنا مقفل الفم، يداي مربوطتان لا استطيع الحراك ولا الكلام، وهم: ميلاد ابو رجيلي، برق ابو رجيلي، جوني عبدو، جوزيف تقلا، طوني عيسى، والمتطوّع الإختياري مارون ابو كسم.
للأمانة التاريخية وإنصافاً لضابط شهم (وغيره كثر من اللذين أُجبِروا على قتال رفاقهم) لا بد لي من أن اروي ما حدث صبيحة 13 تشرين الأول 1990:
خلال تقدّم قوات الإحتلال السوري
على محور راس المتن – بعبدات، كانت كمائن "الأنصار" على طول المحور ترصد التقدّم:
• "دبابات لبنانيي ونمرتها لبنانيي ( الرقيمة ) وعليها
العلم اللبناني"
• أوعا حدا يقوّص عليها، هكذا كانت أوامرنا لعناصر
الكمين، فكانت النار بإتجاه الآليات السورية فقط ولم تُطلق رصاصة واحدة بإتجاه
آليات الجيش اللبناني، التي "أُجبرت" على التقدّم أمام وحدات جيش الإحتلال السوري.
وصلت الكتيبة 11 من لواء المشاة الأول إلى مشارف بعبدات دون مصروف ذخيرة، أي أنها لم تطلق النار ولو طلقة واحدة بإتجاه مراكز سرية المغاوير الأولى، ترجّل قائد الكتيبة الرائد "أحمد مشيك" رافعاً يديه: "شباب أنا الرائد أحمد مشيك من اللواء الأول نحنا أخوة السلاح ما حدا يقوّص"، فإستقبله ضباط السرية الأولى من فوج المغاوير وتعانقوا، نادى الرائد مشيك على جهاز "الموتورولا" قائد فوج المغاوير المقدم جهاد شاهين:"سيدي أنا الرائد مشيك أنا والشباب بأمرك."
هكذا تصرّف الضباط الشرفاء فخر الجيش ومثال المناقبية العسكرية.
لكن وللأسف هل تصرف جميع الضباط الذين "قمعوا التمرّد" بهذه المناقبية؟ بالطبع لا. قصص وأخبار كثيرة يرويها ضباط وعناصر المدرسة الحربية ومقر عام الجيش ووحدات القتال التي قاومت جيش الإحتلال في بيروت وسوق الغرب والدوار وضهر الوحش، عن ممارسات اقل ما يقال فيها أنها ميليشياوية، قام بها ضباط بقيادة العماد لحود ( ولو لم يكن قد أعطى أوامره بذلك، لكنني متأكّد أنها كانت أوامر قوات الإحتلال) من "وضع اليد" على سلاح وآليات وتجهيزات، وإهانة رفاق السلاح وشتمهم وما إلى هناك من تصرفات لا تليق بالبزّة العسكرية. وبعض هؤلاء تبوّأ مناصب مهمة في هيكلية القيادة خلال فترة الإحتلال السوري، التي دُرج على تسميتها بـ "الوصاية" للتعمية عن حقيقة هذه الإحتلال، وللدلالة على قصور الشعب اللبناني وحاجته إلى "أوصياء" على حياته السياسية والعسكرية.
وفاءً لدماء الشهداء، وجهد الرفاق الذين قاتلوا بشرف جحافل تفوقهم باضعاف عددا وعتاداً، أرى من المفيد أن أذكر مجازر قوات الإحتلال بحقّ عناصر اللواء العاشر في ضهر الوحش واللواء التاسع في الحدث، والإعدامات الميدانية بحق العسكريين، والإعتداءت على المدنيين العزّل ومصادرة الممتلكات، أعمال تنمّ عن "أخلاق" جيش الإحتلال وتقاليده العسكرية.
تحيّة إجلال لأرواح المقدم"جورج زعرب"والرائد"البير طنوس"والضباط الذين إختطفوا إلى معتقلات المزّة السورية ولا تزال أخبارهم"مقطوعة"ولا من يطالب بمعرفة المصير.
********
هذا انا جورج نادر.. الوطن بكامله تحت الإحتلال - الحلقة السابعة عشر
14 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة السابعة عشر من مذكرات العميد
الركن المتقاعد جورج نادر
بعد تسلّم العماد "إميل لحود" قيادة الجيش، سادت مرحلة من الإحباط صفوف العسكريين الذين قاتلوا بقيادة العماد عون، تشكيلات العسكريين "تأديبياً" بمجرّد لفظ اي جملة أو عبارة تنمّ عن عدم الرضى، فكانت الألوية التي تنتشر جنوباً وبقاعاً وشمالاً "مأوى" للمؤدبين كما درجت العادة على تسميتهم. (ليست تلك الوحدات للتأديب ولا هي مأوى، هي وحدات مقاتلة من الجيش لها كيانها وتاريخها كما باقي الوحدات، إنّما البعد الجغرافي لمناطق تمركزها أعطى لها هذه الصفة).
كنّا كالمصابين بالبرص في أيام السيّد المسيح: يُطرح المريض خارج القرية لأن مرض البرص يُعتبر عاراً على المصاب. لم يكن في أغلب الأحيان، ليجرؤ رفاق لنا على إلقاء السلام في الأمكنة العامة "حتّى ما ينشمس"، واقول بمعنى الجمع: نحن، أي ليس كل الضباط الذين قاتلوا بقيادة العماد عون، بل حفنة منهم رفضت "الزحف"على أبواب ضباط المخابرات السورية، لأنه وللأسف، قسم منهم "إستقتل" لإسترضاء "الولاة" السوريين بالهدايا "والنساء" للحصول على الرضى بادىء الأمر، ثم لنيل " الوظائف " المهمّة، والأنكى كانوا يعتبرون أنهم "زبّطو حالن"... يا لهذه القِيم: الخضوع والذل ونيل رضى المحتلّ عُدّ "تزبيط" الأحوال.
في نهاية شهر حزيران من العام 1991، قرّرت "الحكومة اللبنانية" نشر الجيش في الجنوب، وكلّف فوج المغاوير تأمين تقدّم القوى التي ستنتشر بدءاً من قرى شرق صيدا.
في البداية أبدت بعض المنظّمات الفلسطينية معارضتها لقرار الحكومة اللبنانية بنشر الجيش وأعلنت أنها ستقاوم القوى التي ستنتشر في قرى شرق صيدا وجوارها وحول مخيمي المية ومية وعين الحلوة للاجئين.
صدرت مذكرة تشكيلات في الوقت ذاته تقضي بتشكيل أربع آمري سرايا من الفوج دفعة واحدة خلال فترة إنتشار الفوج المرتقبة، رفض عسكريو السرايا التي شُكل آمروها (النقيب شامل روكز،النقيب سعيد الرز، الملازم أول جوزيف عون وأنا ) الإنصياع وفرّ بعضهم من الخدمة وسادت أجواء بلبلة بين الوحدات في الفوج، جُمّدت مذكرة التشكيلات لحين تنفيذ المهمة، إلتحق العسكريون بسراياهم بإمرة الضباط الذين إعتادوا على قيادتهم، فكانت "معركة" شرق صيدا، ( الأول من تموز من العام 1991 ) حيث وبخلال ساعات، تمكنت وحدات الفوج من تنظيف قرى: لبعا، عين المير، بيصور، جنسنايا، الأشرفية، المية وميّة ووصلت إلى تخوم مخيم اللاجئين الفلسطينيين في "المية ومية"، وذلك دون خسائر في الأرواح اللهم إلا بعض الإصابات.
في لقائه مع ضباط الفوج قرب نهر
الأولي خاطب قائد الجيش العماد إميل لحود عسكريي الفوج: " في معكن ضباط شرفا
مشكّلين من الفوج وقاتلو بشجاعا، أعتبرو أنن ما تشكّلو".
لكن إلغاء مذكرة التشكيلات كان إلى حين، فبعد أربعة اشهر
شُكل الضباط تباعاً: النقيب سعيد الرز إلى فوج التدخل الثاني، والنقيب شامل روكز
إلى مديرية المخابرات – فرع المكافحة، ثم أنا إلى... لواء الدعم.. أدركنا حينها أن
لا مكان لنا في التركيبة الحالية، "ولو بتضوّي صابيعك العشرا".
في أواخر العام 1991، خضعت للجنة طبية لتحديد وضعي الصحّي جرّاء الإصابات التي تفاقمت بعدما أجريت عدة عمليات جراحية لتحسين إداء اليدين، لكن دون جدوى. أقرّت اللجنة أن نسبة "التعطيل" هي 65% مع التحفّظ، اي أنها مرشحة للتفاقم، وبعدم صلاحيتي للخدمة إلا في قطعة إدارية فقط، ومن العام 1992 وحتى العام 2005، تاريخ عودتي من دورة الأركان في فرنسا وحتّى إحالتي على التقاعد لم أخدم إلا في قطع مقاتلة بإستثناء فترتي معسكر خدمة العلم وكلية القيادة والأركان.
في بداية العام 1993 شُكِّلت من لواء الدعم إلى فوج التدخّل الثالث بقيادة المقدم فرنسوا الحاج، ضابط اقلّ ما يوصف به: شهم، شجاع، يلتزم بجيشه حتى العظم، يحب عسكرييه ويدافع عنهم.
الفوج أنشىء حديثاً من "تجميع" سرايا من فوجي التدخّل الأول والثاني وتطويع عسكريين جدد، عهد إليّ قائد الفوج بتدريبهم وتنشئتهم، ومن ثم كانت سريتي أول وحدة تنتشر في "الجبل" بعد الحرب، 18 حزيران من العام 1994 في عاليه وبخشتيه وصولاً حتى بسرّين: قرى مهجورة بيوتها غير صالحة للسكن، إذ خُلعت وسرقت الأبواب والنوافذ والبنى التحتية، منازل مهدّمة، حتى أن بعض القرى كشرتون وبسرّين قد أزيلت من الوجود إذ دمرت منازلها كافة وجُرفت فلم يبق لها أثر.
أذكر أنني كنت أقوم بجولة على
المراكز العسكرية، وعند وصولي إلى مركز قرية "شرتون" لتفقّد العسكريين إذا بأحدهم
يقول:
" سيدنا عمول معروف ما تدعس هون في ضابط شهيد.."
إنه قبر الملازم أول الشهيد سمير الشرتوني الذي إستشهد في 11/6 / 1970 وأطلق إسمه على أحد مباني المدرسة الحربية وهو من بلدة شرتون، حيث جاء والده بعد دخول الجيش وتعرّف إلى المكان الذي دُفن فيه إبنه الشهيد قرب الخيمة التي نُصبت لإيواء عناصر المركز، فعمد الجنود إلى إحاطة القبر بالحجارة ثم نظّفوا الأرض حوله، ولاحقاً زرعوا الزهور حول القبر، وقامت العائلة بإعادة بناء المقبرة المهدّمة التي تحوي رفات الضابط الشهيد.
الكتيبة 94 التي خدمت فيها في بداية حياتي العملانية، عدت إليها برتبة رائد، حيث إنتقلت من الشوف إلى صور فكسروان. أحببت هذه الكتيبة التي خدمت فيها حديثاً، وإلتقيت فيها بأغلب رفاق السلاح القدماء، وجلّهم رتباء لأن الضباط قد شُكّلوا تباعا من الكتيبة.
من الكتيبة 94 إلى معسكر خدمة العلم ثم فوج التدخّل الخامس، ومن بعده قائداً للكتيبة 114 التابعة للواء الحادي عشر. كنت أول ضابط من دورتي توكل إليه قيادة كتيبة، وقائد اللواء العميد الركن محمد عباس، ضابط يتمتّع بأخلاق رفيعة، حكيم، مهذّب يتّسع صدره للإعتراض والنقد.
ذات يوم أفادني آمر مشغل الآليات في الكتيبة وكان يتمركز في بكفيا، عن فقدان 100 ألف ليرة من سترة أحد العسكريين. بعد التحقيق تبيّن أن أحد المجنّدين من آل الرفاعي على ما اذكر، ويقطن في صور، هو الفاعل. صُدم الجميع للحادثة كون الفاعل عسكري إنضباطي يؤتمن له، ويعمل بصمت.
" ليش عملت هيك يا رفاعي ؟ "
لم يجب، بل سالت على خديه دمعتان، إختصرتا معاناته: هو
المعيل الوحيد لذويه براتبه المتواضع 150 ألف ليرة، والده مريض وعاجز عن الكسب،
يحتاج لدواء بصورة دائمة، عمه شقيق ابيه وزوجته يقطنان معه في المنزل ذاته بالإضافة
إلى إخوة له صغار، وقد "سرق" المبلغ ليشتري الدواء لوالده المريض.
أعطيته مبلغاً يحتاج إليه من صندوق ضباط الكتيبة، ووجّهت التحقيق بحيث يُستنتج أنه "إستعار" المبلغ من رفيقه دون ذكر السرقة التي هي جرم يؤدي بصاحبه إلى الطرد من الجيش و "خربان" بيته.
إستدعاني قائد اللواء إلى مكتبه
وكان عاتباً جداً:
"مش معقول هيك يا جورج، عسكري سرق مصاري وأنت عملتا انو
أستعار غرض من رفيقو"
" سيدنا، لو أنا كنت مطرحو كنت عملت زات الشي" وشرحت له
الوضع العائلي المذري للمجنّد.
"بتعرف، لو منك مسيحي كنت قلت عنّك أنك متعصّب" قالها
مازحاً ثم أعطى المجنّد مبلغاً مماثلاً.
من اللواء الحادي عشر، إلى كلية
القيادة والأركان، متدرّب في الدورة الرابعة عشر.
قبل الإلتحاق بالدورة، طلب مني رئيس القسم الأول في
اللواء العقيد الركن صلاح فضل الله أن أوقّع على علاماتي (يضع قائد الوحدة علامات
الضباط المشكلين من وحدته):
"أقرا العلامات قبل ما تمضيهن"
"مش العميد عباس حاططن؟ بمضي بدون ما اتطلع"
وأخبرني حينذاك العقيد فضل الله
(أحد مدرّبي في المدرسة الحربية) بأن قائد اللواء العميد عباس قال له: "حط علامات
الضباط المشكلين من عدا جورج نادر"
"ليش سيدنا" أجابه العقيد.
"مش حر أنا، أنا بدي أكتبلو علاماتو"
ولا يزال العميد عبّاس القائد صديقاً لي أعتزّ بصداقته
وبأنني خدمت تحت قيادته.
********
هذا انا جورج نادر.. وجهاً لوجه مع فوج من الوحدات الخاصة السورية - الحلقة الثامنة عشر
17 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثامنة عشر من مذكرات العميد
الركن المتقاعد جورج نادر
دورة الأركان ( 2000- 2001 ) كانت مفصليّة في حياتي العسكرية لما تتضمّنه من معارف عسكرية قيّمة، وتخوّل الضباط الخدمة في أركان الوحدات الكبرى المقاتلة وأركان القيادة، وكونها تُعطى في كلية الأركان، فإن التمارين التكتية التي تُنفّذ خلال الدورة، تحاكي الواقع العملاني لوحدات الجيش وللعدو الإسرائيلي.
كنّا حوالي 21 ضابط من الجيش اللبناني بالإضافة إلى ضباط من بلدان عربية مختلفة. نهلت المعارف الأكاديمية وحاولت جاهداً تطبيقها في الميدان، وكان ذلك في معركة نهر البارد.
الدورة تمتدّ لسنة كاملة، ويشعر متابعوها أنهم تلامذة الصفوف المدرسية، وكان أظرف المتدرّبين المقدم منير أبو زيد (من ضباط دورتي) الذي كان "يشيل الهمّ عن القلب" ويزرع البسمة الدائمة في الحياة الأكاديمية الرتيبة. صُنفت الثاني في الدورة وكان لي حقّ إختيار متابعة دورة أركان في كلية الجيوش المشتركة للدفاع، مدرسة الحرب في باريس فرنسا، لكن بعد التخرّج مباشرة من دورة الأركان ـ شُكّلت قائداً للكتيبة 24 التابعة للواء الثاني.
الكتيبة تتمركز في مطار القليعات، و "يشاركها" البقعة فوج من الوحدات الخاصة السورية، وقد "إعتاد" اللواء الثاني، أو هكذا "عوّده" قادته على إقامة نشاطات رياضية سنوية مع قوات الإحتلال السورية (يوم رياضي). آنذاك، وقعت حوادث 7 آب من العام 2001 ، وإزداد التضييق على المعارضين، فكنت أتلقّى الإتصالات من اصدقاء لي طالبين مساعدتهم على "إخراج" ابنائهم من المعتقل، وأين لي أن أتدخّل وأنا "المشموس" والذي لا كلمة له مع المخابرات أو مع ضباط الإحتلال.
إتصل بي أحد ضباط المخابرات في
الأمن العسكري، وذلك في عيد الأضحى:
"جورج، رحت شي عيّدت الأشقّاء؟.. " عبارة "أشقّاء" كانت
تعني الجيش السوري
"لأ، ليش بدي روح"
"بتعرف، كرمال العلاقات بين بعضنا"
"بس أنا مرق عيد الميلاد وعيد راس السني وما حدا منن
عيّدني"
"ولو.. هيك بدنا نفكّر؟"
"اي هيك.. كيف بدي روح عيّد الضابط السوري.. وهوي ما
عيّدني ، وأنا عيدي مرق بالأول؟"
نعم، هكذا كان البعض منّا، "نبيّض وجّنا" مع ضباط المخابرت السورية على حساب الكرامة الوطنية، يتمرمغ على أبواب ضباط المخابرات السورية للحصول على "وظيفة"، وما هي الوظيفة ؟ أليس لكل ضابط في الجيش وظيفة؟ وهل أن الضباط الذين يخدمون في وحدات القتال هم بلا "وظائف"؟
ما زاد في الطين بلّة، أن كلّفني قائد اللواء تنظيم "يوم رياضي مشترك"بين وحدات اللواء وقطع الفوج الخاص السوري. لم أجد أصعب من امرِ كهذا لأنفّذه بعد حوادث 7 آب ومنظر الشباب والشابات يُضربون "وتُمسّح الأرض بهم" أمام وزارة العدل، ودمعة اللواء "نديم لطيف" وهو يروي قصّة "توقيفه" على شاشات التلفزيون.
من المفترض أن يكون فوج وحدات خاصة يتمتّع باللياقة البدنية العالية ولا يقارن بلواء مشاة عادي كاللواء الثاني، لكنّني صمّمت على "هزيمة" هذا الفوج رياضياً ولكوني لا أستطيع "هزيمته" عسكرياً.
لا زلت أذكر نتائج ذلك "اليوم الرياضي". الألعاب المتبارى عليها أربعة: الركض 3200 متر، الركض السريع 100 متر، جولة المقاتل، وشدّ الحبل.
في مباريات الركض 3200 متر فاز فريق اللواء الثاني بحيث وصل الأول الملازم مطانيوس نصرالله والثاني النقيب مارون بو هلون والثالث ضابط سوري (رفض إستلام الميدالية البرونزية كونه هُزم من الضباط اللبنانيين).
في مباريات الركض السريع 100 متر فاز فريق اللواء الثاني ( لم أعد أذكر اسماء الفائزين ).
في جولة المقاتل فاز الفريق السوري، لأن الجولة المنشأة في محيط مطار القليعات مخصّصة للوحدات الخاصة السورية ومن تنفيذهم، ويتدرّبون عليها بشكل شبه يومي.
لعبة شدّ الحبل تُركت للنهاية، في أثناء توزيع الكؤوس وبحضور قادة الوحدات. إنتقيت الفريق من العسكريين ذوي الأجساد الضخمة والذين لا يمكن أخذ الحبل منهم، فلمّا نظر قائد الفوج السوري إليهم ادرك الخسارة سلفاً فصاح: "من وين جايبين هالمصارعين السومو يا أخي"؟
"هودي عسكر اللواء" أجبته، وإذا أ ردت التأكّد أعطيك بطاقاتهم.
أسرّ لي قائد اللواء الثاني:
- "عطيهن هاللعبي"
- "ليش سيدنا ما هيدي رياضاً"
- "بلا مشاكل مع السوريين عطيهن اللعبي منصير تنين
بتنين"
أي إننا نربح لعبتين: الركض لمسافة 3200 متر والركض السريع لمسافة 100 متر ويربح الفريق السوري جولة المقاتل وشدّ الحبل.
عينا الضابط السوري عليّ وأحسّ بان قائد اللواء يطلب إلي التنازل في اللعبة، ولمّا لم يكن في اليد حيلة، إستبدلت العناصر العشرة للفريق ذوي الأجساد الضخمة بفريق من عسكريي اللواء الصغار القامة والقدرة الجسدية المحدودة ( Junior)، بحيث يستطيع عنصر واحد أن يجرّهم مع الحبل.
مهزلة؟ ومتى كان جنود الإحتلال يفهون بالروح الرياضية؟
أقام قائد اللواء غداءً في نادي
ضباط قاعدة القليعات الجوية، إحتفاءً بنهاية "اليوم الرياضي الأخوي" وفي خلال
المأدبة، أسرّ لي الجندي الذي يخدم المائدة، بعدما عرّفني عن نفسه أنه من قرية
برقايل العكارية:
"سيدنا ، سمعت العقيد مفلح عم يقول للعميد قائد اللواء
أنو أنت .... أخو ... والضابط الوحيد بعكار ما زرتو، بس ألله يوفقك ما تجيب سيرتي "
العقيد محمد مفلح ضابط المخابرات السورية في عكار والذي "إنشقّ" عن الجيش السوري خلال العام 2012 ثم قتل في حماه على ما أعتقد، وبقيت "زيارتي" له "غصّة" في قلبه الذي مات دون أن يحقّقها.
********
هذا انا جورج نادر.. دورة الأركان في فرنسا والأفق الأكاديمي الواسع - الحلقة التاسعة عشر
21 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة التاسعة عشر من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
إعتباراً من الأول من تموز العام 2002 ولمدّة سنة (2003) تابعت دورة الأركان العليا في كلية الجيوش المشتركة للدفاع (مدرسة الحرب العليا) في فرنسا، وكنّا حوالي 320 ضابطاً منهم 120 من الأجانب من جنسيات مختلفة، و 20 ضابط من البلدان العربية.
تابع الدورة ضابط من جيش العدو
الإسرائيلي (الرائد غولان بار ليفي)، وكان الضباط العرب، مشتّتون لا كلمة تُسمع
لهم، وبعضهم لا همّ لهم إلا "شم الهوا والتسلية"،كما قال لي أحدهم، لا يبالون
بالمعارف العسكرية والأكاديمية التي تتضمّنها الدورة، ولا بالثقافات المختلفة التي
يخالطونها، وقد حاولت جاهداً على أن اجمعهم في "إفطار" خلال شهر رمضان، فكان كلّ
منهم يضع شروطاً للحضور :
- ممنوع وجود الخمور
- ممنوع النساء
- أنا لا اتكلم مع الضابط الفلاني.... ذلك الحقير..,
ألخ....
هكذا لم افلح في جمعهم حتى في المناسبات الدينية على غرار ما نفعل في ثكناتنا، حيث نقيم إفطاراً على الأقل لمشاركة رفاق السلاح الصائمين.
حاول الضابط الإسرائيلي مراراً، ومن خلال ضابط أميركي زميلي في الفريق الدراسي، أن نتبادل ولو التحيّة، فأجبت "كريست - وهذا إسمه - أنت صديقي وإذا كنت تريد البقاء كذلك لا تلفظ إسمه امامي، كيف لي أن أضع يدي بيد الذي قتل أهلي ودمّر وطني (وكانت لا تزال مجزرة قانا وصورة " طفلة المنصوري " في ذهني)، ثم أننا في حالة عداء بيننا فلا تحاول ذلك أبداً...
عوملنا في الدورة كسفراء لبلداننا، كذلك نظّمت إدارة الكلية نشاطات ثقافية وسياحية لزوجات الضباط الأجانب، والذكرى الأجمل كانت الطيران لمدّة 75 دقيقة بالطيران الحربي النفّاث.
تحضرني خاطرة حصلت خلال إحدى المحاضرات للدلالة على عدم جدّية الضباط العرب في متابعة الدورات خارج بلادهم (لا ادري إذا كانت هي حالهم في بلدانهم).كان أغلب الضباط العرب غير الفرنكوفونيين يتابعون، وقبل بدء الدورة، دورة في اللغة الفرنسية لمدّة ستة اشهر على الأقل، كي يستطيعوا مواكبة رفاقهم الفرنكوفونيين في الدورة حيث اللغة الفرنسية هي الوحيدة السائدة، وكان اغلبهم : " تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي " :
المحاضر بروفسور فرنسي يهودي يضع
القلنسوة الخاصة بالمتشدّدين اليهود، والموضوع : الإرهاب في الشرق الأوسط، وقد "
اجاد " في وصف " الإرهاب " الفلسطيني، ولم يعترض أحد من الحضور. الفرنسيون يشجّعون
طرح الأسئلة مهما كانت، فقمت بمداخلة وصفت فيها " إسرائيل " بدولة الإرهاب، وكيف أن
الشعب الفلسطيني المقهور يحاول بأية طريقة كانت الحصول على أبسط حقوقه، وهم
يتّهمونه بالإرهاب.
صفّق الحضور بحرارة، وكانوا بالإضافة إلى ضباط الدورة ال
317، عدد لا بأس به من الوجوه الأكاديمية، وبعد إنتهاء التصفيق قام الضابط اليمني
وحيداً، (غير فرنكوفوني) وكان يجلس في المقعد أمامي، وصفّق عالياً وصارخاً بالصوت
العالي حتى سمعه كل من في القاعة :
"زين النشاما، زين النشاما"
فأشرت له ان يجلس، وقلت له " هل فهمت ما قلته أنا كي
تصفّق أنت ؟ " أجاب " لا والله بس شفت أنك أفحمتو ".
زيارات تعليمية للتعارف على وحدات الجيوش الفرنسية كنا نقوم بها : القواعد البحرية والجوية وأفواج القوى البرية والمعاهد التدريبية، والزيارة الأجمل كانت إلى أحد افواج الطوافات " الغازيل " في مدينة BESANÇON.
وصلت المجموعة التي أنتمي إليها
المؤلفة من 13 ضابط من جنسيات مختلفة سبعة منهم فرنسيون، ودخلنا مكتب قائد الفوج
الذي وقف على الباب مستقبلاً، ولما مثلت أمامه للتعريف عن نفسي لاحظ العلم اللبناني
الذي يمثل وسام الأرز الوطني على بزتي العسكرية، فقال : " Attendez mon Colonel
vous êtes Libanais.. على مهلك حضرة المقدم، أنت لبناني ؟"
- " نعم سيدي "
- أنا خدمت في لبنان خلال أواخر العام 1983 وأوائل العام
1984..
- " هل كنت من عداد فوج المظليين الأول ؟ " عندها إنتبه
وتذكر شيئاً فقال لي :
" نعم.. نعم.. دعني أحزر.. أنت الملازم.. "
عرفته عن إسمي، وكان هذا الضابط هو آمر الفصيلة التي درّبت فصيلتي من الكتيبة 94 خلال العام 1983 في حرج بيروت ووطى الجوز، وكان صديقاً طيباً لي ونحتفظ معاً بذكريات جميلة.. يا لها من مصادفة بعد حوالي 20 سنة إلتقيته فكانت المفاجأة منه عندما توجّه إلى ضباط الفريق: "من أجل صديقي اللبناني أهديكم ساعة ونصف طيران ليلي بالطوافة غازيل".
من الذكريات الجميلة في هذه الدورة الطيران في الطائرة الحربية.
أعطي الخيار للضباط كافة
بالطيران المروحي أو النفّاث، فإخترت الأخير، لكنّ ذلك يتطلّب الخضوع لفحص طبّي
للتأكد من أهلية الضابط للطيران على علو شاهق.
"حضرة المقدّم.. أنت غير جاهز للطيران، أنا آسف "
قالها لي النقيب الطبيب الفرنسي في قاعدة BALARD الجوية
قرب باريس، بعدما راى يدي ورقبتي ووجهي وظهري وآثار الإصابات فيها. فأجبته:
"أتريد، وانت الضابط الأصغر سنّاً مني أن نتبارى في
الركض؟"
"Mais vos mains ne sont pas foctionnelles et vous ne
pouvez pas sauter par le parachute au cas où l’avion tombe"
" وهل تريد المبارزة بال Push up لنرى من هو صاحب اليدين
الأقوى؟"
رضخ عند إصراري، وأعطاني الأذن الصحّي بالطيران، وكانت ساعة وربع من الطيران الأجمل في حياتي العسكرية. لا زلت أذكر الضابط الطيّار من قاعدة TOUR الجوية، الذي رافقته في الطائرة الحربية " Alfa Jet" والذي أجلسني في المقعد الخلفي، كيف كان " يسايرني "ظاناً أنني خائف من الإرتفاع الشاهق: " هل تريد أن تتعلم كيف " تجنّح " الطائرة ؟ "
دلّني على الأزرار وكيفية إستخدامها وعلى عتلة القيادة ثم قال: "مِل بها برفق لجهة اليمين "، لكن الطائرة " برمت " دورةً كاملة قبل أن يعود ويستلم إمرة القيادة قائلاً : " Mon colonel c’est un avion et pas un char " حضرة المقدم هذه طائرة وليست دبابة.
تحضرني حادثة حصلت خلال الدورة في فرنسا، فقط للمقارنة بين ثقافة الشعبين اللبناني والفرنسي:
دورة الأركان العليا في مدرسة الحرب يحاضر فيها باحثون وأكاديميون ومسؤولون حكوميون، ويشارك الضباط حضوراً الوجوه الأكاديمية والإجتماعية والسياسية. تقرّر حضور الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك وإلقاء كلمة عن التعاون الفرنسي مع مختلف دول العالم.
إنه رئيس الجمهورية، لا سيارات مواكبة، ولا سلاح ظاهر، سيارتان فقط باللباس المدني تظن لأول وهلة أنها سيارات عادية لشخصية عادية، دخل الرئيس قاعة المحاضرات فقال الضابط المدرب : "Monsieur le Président de la République " السيد رئيس الجمهورية، فوقف الحضور إحتراماً، وقف الرئيس على المنصّة وقال : Bonjour Messieurs SVP asseyez vous” " نهاركم سعيد أيها السادة أرجوكم تفضلوا بالجلوس، ثم إنتبه أن من بين الضباط المتدربين ثلاثة نساء، فقال: " بينكم سيدات، أعتذر، سيداتي وسادتي تفضلوا بالجلوس "... نعم رئيس الجمهورية إعتذر من الحضور لأنه لم يذكر النساء، تهذيباً، قبل الرجال لعدم ملاحظته وجودهن.
في المقابل، لأول مرة تزور دورة
الأركان العليا لبنان كزيارة تعليمية وسياحية، فإخترت أن أكون مع الضباط الأجانب
الزائرين لألعب دور المرشد والدليل للزملاء الأجانب في لبنان، ودعت كلية الأركان
اللبنانية ضباط الدورة الفرنسية والبالغ عددهم 110 أشخاص مع زوجات البعض منهم، إلى
عشاء تكريمي في المجمّع العسكري في جونيه. حضر الضباط الفرنسيون والأجانب
واللبنانيون، وتأخر وصول قائد كلية القيادة والأركان إلى الحفل، خرجت إلى مدخل
المجمّع فرأيت مساعد قائد الكلية ينتظر، سألته :
" ليش بعدك ناطر هون..؟"
" ناطر ت يوصل قائد الكليّي بدّي أهّبلو الصف " أي أنه
يريد أن يصرخ " تأهب" لوصول قائد الكلية إلى حفل عسكري مدني معظم الحضور ضباط ونساء
أجانب...
" بس ما بيسوا تصرخ تأهب بس يكون في مدنيي، وهون في
أجانب كمان.."
"ولو كان، هيك هوي بدّو.." عندها تدخّل ضابط المخابرات –
فرع الأمن الاستراتيجي، الذي يواكب الحفل ووافق على كلامي وأعطى أمثلة لمساعد قائد
الكلية لأنه بوجود مدنيين ينتفي الطابع العسكري الصرف على الحفل، ولا " يُأهّب "
الحضور، فإقتنع على مضض.
وخلال العشاء، لاحظت إمتعاض قائد الكلية لعدم "تأهيب" الحضور "تكريماً " لشخصه، فنظّم في اليوم التالي تقريراً عن الحفل ذكر فيه أن الطعام لم يكن بالجودة والكمية المطلوبتين "فجرّصونا" الأجانب، والجدير بالذكر أن المجمّع العسكري قد سخى بكل أنواع الطعام اللبناني وكانت ردة فعل الأجانب ممتازة لحسن الضيافة والكرم.
هل لاحظنا الفرق؟ رئيس جمهورية وصل بدون "طنة ورنة" ويعتذر لعدم ملاحظته وجود نساء في القاعة، وقائد كلية يريد أن " يأهب "نساء أجنبيات" إحتراماً "لحضوره، فيزعل، ويحرد، ويتّهم الغير بالتقصير.
فور عودتي من دورة الأركان في فرنسا، شُكلت إلى فوج المغاوير مساعداً لقائد الفوج الذي كان آنذاك العقيد "عباس إبراهيم" المدير العام للأمن العام حالياً.
سألني أحد الرفاق: "لوين تشكّلت؟"، أجبت: "ع بيتي".
إذ كنت اشعر أنني عدت إلى الفوج الذي أحبّ، وخدمت فيه سبع سنين متواصلة، ولا ازال أحتفظ منه بأصعب وأجمل الذكريات في آنِ معاُ.
********
هذا انا جورج نادر.. فوج المغاوير والعودة إلى البيت - الحلقة العشرون
24 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة العشرون من مذكرات العميد الركن
المتقاعد جورج نادر
عُدت إلى" البيت "، بعض الرفاق القدماء من رتباء، يستذكرون الأيام الغابرة والحدث الأبرز كانت عملية "حور تعلا" في البقاع، ثلاث سرايا من الفوج إنتشرت في مناطق حور تعلا و "بريتال" وصولاً إلى "النبي سباط" ثم "حام" و "معربون" في جرود السلسلة الشرقية، بمهمة إلقاء القبض على تجار ومصنّعي المخدّرات، النتيجة "حرزانة ": عشرات الموقوفين والمطلوبين بمذكرات توقيف من القضاء، كميات هائلة من المخدرات على أنواعها قُدّرت قيمتها بمئات ملايين الدولارات، كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر وإتلاف معامل تصنيع المخدّرات. العميد الركن فرنسوا الحاج مدير العمليات قال: "إنها بحجم عملية الضنية ( مطلع العام 2000 ) وميزتها أنها تمّت بسرعة وإحتراف ودون خسائر" .
التدريب في الفوج كالعادة متواصل على المستويات كافة، ضبّاط لم أكن أعرف معظمهم، تعرّفت إليهم، يتمتّعون " بروحية" المغاوير. لم تأتِ السنوات 2003 و 2004 بحدثٍ جديد على المستوى العملاني للفوج إلا "خطط العمليات المرتقبة" التي تضعها كل وحدة كبرى بإشراف قيادة الجيش، للدفاع عن بقعة حُدٍّدت لها مسبقاً، في حال إجتياح العدو الإسرائيلي للوطن.
البقعة المحدّدة للفوج في الجنوب لم أكن عرفها مسبقاً، عملت بصفتي رئيس الفرع الثالث ( بالإضافة إلى وظيفتي الأساسية كمساعد لقائد الفوج ) على إستطلاع الأرض بعناية مع أركان الفوج وآمري السرايا والفصائل حتى مستوى آمري الحضائر. حضّرت "الخطة المرتقبة" بحيث اصبح كل الرؤساء التراتبيين حتى مستوى آمر حضيرة يعرف مهمته غيباً، وما يجب عليه فعله في حال إنقطاع الإتصالات، ويعرف جيداً "أعشاش" الذخيرة والمخابىء ونقاط الإلتقاء بالوحدات الصديقة، وبإختصار: وضعنا خطّة نموذجية محترفة واضحة بحيث أن كل فرد في كل سرية من الفوج، بات يدرك مهماته حتى أدنى التفاصيل. وضعت الخطة بشغفٍ مستخدماً معارفي الأكاديمية والعسكرية التي إستقيتها من دورتي الأركان في الداخل وفي فرنسا.
في النصف الثاني من العام 2004 ، تأزّم الوضع السياسي نتيجة تمديد ولاية الرئيس لحود بطريقة قسرية من "الوالي " السوري. محاولة إغتيال النائب "مروان حمادة" زادت الأمور تعقيداً وصولاً إلى الإنفجار الكبير لحظة إغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 .
عمّت التظاهرات مختلف أرجاء الوطن، وتركّزت الإحتجاجات والتجمّعات في ساحة الشهداء، واصبح المتظاهرن يجاهرون علناً بإتهام النظام السوري بإغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، وصولاً إلى تاريخ 28 شباط حيث، وتحت ضغط التظاهرات وإرتفاع وتيرة الإحتجاجات ضد الإحتلال السوري، إستقالت حكومة الرئيس كرامي، حينها كانت الأوامر واضحة: منع المتظاهرين من الوصول إلى ساحة الشهداء.
إنها اللحظة المناسبة للتعبير عن رفض الإذعان والقهر الذي مارسه "الوالي السوري" طيلة خمسة عشر عاما. كُلّف فوج المغاوير وفوجا مغاوير البحر والتدخّل الخامس "حماية" ساحة الشهداء ومنع المتظاهرين من الوصول إليها.. لكن، كيف لنا ان نمنع اهلنا واولادنا ورفاقنا من التعبير عن السخط والغضب الذي يعانون منه منذ 13 تشرين 1990؟ هذا الغضب الذي كان يغلي في صدورنا منذ عقدٍ ونصف، لكننا كعسكريين، لا يحقّ لنا التعبير عن هذه المشاعر والآراء.
جماعات منتظمة، أحزاب وتيارات كانت بالأمس القريب متخاصمة، مدارس، جامعات، أكاديميون، نقابيون من مختلف المذاهب والمناطق، "زحفوا" إلى ساحة الشهداء في وسط بيروت للتعبير عن رفض الإحتلال ومطالبة دول العالم الحر بالضغط على الحكومة السورية لسحب جيوشها من لبنان وإنهاء الإحتلال. إبني البكر "لبنان" أتى مع متظاهري الجامعة اليسوعية، وإبني "أرز" وصل مع طلاب ثانويته، كذلك إبنتي "يارا" كانت مع المتظاهرين، فهل لي أن امنع ابنائي من التظاهر السلمي إحتجاجاً على رفض الإحتلال والمطالبة بالعيش بكرامة وحريّة؟
من شارع الصيفي بإتجاه ساحة
الشهداء تلامذة مدرسة باللباس الأبيض يحملون الورود البيضاء يقدّمونها للجنود:
"سيدنا في تلاميذ زغار بدّن يفوتو ع الساحا"
"شو عم يصرّخوا؟"
"عم يقول ما بدنا جيش بلبنان الا الجيش اللبناني"
"يعني متل لمّا مرتك بتقلك ما بدّي حدا غيرك ينام معي،
بتقلا لا نامي شوي مع أبن الجيران؟ أكيد خلّيهن يفوتو".
غصّت الساحات والشوارع والجسور والأبنية بالناس الآتين من كل حدبٍ وصوب، وتحت ضغط الإحتجاجات، وعلى وقع الهتافات في الشارع، أعلن الرئيس عمر كرامي إستقالة حكومته.
********
هذا انا جورج نادر.. ثمن الكرامة والمناقبية العسكرية - الحلقة الحادية والعشرون
29 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الحادية والعشرون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
لم تمرّ مسألة "فتح الطرقات"
أمام المتظاهرين للوصول إلى ساحة الشهداء مرور الكرام ، فكانت "التشكيلات
التأديبية" من فوج المغاوير إلى موقع راشيا. ولكن قبل صدورها رسمياً، إستدرك العميد
الركن "فرنسوا الحاج " مدير العمليات الأمر، و"توسّط" كي يُستبدل موقع راشيا بمركزٍ
آخر قريب جغرافياً إلى مكان السكن:
"شو هوي صلب المسيح ت تعملو فيه هيك؟ ع القليلي حطّوه
بمطرح قريب ع بيتو..".
رئيس قسم الدروس في معسكر خدمة العلم كان المركز الجديد بِسعي العميد الحاج. لم أكترث "للعقوبة"، قناعاتي الوطنية دفعتني لأن أُنفِّذ الأوامر على طريقتي، فأنا لم أرتدِ البزّة العسكرية لأقمع اهلي وشعبي وأكُمّ أفواههم خدمةً لل " Marionette " التي تُنفِّذ أوامر اسيادها في عنجر، بل لحمايتهم والدفاع عنهم حتى الشهادة، هذه هي رسالة الجندية: حماية الأرض والشعب وليس حماية عملاء الإحتلال، ونحن لسنا جيش النظام، بل جيش الوطن كلّه.
لم أُطِل الإقامة في معسكر خدمة العلم، فإنتقلت إلى كلية القيادة والأركان، مدرّب عدّة مواد أساسية : تقدير الموقف، الدفاع والهجوم، لدورتي قائد كتيبة وأركان. أعطيت كل ما أملك من المعلومات والمعارف العسكرية، وبِتُّ أتوق إلى تطبيقها في الميدان.
حرب تمّوز 2006 ، لم يكن لي شرف قتال هذا العدو، ( لأنني كنت في كلية القيادة والأركان) عدوّ الأمة جمعاء، العدو الذي قتل وشرّد الالاف من ابناء شعبي، عدوّنا في الجغرافيا والتاريخ، عدونا في الممارسة والعقيدة، وعدوّنا في الدين، إذا سمحت لنفسي، أنا العسكري ان تكلّم بالدين. لم اشترك في القتال ، لكن رفاق السلاح لم يُقصِّروا في القيام بمهامهم: 52 شهيد سقطوا ومئات الجرحى، ولم يُخل مركز واحد بالرغم من التفوّق الهائل للعدو بالسلاح والعتاد والتكنولوجيا والعدد، لم تنحنِ بندقية الجيش لغطرسة العدو ولا بنادق المقاومين، فإنسحب مهزوماً، وذلك لأولِ مرة في تاريخه. وبالرغم من فداحة الخسائر البشرية والمادية، لم يستطع هذا العدو تحقيق أهدافه.
في بداية المعركة حدّد الهدف: إخلاء المناطق جنوب الليطاني من سكانها ( والهدف المموّه توطين الفلسطينيين مكانهم ) ، ثمّ تراجع لإقامة منطقة عازلة بشريط بعمق 8 كلم عن الحدود الدولية، ثم بسبب خسائره البشرية وإستحالة التقدّم، اعلن إنسحابه "محقٍّقاً" أهدافه، التي بالحقيقة لم يتحقّق منها شيء.
إنتشار الجيش جنوب الليطاني تطبيقاً للقرار الدُولي رقم 1701، حصل بسرعةِ وفعالية لم يتوقّعها المراقبون، خلال 48 ساعة، الجسور مدمّرة، الردميات والحفر تغطي الطرقات، البنى التحتية متضرّرة بشكل كبير، إنتشر أربع ألوية مشاة مؤللة ( الثامن والتاسع والحادي عشر والثاني عشر ) وتمركزت في البُقع المحدّدة لها مما أذهل العالم وقيادة القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان ( UNIFIL ) بالأخصّ.
خلال تلك الحرب، كنت أتردّد دائماً إلى مكتب مدير العمليات الرئيس الصديق العميد فرنسوا الحاج ، القائد الحكيم الشجاع الذي لم يبُت ليلةً واحدة خارج مكتبه طيلة 33 يوماً، مع أن منزله يبعد بضع مئات من الأمتار عن مكتبه.
"شوف يا جورج، بدّنا نحافظ ع الجيش لما بعد الحرب، وبالوقت زاتو بدّنا ندافع ضد العدو ولو ما عنّا الوسائل والقدرة ". وهكذا كان، واجه هذا الجيش، قاتل بشرف وبسالة، وبقي جاهزاً للإنتشار في الجنوب بالرغم من الأضرار الكبيرة التي لحِقت بالوطن.
قُبيل الحرب، وفي بداية العام 2006، ونتيجة الخلاف الحادّ حول سلاح "حزب الله ودوره" و"شرعية" المقاومة، عُقِدت طاولة الحوار بين الأحزاب والتيارات السياسية، وموضوع الحوار الوحيد : وضع استراتيجية دفاعية للدولة.
مقاربتان مختلفتان لموضوع
الاستراتيجية الدفاعية:
مقاربة فريق 14 آذار القائلة بوجوب نزع سلاح حزب الله
كونه "سلاح ميليشياوي" يقتضي تسليمه للجيش ومن ثم تُوضع استراتيجية دفاعية للدولة
لا وجود فيها لسلاح المقاومة.
ومقاربة فريق 8 آذار التي تعتبر أن سلاح حزب الله
"مقدّس" لا يجب المسّ به، ويقتضي وضع استراتيجية دفاعية للدولة يكون عمادها سلاح
المقاومة.
مقاربتان تنقسمان في العمق على الرؤية والأهداف ولم
تلتقيا على أي نقاط مشتركة (حتى الآن).
بعد نهاية الحرب، إزدادت حدّة المواجهة السياسية بين الفريقين (8 و 14 آذار) فإستقال فريق أساسي من الحكومة وأصبحت بنظر البعض غير شرعية وغير "ميثاقية"، بينما رآها الفريق الخصم، حكومة لبنان الشرعية متجاهلاً وجود رئيس الجمهورية الممدّدة ولايته.
وسط هذا الجو السياسي الملبّد، والإعتصام المفتوح لقوى 8 آذار في ساحة رياض الصلح، إندلعت بتاريخ 20 أيار 2007 ، معركة مخيّم نهر البارد بين الجيش اللبناني ومنظّمة "فتح الإسلام" الإرهابية.
********
هذا انا جورج نادر.. نهر البارد اندلاع المعارك - الحلقة الثانية والعشرون
31 آذار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثانية والعشرون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
قبل إندلاع المعركة بين الجيش ومنظّمة "فتح الإسلام الإرهابية"، وقعت عدّة حوادث إطلاق نار وتعدّ على حواجز ومراكز الجيش وتحديداً على حاجز "المحمّرة" التابع للواء المشاة الخامس الذي ينتشر حول مخيّم نهر البارد وفي منطقة عكار.
في 7 ايار 2007 صدرت برقية منقولة من قيادة الجيش أركان الجيش للعمليات، وعُمِّمت على قطع ووحدات الجيش كافة حتى الثابتة منها، وتقضي بإتخاذ كاف تدابير الحيطة والحذر وتكثيف الدوريات ومضاعفة الخفراء والإنتباه للمراكز والنقاط والحواجز العسكرية، كونه توافرت معلومات تفيد بأن مجموعات إرهابية ستقوم بعمليات ضدّ مراكز وثكنات الجيش. برأيي، لو طُبّقت هذه التدابير على الأقل من قبل اللواء الخامس، لكنّا تلافينا على الأرجح معارك كلفتنا مئات الشهداء والجرحى.
مرّة أخرى يُطرح السؤآل: من يحاسب المقصّرين؟ وكيف نتفادى التقصير في المستقبل؟
أسباب إندلاع القتال لا حاجة للتذكير بها من مداهمات شارع "المئتين" في طرابلس، إلى مهاجمة مركز الجيش في "المحمّرة" وقتل عناصره وتشويه جثثهم، وقتل عناصر على طريق القلمون.
في بدء المعركة، إستطاع إرهابيو"فتح الإسلام" إحتلال مراكز "المحمّرة" و "العبدة" وقطع طريق طرابلس – عكار وتوسيع رقعة إنتشارهم خارج مخيّم نهر البارد.
إستوعب الجيش الصدمة، كُلّفت الأفواج الخاصة تباعاً الإنتشار وإستعادة مراكز الجيش الساقطة وتأمين الطريق الدولية التي تربط طرابلس بعكار وسوريا، فإنتشر بداية فوح المغاوير ثم فوج مغاوير البحر، ثم الفوج المجوقل، بالإضافة إلى اللواء الخامس الذي ينتشر أساساً في البقعة.
إستمرّت المعارك لمدّة 105 ايام، تخللها فترات هدنة إنسانية، خسر خلالها الجيش 168 شهيداً ومئات الجرحى قسم كبير منهم أصيب بإعاقة. كنت في كلية القيادة والأركان، رئيساً لقسم المشبّه التكتي JANUS وكنت أتحرّق شوقاً للمشاركة في هذه المعركة، أدّعي أحياناً المرض لأحصل على أمر مهمة كي أذهب مع صديقي العميد "خليل الحلو" رئيس طبابة منطقة جبل لبنان الذي كان يزور الجبهة يومياً، دون تكليف من قيادته (دوام العمل كان للوحدات الثابتة حتى الساعة 6 مساءً مع مأذونية واحدة لمدّة 24 ساعة في الأسبوع) لزيارة رفاق السلاح الذين يقاتلون في المخيّم، وذلك بشكل شبه يومي، كي نتشارك معهم صعوبة أوضاعهم ونقف على حاجاتهم، وأطلع منهم على سير المعارك .
لا زلت اذكر وجه العقيد الركن جورج شريم قائد فوج مغاوير البحر، عندما وصلته أخبار سقوط إحدى البنايات التي فخّخها الإرهابيون، على أربعة من عسكريي فوجه، وكيف كان رفاقهم يسمعون نداء الإستغاثة دون أن يتمكنوا من إنقاذهم لأن البقعة مضروبة بالنار، في الوقت الذي تتوالى إتصالات أهالي العسكريين الأربعة بقائد الفوج لمعرفة أخبار أبنائهم، وما عساه يجيب: "لا أستطيع إنقاذ أبنائكم؟" وضع دقيق وصعب لا يُحسد عليه البتّة، وببرودة الأعصاب وحكمة القائد الشجاع، إضطر العقيد شريم لمهاجمة الأبنية التي تشكل خطراً على البقعة للسماح للمنقذين بإزالة الردميات وإنقاذ العسكريين، لكن للأسف بعد فوات ألأوان .
ولا زلت اذكر أيضاً لحظة إصابة قائد الفوج المجوقل العقيد الركن شربل الفغالي إصابة خطرة تحت إبطه الأيسر حيث توقّف قلبه عن الخفقان مرتين، وتمكّن الأطبّاء من إسعافه في الطوافة التي أقلّته إلى مستشفى رزق في بيروت، ثم شفي بعد حين لحسن الحظ .
منذ بداية المعركة، إنتابني شعور غامض بأنني سأشارك بها، وبأنني معني بها بشكل مباشر، فأغلب الضباط المقاتلين هم أصدقاء لي، وعسكريو فوج المغاوير أعرفهم خلال خدمتنا سوياً في الفوج، كما أعرف، من خلال خدمتي العسكرية، عسكريين كثر من الوحدات المشاركة.
بعد إصابة العقيد فغالي، تضعضعت معنويات عسكريي الفوج المجوقل، فقابل العميد الركن فرنسوا الحاج مدير العمليات، والذي كان حضوره شبه دائم على جبهة المخيّم، قائد الجيش العماد "ميشال سليمان": "خليني اسحب الفوج المجوقل من نهر البارد وحطّ محلّو فوج التدخّل الثالث، أو جيب جورج نادر ع الفوج ت يكفّي فيه ". وكان قبل ذلك، قد إستطلع ضباط من فوج التدخّل الثالث الجبهة، تمهيداً لإستبدال الفوج المجوقل.
وافقه الرأي رئيس فرع الأمن العسكري ومكتب القائد، فوافق قائد الجيش.
صدرت مذكرة التشكيلات ليلاً وتقضي بإلتحاقي صباح اليوم التالي بالفوج المجوقل، قائداً للفوج.
"بكرا الصبح الساعا 6 بتكون بالمجوقل بنهر البارد" قالها على الهاتف العقيد وديع الغفري من مكتب القائد، وكان " البكرا " تاريخ 9/8/2007 .
********
هذا انا جورج نادر.. نهر البارد وإعادة التنظيم في اثناء القتال - الحلقة الثالثة والعشرون
5 نيسان 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثالثة والعشرون من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
عادةً يُعطى الضابط المشكّل إلى قيادة وحدة كبرى مهلةً للإلتحاق لا تقل عن 48 ساعة، ثم مهلة أخرى لإستلام المسؤولية لا تقلّ عن خمسة أيام. إنما الوضع العملاني للفوج المجوقل لا يسمح بالمهل، الإلتحاق بنفس تاريخ صدور مذكرة التشكيلات والمسؤولية إعتباراً من التاريخ ذاته ( 9/8/2007 ).
"بكرا الصبح قبل الساعا 6 بتكون بنهر البارد وبتستلم قيادة الفوج المجوقل"، هكذا بُلّغت هاتفياً من قبل رئيس مكتب القائد.
العميد الحاج إتصل بعد ربع ساعة: "بتعرف منيح شو لازم تعمل، أنا بكون فوق، بس تشوف الفوج وتخلّص تعا صوبي".
الساعة 6 صباحاً كنت أمام أفران
البيادر على طريق العبدة، السيارة العسكرية يقودها المقدم منصور دياب رئيس الفرع
الرابع في الفوج :
- "تفضّل نزال سيدنا"
- "ليش شو في هون"
- "هون قيادة الفوج "
- "قيادة الفوج هون والعسكر عم يقاتل قدّام بقلب
المخيّم؟ خدني لعند العسكر"
غرفة العمليات المتقدّمة للفوج قرب جامع خالد بن الوليد
في مخيّم نهر البارد، يخدم فيها ضابط من قيادة الفوج، ورُكّبت كاميرا يستطيع
بواسطتها مراقبة "الجبهة".
"شيلو الكاميرا من هون، نحنا مش عم نحضر سينما، قيادة الفوج صارت هون إعتباراً من هلّق، دبّرولي شي فرشي ت أبقى نام عليها، ويلّا حدا ياخدني بدّي شوف العسكر"
العسكريون في المراكز المتقدّمة اغلبهم مُحبطون، قائد الفوج أصيب إصابة خطرة، سقط من رفاقهم 34 شهيداً، وحوالي 140 منهم مصابون بجراح مختلفة وهم إما يُعالجون في المستشفيات وإما بوضع النقاهة المنزلية، وعدد مماثل تقريباً مصاب بفيروس معدٍ ضرب كل الوحدات المقاتلة في المخيّم، يُفقد المصاب قوته ويعرّضه لحرارة مرتفعة وتقيّؤ وإسهال، ويحتاج لعلاج في المستشفى وفي المنزل، لمدّة لا تقلّ عن أسبوعين.
الحصيلة 350 عنصر خارج المعركة، (أكثر من ثلث عديد الفوج الإجمالي) خمس آمري سرايا من أصل ستّة هم إما مصابون بالنار أو بالفيروس، ومساعدوهم يتولّون إمرة السرايا.
النتيجة: طبقاً للمعايير العلمية العسكرية يُعتبر الفوج غير جاهز، لأن نسبة الجهوز لا تتعدّى 60%، فيما أن نسبة الجهوز 75% تقضي بإعتبار الوحدة غير جاهزة عملانياً، وبالتالي يجب إستبدالها بوحدة أخرى.
- "إذا بدك ببدّلك" (أي يُستبدل الفوج بوحدة أخرى )، قالها قائد الجيش العماد ميشال سليمان في أثناء تفقّده القوى في مخيّم نهر البارد بعد يوم من إستلامي قيادة الفوج.
- "لا سيدنا أبداً، كرامتي من
كرامة الفوج، إذا تبدّل الفوج بينقضى ع معنوياتو، وانا معنوياتي كمان من معنويات
الفوج، بس عطيني كم يوم لإعادة التنظيم وإحياء إرادة القتال عند العسكر، بس عندي
طلب"
"شوهوي؟"
"في ضابط مغوار بدي جيبو ع الفوج"
"مين هوي؟"
"المقدم الركن عبد المنعم مكي"
"هوي بدّو يجي؟ لأنو نحنا تاركين الخيار للضباط من
القطع، اللي بدو منجيبو ع الأفواج اللي عم تقاتل، لأنو في نقص بالضباط من ورا
الإصابات"
"أنا ما سألتو، بس خلي المخابرات يسألوه، إزا ما بدو، ما
يجي، بس إزا بيقبل، بدي ياه بأقرب وقت"
بعد يومين شُكّل المقدم الركن عبد المنعم مكي إلى الفوج المجوقل وبقي فيه لحين مغادرتي الفوج في 30 تشرين الأول 2013، وكان ولا يزال، من خيرة ضباط الجيش واشرفهم وأعمقهم إلتزاماً ومناقبية.
العميد أنطوان بانو قائد الجبهة،
والذي مهمته قيادة القوى وإدارة مناوراتها والتنسيق بين قوات المناورة وقوات الدعم
ومع قيادة الجيش في الوقت ذاته، قال مرحباً:
"من زمان أنا ناطرك، وقلتلو للجنرال ت يجيبك ع المجوقل."
"نشالله بكون، عند حسن الظن سيدنا"
"ما عندي شك"
ضابط برتبة عميد، يلازم الجبهة يومياً، يزور بإستمرار وحدات القتال، يطلع من قادتها دائماً على سير العمليات الحربية عن كثب، حلو المعشر، متواضع، وهو موضع ثقة الوحدات المقاتلة كونه مجرب عسكرياً في أكثر من مكان.
لم تكن السرايا مستكملة بالعديد ولا بالسلاح والعتاد، قسم من الملالات معطّلة أومصابة، بعض الأسلحة بحاجة إلى مساعفة، فصائل أُلحقت بسرايا، سرايا ضباطها جميعاً مصابون، ولا من يأمرها فوُزّع عناصرها على السرايا الأخرى (خلافاً لأبسط القواعد العملانية).
الخلاصة : الفوج أشبه بتجمّع عسكريين وآليات عسكرية.
يتألف الفوج المجوقل من خمس سرايا مشاة مؤللة وسرية دعم إستُخدمت كسرية قتال (سرية الدعم تتألف من فصائل مضاد للدروع ومضاد للطائرات وهندسة قتال وهاون 120 ملم). أُلحق بالفوج (اي وُضع تحت قيادته العملانية) سرية دبابات نوع ت-55 و ت-54، تنقص منها فصيلة، من فوج المدرعات الثاني، وسرية هندسة قتال تنقص أيضاً فصيلة من فوج الهندسة.
الجبهة المخصّصة للفوج لا تحتاج
لأكثر من سريتين.العسكريون وطيلة مدّة القتال، لم يُمنحوا مأذونيات تتعدّى الأربع
وعشرين ساعة، وبُعدِهم عن عائلاتهم يزيد من الإحباط والخيبة، لذلك، وخلافاً
للتعليمات المعطاة برفع نسبة الجهوزية في الوحدات إلى ما فوق 90%، إتّخذت القرار
السريع :
سريتان تهاجمان لمدّة 48 ساعة وتكوّنان لفيفا ً فرعياً
مدعوما ً بفصيلة دبابات من فوج المدرّعات الثاني، وفصيلة هندسة قتال من فوج
الهندسة، يقود اللفيف ضابط قائد من قيادة الفوج.
سريتان تشكلان النسق ثاني وإحتياط وتكوّنان اللفيف الثاني المدعوم بالمدرّعات والهندسة كاللفيف المهاجم وهو أيضاً بقيادة ضابط قائد من قيادة الفوج.
سريتان بوضع الماذونية لمدّة 48
ساعة.
مركزي كان بشكل دائم كان مع السرايا المهاجمة.
ضابط قائد من قيادة الفوج مهمّته التنسيق بين القوى
المهاجمة من الفوج، وبين الوحدات الصديقة، وقيادة الجبهة بالإضافة إلى ضابط
الإشارة.
تركت لرئيس الفرع الرابع ( المسؤول عن التموين والمساعفة وإصلاح الآليات والإخلاء الطبي ألخ..) حرية التوقيع ومعالحة الحاجات اللوجستية كافة، كذلك لرئيس الفرع الأول (المسؤول عن العديد والمأذونيات والمعنويات وإضبارت العسكريين.. ألخ) كل المسائل الإدارية ومعالجتها مع صلاحية التوقيع عن قائد الفوج، وذلك لكي أتفرّغ تماماً للوضع الميداني.
قلت للضباط: "أنا جايي جديد شبعان مأذونيات، وأنتو صرلكن أكتر من شهرين عم تقاتلو، اللي بدّو مأذونيي بيقدر يروح بس يحتاج يروح، أنا مش رح أطلع من المخيّم ألا ما يخلص".
- "شو عم تعمل يا جورج؟ كيف بتأذن سريتين سوا؟ " (كيف تمنح المأذونية) قالها العميد أنطوان بانو قائد الجبهة.
- "سيدنا الجبها ما بدّا أكتر من سريتين، والعسكر بحاجة ل ينفّسو ويرجعو بمعنويات عاليي، خلّيني نفّذ المهمي متل ما شايفا، وما بيكون ألا ع زوقك".
زارني العميد بانو في قيادة
الفوج العملانية في الليلة ذاتها، وشرحت له أمر العمليات الذي حضرته، ضحك وقال:
"لما زارنا الجنرال من أسبوعين قلتلو:
"سيدنا، إزا بدك نكفّي بالمجوقل جيب جورج نادر وأنا
مسؤول عن كلامي"
"قلي العميد حاج أنك كنت أول واحد بيطالب أني أجي ع
الفوج، أنا ممنونك، ونشالله ما بخيّب الظن".
العميد بانو الصديق أعتزّ بكونه، مع اللواء الشهيد فرنسوا الحاج، طالبا بتشكيلي إلى الفوج المجوقل.
********
هذا انا جورج نادر.. معركة نهر البارد ورفع إرادة القتال - الحلقة الرابعة والعشرون
7 نيسان 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الرابعة والعشرون من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
قبل اي تنظيم أو إعادة تنظيم للفوج قرّرت التوجّه مباشرة إلى العسكريين، كل سريتين معاً.
نظرت في الوجوه، رأيت علامات اليأس والإحباط، ومزيجاً من الأحاسيس والرغبات، لكن شيئاً واحداً لم ألاحظه في عيون الرجال : إرادة القتال.
بعد التفرّس مليّاً في الوجوه والقسمات، وبعد أن اثنيت على شجاعتهم وتضحياتهم، خاطبتهم :
-"مين منكن خسر حدا من عيلتو بالحرب؟"
رفع إثنان أو ثلاثة ايديهم، أحدهم إستشهد شقيقه في اللواء الخامس والآخران إستشهد أشقّاء أو آباء أو أقرباء لهم في معارك سابقة خاضها الجيش.
-"أنا في من بيتي تلات شهدا، حدا منكن خسر شهدا قدّي؟" لم يُجب أحد وراحوا ينظرون في وجوه بعضهم البعض.
-"مين منكن منصاب؟" رفع البعض أيديهم: هذا أصيب برجله والآخر بيده والبعض بشظايا في أنحاء جسمه والبعض الآخر بحروق او رضوض. خلعت سترتي وال " ت شيرت " وأريتهم اصاباتي في كتفي وزندي الأيمن ويدي اليسرى ورقبتي وظهري.
-"مين منكن منصاب قدّي؟" لم يُجب أحد أيضاً.
-"إذن، طالما أنا أكتر واحد فيكن خسران شهدا بعيلتي وأكتر شي منصاب فيكن وبقلّكن بدّي كفّي، يعني لازم نكفّي". بدأت الملامح تتغيّر، والنظرات المستفسرة والهمسات بين بعضهم.
-"مين ما بدّو يقاتل.. يرفع إيدو وبوعدكن أنو ما بعاقبو، وبحطّو بغوسطا (ثكنة الفوج) لكن بشرط واحد: يوقف ويقول علناً: انا ما بدّي أنتقم لرفقاتي الشهدا."
نظروا إلى بعضهم البعض، البعض "إستحى" من رفاقه، ووجوه البعض كانت تقول: "لو بدّنا نموت ما منترك رفقاتنا ". لقد قرأت ذلك في عيونهم. لفترة قصيرة رحل الحياء والتردّد، والعيون المحبطة بدأت تستعيد بريقها، وقوّة العزم والإرادة عادت تلبس الوجوه المُتعبة من قتال مرير طال اكثر مما يجب.
-" شو بدكن تقولو لأهاليكن لما بيسألوكن ليش بعد ما خلّصتو المخيّم ؟ شو بتجاوبوهن: ما فينا؟ مش عيب علينا؟"
بريق العيون يزداد، الشحوب ترك الوجوه التي بدأت تستردّ الشراسة والروح الهجومية.
لم استغرق أكثر من 48 ساعة لأرفع إرادة اقتال عند العسكريين.
مساء كل يوم، يُجمع الضباط كافة في قيادة الفوج، الصور الجوية للمخيّم بعدسة المصوّر الأستاذ الصديق ميشال أسطا تشير إلى أمكنة تمركز العدو، كل سرية تُعطى المهمة التي ستنفّذها في اليوم التالي.
عند كل فجر، يبدا الهجوم بالسريتين المحدّدتين ( اللفيف المحدّد ) اللتان تحتلان المواقع المحدّدة لها في أمر العمليات، وفي المساء يُصار إلى تقييم عملية النهار المنصرم، وتحديد المهام لليوم التالي.
سرية القيادة والخدمة في الفوج، بالإضافة إلى مهماتها اللوجستية، تُعبّىء أكياس الرمل وتنقلها إلى المراكز المحتلة لتدعيمها وحماية العناصر حيث كانت الخسائر في الأرواح تزداد عند تمركز القوى في اماكن جديدة، بسبب " إستلشاق " العسكريين.
في كل يوم، تُحتلّ أهداف جديدة،
الفوج يتقدّم بإستمرار، معنويات العسكريين مرتفعة، وبغية تحفيزهم على القتال، قلت
لهم:
-"اللي بيقتل ارهابي بياخد عشر ايام ماذونيي".
إحدى السرايا المهاجمة قتلت احد الإرهابيين من الجنسية الليبية، ضخم الجثة، كثّ اللحية، عندما سُحبت جُثته، سألت آمر السرية: "مين قتلو؟" أجاب أحد الجنود: "أنا سيدنا".
-"عطيه عشر ايام مأذونيي".. كاد يطير فرحاً، فإنبرى جندي آخر: " سيدنا هوي قوّصو وقلب ع الأرض وأنا كمّلت عليه".
-"وأنت كمان بتاخد عشر ايام".
عشرة ايام ماذونية في نهر البارد؟ أمر شبه مستحيل.
العميد أنطوان بانو قائد الجبهة،
وخلال مواكبته للعمليات الهجومية قال:
" كيف بتعطيه للعسكري عشر تيام مأذونيي.. عطيه 72 ساعة
بزيادي؟"
"ما بدك تلاقيلو الحافز ت يهاجم، ازا غاب العسكري عشر تيام، ما بيصير شي، بس لما بيقتل مسلّح ورفقاتو بيشوفو الجتي، قديش بتكبر معنوياتن؟"
ربت على كتفي، وقال : "روح برافو عليك.."
"إستقتل " العسكريون لقتل إرهابيين، وبالتالي الإندفاع في القتال وإحتلال مراكز الإرهابيين التي كانت تسقط الواحد تلو الآخر.
********
هذا انا جورج نادر.. معركة نهر البارد: نعشق الحرب، نتقن القتال - الحلقة الخامسة والعشرون
11 نيسان 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الخامسة والعشرون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
أحبّ أن أروي حادثة حصلت:
خلال تقدّم إحدى السرايا على محور "الأونروا"، إستخدمنا جرّافة D9 من فوج الهندسة، مصفّحة ومدعّمة بأكياس الرمل لحماية السائق، وذلك لفتح الطرقات التي تغمرها الردميات والركام، اصيبت الجرّافة بقذيفة آر بي جي، فأصيب سائقُها إصابةً طفيفة، قفز منها، وبقيت الجرّافة في منتصف الطريق ، تتعرّض لنيران المسلّحين، ولا من يعرف من العسكريين كيفية قيادتها.
تقدّم أحد العسكريين: "أنا سيدنا
بشيل الجرّافة."
مجنّد ممدّدة خدماته، أشقر الشعر، ملامح وجهه محبّبة،
وعيناه تشعّان بالثقة بالنفس .
"أكيد أنت بتعرف تسوقا."
"أكيد سيدنا."
توجّهت لآمر السرية: "أمّنولو حماية"، (أي إفتحوا النار
على مراكز المسلّحين كي يتمكن المجنّد من قيادة الجرّافة ) . وهكذا كان، تمكّن
المجنّد "علي الوهم" من قيادة الجرّافة وإنقاذها ..
"عملّو أربع إيام ماذونيي مكافأة" . أربعة ايام ؟ كأنها
شهر كامل بالنسبة إلى ظروف القتال في المخيّم. سأل المجنّد "الوهم" أمين سر الفوج:
" يعني كم مرّا بنام بالبيت ؟" وحسب الأيام عدّاً على اصابعه:
" بتنام وبتقوم بالبيت أربع
مرّات وبعدين بتجي ع المخيّم ..." .
عند عودته من مأذونيته أتى إلي مباشرة :
"سيدنا بدي اتطوّع بالجيش" (كونه مجنّد ممدّدة خدماته
التي ستنتهي بعد فترة.)
"ما تعتل هم بتتطوّع ما في مشكل."
"بس أنا مجوّز وعندي ولاد." ( يُحظّر بحسب القانون تطويع
المتأهلين.)
"لو كان عندك عرّ ولاد بدّي
طوّعك" .. طار فرحاً وصرت كلّما هاجمت سريته هدفاً، كان يتعمّد رؤيتي وبالطبع كنت
اسأل عنه دائماً وألاحظ إندفاعه لحدود التهوّر.
مسؤولية القائد في المعركة تتضاعف، ومصداقيته وقيمته
العسكرية على المحكّ. إن فشل مهمّة الوحدة يتحمّله قائدها، أما النجاح ف "يقطفه"
عناصر الوحدة كافة. كنت أحسّ بالمسؤولية العظمى الملقاة على عاتقي: أرواح العسكريين
.. ونجاح مهمّة الفوج. وكيف استطيع التوفيق بين تحقيق الأهداف العسكرية والحفاظ على
أرواح العسكريين .
أكاديمياً، ووفق العلوم العسكرية، هناك خسائر محسوبة
ومنطقية، فالقتال ينتج عنه إصابات في الأرواح، وتلك الخسائر تُحسب نسبتها بحسب
انواع القتال: في الهجوم ترتفع نسبة الخسائر خصوصاً إذا كان العدوّ في مراكز
محصّنة، ويحترف القتال والتفخيخ والقنص وله الخبرة القتالية في العراق وافغانستان
وسواها . كنت حريصاً على نجاح المهمة وبالوقت عينه ضنيناً بأرواح العسكريين الذين
كنت أنظر إليهم بعين القائد والأب معاً، ولا أزال أذكر الملازم جوزيف خوري ( الذي
إلتحق إختيارياً بالفوج وهوحالياً برتبة نقيب وآمر السرية الأولى في الفوج المجوقل
) وهو بعمر إبني البكر، ويشبهه شكلاً، كنت كلما أعطيت أمراً لسريته بمهاجمة أهدافها
أُقيّم الأمر من النواحي كافة وأسأل نفسي: لو أن إبني مكانه، وقائد فوجه ضابط آخر،
هل كنت أرضى عن الأمر الذي يعطيه إذا كان هو ذاته الأمر الذي أعطيه أنا ؟( كنت
أقيّم الأوامر كافة وأخُضعها للتحليل المنطقي بإيجابياتها وسلبياتها ونتائجها
المرتقبة ).
إستشهاد أي من العسكريين كان كأن
قطعة مني إنتُزعت، وأضع نفسي مكان ذويه، وعندما كنت اقوم بواجب التعزية، لم أكن أرى
في عيني الأهل إلا الفخر والإعتزاز ممزوجان بالحزن الكبير، وهذا ما كان يعطيني
ألأمل والدعم المعنوي.
صعوبة التقدّم في "شوارع" المخيّم نتجت عن أمرين:
- ضيق الطرقات والممرّات وطبيعة
الأبنية المتلاصقة والجدران المشتركة بينها، بحيث كنّا نحتلّ المنزل ونعبر منه
مباشرةً إلى المنازل ألأخرى .
الرمايات المدفعية التي سبّبت الركام والردميات بالإضافة
إلى تفخيخ المباني من قبل المسلحين وتدميرها، ممّا سدّ المنافذ بحيث كنّا نستعين
بجرّافات فوج الهندسة وفوج الأشغال لفتح الممرّات.
يحضرني نكتة أطلقها أحد العسكريين الظرفاء:
بعد إحتلال أحد المنازل وجدنا
برّداً ضخما ً في أحد غرفه فسأل أحدهم ممازحاً : "كيف قدرو وصّلو هالبرّاد لهون ؟ "
و "الطريق" التي تصل إلى المنزل هي أضيق من حجم البرّاد، وابواب المنزل ضيّقة هي
أيضاً، فردّ الآخر : " جابو البرّاد بالأول وبعدين عمّرو البيت " ..هكذا كانت
النكتة حاضرةً دائماً حتى في اصعب وأدقّ الظروف .
لم أعد اذكر بأي تاريخ إتصل بي رئيس فرع الأمن العسكري
العقيد عصام عبدالله، طالباً إبعاد العريف "خالد العلي" عن جبهة نهر البارد، ووضعه
في الخطوط الخلفية، كون شقيقه إستشهد في فترة سابقة في المخيّم.
إستدعيته ونقلت له الأمر:
"أول شي بعزّيك يا خالد، بس مش لازم نخسرك أنت كمان، رح
حطّك بسرية القيادة والخدمة ( السرية اللوجستية ) ".
" سيدنا، إزا بتشيلني من سريتي بفلّ من الجيش" أجاب
بعنفوان وعزّة نفس .. ولكي "لا أكسر معنوياته" قلت له:
"طيب ، بتبقى بالسريي بس ورا،
حراسة الخازن." ( كان من عداد سرية الدعم في الفوج )
"ليش أنا قصّرت بشي ؟ حدا خبّرك أني تراجعت أو جبّنت ؟"
"لا أبداً ، بس هيدي أوامر القيادي ولأنو عندك خي شهيد."
في اليوم التالي، كانت سريته تهاجم الأهداف المحدّدة
لها، ولاحظت وجود أحد العناصر يتحاشى رؤيتي، أو يحاول أن لا أرى وجهه .. إنه العريف
خالد العلي:
"سيدنا ، الله الحامي ، بدي أبقى مع رفقاتي أو بفلّ
...."
من هذا العريف الشجاع وأمثاله ،
كنت أستمدّ الشجاعة والمثابرة و" العضّ " على الجراح .. وأتابع .
أذكر في خلال مهاجمة مجموعة بنايات، تلقيت إفادة من آمر
السرية الثالثة الرائد جان نهرا ( حالياً قائد الفوج المجوقل وهو برتبة عقيد ركن )
:
" سيدنا أنا أنصبت .."
صدمت لسماعي هذه الإفادة وهممت أن اذهب في إتجاه هجوم
سريته، لكن العقيد الطبيب خليل الحلو ، الرفيق الدائم قال لي بهدوء :
" شو باك عصّبت، ما دام قلك أنو هوي منصاب، يعني واعي
وما بو شي بتكون إصابتو طفيفي ."
وهكذا كان ، إصابة من رشاش ب ك ث
عيار 62،7 ملم في صدره ناحية القلب، لكن الدرع الواقي الذي كان يرتديه، منع الرصاصة
من إختراقه بالرغم من المسافة القريبة التي أطلقت منها النار، لكنها إخترقت جهاز
الهاتف الخليوي الذي كان يعلّقه على درعه، ومعظم الدرع، وقوة الصدمة دفعته بقوة إلى
الخلف وأوقعته أرضاً .."
اذكر أنه عندما زارني في ثكنة الفوج في غوسطا السيد
ميلاد جبور أحد المتبرعين الرئيسيين بشراء دروع واقية وخوذ حديدية للوحدات المقاتلة
في نهر البارد، أريته الرصاصة وجهاز الهاتف وكيف أن الدرع الواقي أنقذ حياة الرائد
، فقال :
" هيدي أحسن خبريي سمعتا، أنو عملت شي وساهمت أني خلّصت حياة حدا .."
كم هو راق وكريم النفس ورفيع الأخلاق هذا الرجل.
********
هذا انا جورج نادر.. معركة نهر البارد: المقاتل الشجاع لا يتخلّى عن إنسانيته - الحلقة السادسة والعشرون
14 نيسان 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة السادسة
والعشرون من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
في أواخر شهر آب، ونتيجة للضغط المتواصل من وحدات الفوج
على مراكز المسلّحين، تمّ وصل بقعة عمل الفوج ببقعة عمل فوج مغاوير البحر الذي
يهاجم من الجهة الجنوبية للمخيّم، وبالتالي إقفال المنفذ الوحيد للمسلّحين على
البحر، الذي كان مضروباً بالنار ودوريات القوات البحرية تمنع الخروج منه، وبالرغم
من ذلك ( قبل إقفاله من قبل الفوج ) تمكّن عنصران من الإرهابيين من إستخدامه
والخروج من المخيّم سباحة، وقد أُلقي القبض عليهما على شاطىء "العبدة " .
فبعد تلك العملية، وكونها تمّت بسرعة قياسية ودون خسائر
في الأرواح، كدت أطيرُ فرحاً: إحكام الحصار على المسلّحين، ودون إصابات بليغة أو
إستشهاد أحد من العسكريين، يعني إقتراب سقوطهم. لم تكتمل فرحة النصر المرحلي، جاءني
العقيد الطبيب خليل الحلو قائلاً : "ميشال مفلح" .. دون إضافة اي كلمة. (النقيب
ميشال مفلح من فوج مغاوير البحر ) . قلت: " ما به ؟ " ، أجاب :" إصابة في الرأس
وحالته خطيرة جدّاً" .أطرقت لبرهةٍ وأحسست بفداحة الخسارة، ثم بعد دقائق، وصل نبأ
إستشهاد النقيب ميشال مفلح ..
كنت احبّ هذا الضابط، مع أننا لم نخدم سويّةُ، بل إلتقيت
به مرّات عدّة في مناسبات مختلفة، صيته الحسن بين رفاقه، وصورة وجهه "القريب من
القلب" لا تبارح مخيّلتي . ما أصعب حياة الميدان، خصوصاً بعد فقدان الرجال الذين
نحبّ .
في خلال هذه العملية ، أي وصل بقعة الفوج جغرافياً بقعة
عمل فوج مغاوير البحر، سقط ستة جرحى من الفوج . الجروح الطفيفة لم نكن نحسبها ، لأن
المصابين سرعان ما كانوا يعالجون ويعودون إلى وحداتهم، ومن هذه الإصابات الرقيب
عصام مسلماني الذي اصيب في ساقه إصابة طفيفة ، لكن بعد عدة ايام إتصل بي ضابط
الإدارة في الفوج :
"إستشهد عصام مسلماني ..." صعقت لهذا الخبر المشؤوم،
فسألته غير مصدّق :
"كيف هالحكي، إصابتو طفيفي وبأجرو وأنا شفتو، ما بيصير
.."
طلبت إلى العقيد الحلو :
"خليل بشرفك بدي اعرف كيف مات العسكري وإصابتو طفيفي
وأنا متأكد منها، بدي تتألف لجني طبيي ت اعرف شو سبب الوفاة .."
"خليك بشغلك أنا بهتم وبخبرك شو بيصير معي .. "
عرفت لاحقاً أن العريف مسلماني لم يوضع حتى في غرفة
العناية الفائقة بل أجريت له عملية جراحية في ساقه، ووضع في غرفة عادة لأن إصابته
لم تكن خطرة ، لكن تقارير اللجنة الطبية اثبتت أن "نسرة" صغيرة جداً من عظم الساق
المصابة دخلت في مجرى الدم وسبّبت له إنسداد الشريان الرئيسي وبالتالي وفاته، وأن
حالة كهذه نسبتها واحد على مليون مصاب ..... يا لسوء حظه .
إحدى الليالي الحارة من شهر آب ، وصل مدير العمليات
العميد الركن فرنسوا الحاج .
-"المسلحين عم يطلبو أخلاء عائلاتهم، شو رايك ؟" .
- " الإخلاء الإنساني للعائلات والمدنيين لا مانع لدينا
سيدي، لكن المسلّحين يجب ألا يخرجوا إلا موقوفين أو قتلى ... " . عرفت أنه إستمزج
رأي قادة الوحدات المهاجمة .
حُدّد يوم الإخلاء الذي سيتمّ في بقعة عمل الفوج. شدّدت
على ضباط الفوج وجوب الإلتزام الكامل بتنفيذ العملية، فنحن عسكريون ننفّذ أوامر
قيادتنا، ثم أنه من الناحية الإنسانية لا حقّ لنا عند النساء والأطفال وغير
المقاتلين، ولو كانوا من عائلات الإرهابيين، فهم لا ذنب لهم. وأوكلت إلى الضبّاط
مراقبة ردّات فعل العسكريين، خصوصاً المتحمّسين منهم، والتواجد الدائم قربهم لمنع
اي ردّة فعل عنيفة من قبلهم تُفشل عملية الإخلاء .
رأينا، وعلى بعد أمتار معدودة، مسلّحي "فتح الإسلام"
يساعدون زوجاتهم وأطفالهم على المرور بين الركام، وكنّا منتبهين إلى أقصى الحدود
خوفاً من ردود فعل غرائزية..
في الحقيقة، لم أكن أتوقّع من العسكريين الذين يقاتلون
منذ أكثر من ثلاثة أشهر، في ظروف خطرة وصعبة للغاية، والذين خسروا أمامهم رفاق لهم،
أن يعمدوا إلى حمل أولاد الإرهابيين وإيصالهم إلى سيارات الصليب الأحمر بالرغم من
الشتائم والألفاظ التي كانت تكيلها نساء الإرهابيين لهم :
"إيدك عنّو ...بتنجّسو" قالتها أم أحد الأطفال للجندي
الذي يحمل إبنها، وتمنّت إمرأة أخرى :
" نشالله البحر بيقوم وبيغرّقكن كلكن سوا " .
بالرغم من "التمنيات الحارّة" لنا ، هرع العقيد الطبيب
خليل الحلو إلى حمل أحد الأطفال المصابين مجرياً له الإسعافات الأولية، ونقله
بسيارة الصليب الأحمر إلى المستشفى حيث اشرف على علاجه، وكانت والدته تدعو له "بكسر
اليد " ..
يا ألله، كيف تنتصر الإنسانية على الكراهية، وكيف تطغى
المناقبية العسكرية على الغرائز والأحقاد .
يا ألله ....كم أنا فخور بهؤلاء الجنود الشجعان، الكبار
بإنسانيتهم، الملتزمين بروح الجندية، كيف "عضّوا" على الجراح وتسامت إنسانيتهم فوق
كل إعتبار.
تمّت عملية إخلاء 21 إمرأة و 23 طفل، يشكّلون عائلات
الإرهابيين، دون اية حادثة، وسُجّل للجيش إحترامه الكامل للإتفاقات والمعاهدات
الدولية ولحقوق الإنسان، في الوقت الذي يتمّ "خرق" هذه الإتفاقات والحقوق من قبل
أكبر واقوى الجيوش في العالم، ومن دول تدّعي إحترام حقوق الإنسان و "تُنظّر" في
مجال الإلتزام بالأعراف والمواثيق الدولية .
هذا هو الجيش الذي أعتزّ بإنتمائي له، هؤلاء هم
العسكريون الذين أحببتهم حتى العظم، ولا أزال، بالرغم من إحالتي على التقاعد، لا
زلت أعتبرهم أبناء لي وأخوة، ولنا سوية شرف الإنتماء لهذه البزّة المرقّطة، وشرف
القتال تحت رايتها، وفخر الإلتزام بالإتفاقات الدولية والمواثيق والأعراف ، بالرغم
من الجراح التي اصابتنا في الصميم ...
********
هذا انا جورج نادر.. الجيش ينتصر على الإرهاب في نهر البارد - الحلقة السابعة والعشرون
18 نيسان 2016
ليبانون ديبايت – الحلقة السابعة والعشرون من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
في الأول من ايلول، تقدّمت وحدات الفوج بشكل لم أكن أتوقّع، إذ إحتلّت عدّة مبانٍ لم تكن ملحوظة ضمن اهداف اليوم، وخوفاً من “إنفلاش” العناصر، إستنفرت سرايا الفوج لتدعيم المراكز المحتلّة والإبقاء على إحتياط لمواجهة الطوارىء، كون عديد السرايا المهاجمة لا يكفي ل “تعبئة” المراكز.
وصلت سرية الدعم في الفوج إلى قرب 50 متر من “الحاووز”، وهو خزّان المياه الأساسي للمخيّم ويقع على تلّة في وسط البقعة.. افدت العميد الحاج عن الخطوط الجديدة المحتلّة، لم يصّدق، وكلّف المقدم “بيار النغيوي” من مكتب القائد والذي كان مفصولاً إلى قيادة الجبهة، والمقدّم “طالب الشبيب” من مخابرات منطقة الشمال، والمقدّم “سامي الحويك” قائد القوة الضاربة في مديرية المخابرات، للتحقّق من صحّة الإفادات بواسطة جهاز تحديد الإحداثيات GPS.
إتصل به المقدم النغيوي :
“سيدنا، المجوقل وصل مطرح ما قلك العقيد نادر”
إتّصل بي العميد حاج ضاحكاً:
“بالأول ما صدّقتك، برافو عليك أنا مش متوقّع منك الا هيك”
“سيدنا إزا أخدت الحاووز شو بيصير ؟”
“بتخلص مهمتك، لأنو بيكون سقط المخيّم”
“أمهلني 48 ساعة بيكون الحاووز معنا”
ولم تمضِ ال 48 ساعة، بل في الليلة التالية حاول
المسلّحون “فك الطوق بالتسلّل” والخروج من المخيّم
من إفادات الأسرى لاحقاً، تبيّن أن المدعو “شاكر العبسي” قد جمع ما تبقّى من مسلّحيه، وكان عددهم 114 تقريباً، ووزّع عليهم “الغنائم” من اموال وجواهر وحلى، وأمرهم بحلق اللحى ثم بالتسلّل من حيث يستطيعون عبر خطوط الوحدات، ولكي لا يُحدثوا الضجيج، إستخدموا “الفرش” ومدّوها فوق الركام . وكان ذلك ليل 21 ايلول 2007.
“سيدنا، قتلنا مسلّح بالقطاع”
إفادة السرية الرابعة التي تتمركز في النسق الثاني، وإحتياط الفوج ..
مسلّح في البقعة الخلفية للفوج، يعني أن هناك عملية
تسلّل.
“مربض الهاون أطلق النار على مسلحين وقتلهما ”
إذن هي عملية فرار أو تسلّل كبيرة وجماعية.
على جهاز الإرسال، أعطيت فوراً ألأمر:
” كل العسكر بالآليات واللي بيمشي ع الأرض بيكون عدو …”
لأنه يصعب التمييز بين العسكريين والمسلّحين ليلاً، فنحن لا نملك وسائل رؤية ليلية،
لذلك كان وجوب إعتماد هذا الحل.
العميد بانو قائد الجبهة بقي على
إتصال دائم لمعرفة ما يجري،
“شو عم بيصير عندك ، شو وضع العسكر ، شو في خسائر ، وشو
في قتلى من المسلحين ..وين صارو ، عندك اسرى؟ الخ ”
المغاوير عم يطاردو مجموعا تسلّلت وصارو بوادي السمك.
صباح الثاني من أيلول كان عدد المسلّحين الذين تمكّن الفوج من قتلهم يفوق ال 34 ، وعدد الأسرى حوالي 9.
مجموعة مسلّحين تسلّلت وإحتلّت بناية قريبة من قيادة الفوج، كلّفت السرية الثانية القضاء عليهم.
أفاد النقيب “سايد شحاده” آمر السرية: “ثمانية مسلّحين قُتلوا وسُحبت جثثهم”. وكانت المفاجأة وجود بندقية م4 مع أحدهم.
رجعت بالذاكرة أسبوعاً إلى الوراء، وتذكرت إفادة أحد الأسرى الذي أُلقي القبض عليه وهو يحاول الهروب سباحة في شاطىء العبدة : “قال لنا شاكر العبسي، قد ضاقت الدنيا بنا، ” وكان دائماً يتباهى بحمل بندقية م4 الخاصّة بالرقيب المغوار الشهيد “عبّاس كموني” من فوج المغاوير والذي تمكّن المسلّحون من سحب جثته والإحتفاظ ببندقيته ألأميرية نوع م4.
أفدت العميد الحاج : ” بندقية م4 رقم ……….. وجدناها مع أحد المسلّحين”
بعد دقائق أعطى الأمر: “سلّمها للمغاوير هيدي بندقية عبّاس كموني”
عند التاسعة تقريباً إتصل بي
مدير المخابرات العميد “جورج خوري” :
“شو في عندك ؟مزبوط قيادة الفوج مطوّقا ؟”
“شو قلت سيدنا؟ المجوقل ما بيتطوّق، كان في كم مسلّح قضينا عليهن”
بعد ربع ساعة عاود الإتصال ونبرة صوته تنمّ عن عدم تصديقي: ” جورج.. حدّي العماد قائد الجيش عم يسمعك، خبّرني شو في عندك.”
أعدت الإفادة السابقة وزدت: “عدد القتلى صارو تقريباً 40 والأسرى 12 والوضع ممتاز، خسائر: لا شيْ.”
بعد قليل وصل العميد الحاج :”أنتو شرف الجيش، ألله يقويكن، المغاوير ومغاوير البحر واللواء الخامس عملو شغلن، خلصت المعركي.. وسقط المخيّم”.
لم أشعر في حياتي بفرحة مماثلة: سقط المخيّم، ولم أعد أسمع بإستشهاد وإصابة عسكريين.
“كل سريي تقول شو في عندا
خسائر.”
“جريح واحد بحالة الخطر من السرية الثانية”
“مين هوي؟”
“علي الوهم”، وبعد دقائق أُخبرت أن المجنّد علي الوهم،
الرجل الذي قاد الجرّافة من وسط الطريق، والذي يريد التطوّع في الجيش قد إستشهد وهو
يهاجم مجموعة المسلّحين قرب قيادة الفوج، فتلقّى رصاصةً في رأسه، لم تمهله سوى
ساعتين حتّى فارق الحياة.
حزني عليه، يُعادل فرحتي بسقوط المخيّم، لكنّ والده، وفي أثناء التشييع في بلدته فنيدق، قال بالصوت الجهوري: “ما حدا يبكي ع أبني الشهيد، خود خيّو مطرحو يا سيدنا، نحنا كلنا للجيش”
نعم، هكذا قاتل العسكريون في نهر البارد، ومن خلفهم الأهل وصلابة الإيمان والموقف.
للأمانة والتاريخ ، فإن فوج المغاوير وفوج مغاوير البحر ولواء المشاة الخامس ووحدات من أفواج المدرعات الأول والثاني والمدفعية الأول والثاني والهندسة والأشغال المستقلً والقوات الجوية والبحرية، كل هؤلاء العسكريين قاتلوا بشراسة وإندفاع وسقط منهم شهداء وجرحى وإستبسلوا منذ الأيام الأولى لزجّهم في المعارك وحتى سقوط الإرهاب، ولا بد لي من ذكر ضباط ورتباء وافراد ومجنّدي الفوج المجوقل، فرداً فرداً، وأشكرهم على إندفاعهم وإخلاصهم لفوجهم وجيشهم وأقول لهم:
إنني أعتـزّ وأفتخر بقيادة هذا الفوج النخبة، ولولاكم لما إستطعت القيام بشيء، فأنتم، ورفاقكم في الوحدات المشتركة في القتال، اصحاب النصر، وأنتم وإياهم شرف الجيش وفخر الأمة اللبنانية.
لا استطيع إلا أن أشكر كل أهالي عكار والمنية، وكل القرى والبلدات والأشخاص الذين دعموا جيشهم بكل ما يملكون، بالرجال الذين كانوا دوماً يأتون بسلاحهم وأكثرهم عسكريون متقاعدون: “بواريدنا معنا، وخرطوشاتنا معنا.. بدنا نقاتل معكن “.
بالمال الذي كان ينفقه الميسورون من اهالي المنطقة ومن كل الوطن، يشترون الدروع الواقية والخوذ الحديدية لحماية الرأس، يدفعون ثمن الوجبات الجاهزة والحلويات وقناني المياه المعبّأة: “خلّو العسكر ياكل لقمي طيبي ويشرب مي باردي”
النساء اللواتي كنّ يحضّرن الطعام في بيوتهن ويرسلنه للعسكريين، وأغلبهنّ من عائلات مغمورة فقيرة جادت بمقتنياتها “للجيش لولادنا ورجالنا”
ساذكر بعض الذين أعطوا دون حساب،
ولو لم يكونوا موافقين على ذكر أسمائهم ، إنفةً وتواضع:
ميلاد جبور، وديع العبسي، سليم الزهوري، أسعد الورّاق
(رحمه الله)، إيلي الغريب، الحاج محمد الخير، الحاج وجيه البعريني وآخرون كثر لا
تتّسع الصفحات لذكرهم.
أنتم خلفية الجيش الصلبة، ولولاكم، ولولا اهالي تلك
المنطقة العزيزة، لما إنتصر الجيش، أو لكان إنتصاره باهظاً، أنتم شركاء في
إنتصارنا، فالنصر لكم، والشكر لكم.
شكراً لكم.. شكراً لكم.. شكراً لكم..
********
هذا انا جورج نادر.. عودة العسكر من المعركة - الحلقة الثامنة والعشرون
21 نيسان 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثامنة والعشرون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
صدر أمر تجميع الأفواج الخاصة ( المغاوير، مغاوير البحر، المجوقل، القوة الضاربة) في معسكر عرمان للتدريب القريب من مخيّم نهر البارد، تمهيداً لعودتها إلى ثكناتها.
" ليك يا جورج، أنا بشكر تنين
بهالمعركي" قالها لي العقيد الركن جورج شريم قائد فوج مغاوير البحر.
" مين هنّي سيدنا ؟"
" العماد سليمان لأنّو جابك لعنّا بالوقت اللي كنا
عايزينك فيه"
"ومين التاني؟"
"شاكر العبسي.. لأنو قرّر يهرب من قطاعك.. وفرمتو" ( أي
قضيت عليه )
شهادة من ضابط قائد شجاع، أعتزّ بها مدى العمر.
الرابع من ايلول 2007، إصطفّت الآليات تحمل العسكريين بسلاحهم وذخيرتهم ، الوجوه مشرقة فخراً وإعتزازاً، صور الشهداء تحتلّ مقدّمات الملالات والشاحنات، العلم اللبناني يخفق فوق كل آلية. كل فوج بإتجاه ثكنته الأساسية: مغاوير البحر إلى عمشيت، المغاوير والقوّة الضاربة إلى رومية، والمجوقل إلى غوسطا.
لكن الطريق التي يستغرق قطعها ساعتين كحدّ أقصى، إستغرقت 13 ساعة.
المواطنون على الطرقات، من مدخل المعسكر في المنية حتى الثكنات: أهالي المنية، طرابلس نزلوا إلى الطرقات، الرجال ببنادقهم يطلقون النار في الهواء، النساء يزغردن، ولم تفلح محاولات ضباط المخابرات بمنع إطلاق النار.
القلمون، أنفه، شكا، البترون، جبيل ،الفيدار، العقيبة الناس نساء ورجالاً، شباباً وأطفال، "قطعوا" الطريق على الآليات العسكرية، "يُنزلون" العسكريين من الآليات، يرقصون ويفرحون، يغنون وزغاريد النساء والمفرقعات وصولاً إلى طبرجا وجونيه حيث إحتشد المواطنون بالمئات، بلافتات الترحيب بإطلاق النار والمفرقعات ورش الأرز والزهور. حقّاً إن هذا اللقاء بين الجيش وشعبه هو أصدق تعبير عمّا يكنّه هذا الشعب الطيب لجيشه الوطني.
"جورج، كفّي ع بيروت، لازم أهل بيروت يستقبلوكن بعدين بتطلع ع غوسطا" أوامر العميد الحاج.
بيروت أيضاً إستقبلت العسكر العائد.
"وين صرتو؟" قالها المحامي
الصديق نضال خليل لي بالهاتف.
"بعدنا معوّقين، بشرفك خلّي الناس يروحو ع بيوتن.. حرام
يبقو ل هالوقت"
"رافضين يروحو قبل ما توصلو"
إنتظرنا أهالي عشقوت والجوار منذ الساعة الثالثة بعد الظهر على مستديرة عشقوت ومدخلها الجنوبي، تسع ساعات ولم يملّوا الإنتظار" ناطرين المجوقل ما منفلّ ألا ما نشوفن ونقلّن الحمدلله ع السلامي"
المكان: مدخل عشقوت الجنوبي
الزمان: 5/7/2007
التوقيت: الساعة 0.30 بعد منتصف الليل.
حشد غفير من أهالي المنطقة
والجوار يتقدّمهم القاضي جان فهد مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (رئيس مجلس
القضاء الأعلى حالياً ).
إطلاق النار بغزارة من كلّ إتجاه وفي كلّ الإتجاهات،
المفرقعات، الزغاريد ورش الأرز، قرع الأجراس، الشباب والفتيات "يعربشون" على
الآليات، يرقصون مع العسكريين كأنهم في عرس، فحضرتني أغنية مطربنا الكبير وديع
الصافي :
" يوم الرجوع بلادك تلاقيك وعنّك خبار المجد.. ترويها"
"أنتو أنقذتو الجمهوريي يا كولونيل" قالها لي القاضي جان
فهد.
"نحنا عملنا واجباتنا يا ريّس"
"بعرف، بس أنا كلّ الملفّات عندي، وبعرف شو كان عم
يتحضّر ل هالبلد، وأنتو خلّصتوه"
وصلنا إلى ثكنة الفوج محمولين على الأكتاف الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف اليل بعد أن قضينا ثلاثة عشر ساعة ونصف على الطريق من عرمان إلى غوسطا.
يا لِكِبر هذا الشعب، وطيبته وحماسه ولهفته على جيشه. إن الجيش يقوى بشعبه المحبّ الطيّب فقط وليس بحكومته، كل الحكومات التي تعاقبت على حكم هذا الوطن منذ الإستقلال، لأنها لم تقرّر يوماً تقوية جيشها بالسلاح والعتاد وزيادة عديده ليتمكّن من مواجهة أعداء الوطن في الخارج والداخل، لذلك فالجيش يستمدّ قوته من ثقة شعبه به، هذا الشعب الذي يستحقّ أن نموت لأجله.
إعتباراً من 5 ايلول 2007 ، عكفت مع ضباط الفوج، على تقييم المعركة من جوانبها كافّة، وإجراء عملية النقد الذاتي، وتحديد نقاط القوة التي يجب العمل على تطويرها، ونقاط الضعف التي يقتضي تلافيها وتحديد الحاجات التدريبية واللوجستية للعمل على سدّ هذه الحاجات.
في ثكنة الفوج وفي حقول التدريب في وطى الجوز وعيون السيمان، إبتدأت ورشة التدريب الإحترافي.
********
هذا انا جورج نادر.. مرحلة إعادة التنظيم والتدريب الإحترافي - الحلقة التاسعة والعشرون
25 نيسان 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة التاسعة والعشرون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
إنتهاء معركة نهر البارد لا يعني إنتهاء الحرب، فلبنان بجغرافيته السياسية وديموغرافيته و"خصوصيات" الطوائف والمذاهب، بالإضافة إلى وجود اللاجئين الفلسطينيين بأعداد كبيرة على أرضه، جرّاء إحتلال فلسطين وقيام دولة الإرهاب على أرضها، كذلك الإرهاب العابر للحدود، كل ذلك يجعل من الوطن الصغير عرضةً لرياح الفتن والثورات والحروب، لذلك يقتضي وضع خطّة وطنية شاملة لحماية الوطن من الأخطار الخارجية والداخلية بالإعتماد على عماد الوطن: الجيش، تسليحه وزيادة عديده وتدريبه للتمكّن من القيام بمهامه الوطنية.
قبل اي عمل تنظيمي أو تدريبي قمت بزيارة ذوي الشهداء ال42 من أقصى الجنوب إلى الشمال والبقاع، كوني لا أعرف أكثرهم لأنهم إستشهدوا قبل إلتحاقي بالفوج، تعرفت على أهلهم ووقفت على إحتياجات الأباء والأمهات الثكلى والأرامل والأيتام، وفي كل بيت من تلك البيوت الكريمة كنت أسمع طلباً واحداً: "خيو بيقاتل مطرحو.. نحنا كلنا للجيش"
عدت بعد ثلاثة أيام مفعماً بالعزّة والفخر بشعب لا يخاف الموت، بأناس موجوعين يعضّون على الجراح، متناسين خساراتهم الجسيمة وكل ذلك : "فدا الجيش والوطن"، لذلك أقمت إحتفالاً في ثكنة الفوج في غوسطا لتكريم الشهداء والمدنيين الذين دعموا الجيش في معركته، وكان لذلك وقع كبير في نفوس الأهالي والحضور الذين زادوا تصميماً على دعم ومساندة جيشهم في كل الظروف.
منذ عودتنا من نهر البارد شكّلت
لجنة تقييم المعركة وتحديد نقاط القوة والضعف وتحديد النواقص والحاجات، وخلُصت
اللجنة بعد شهر من العمل الدؤوب إلى ما يلي :
• النقص الحادّ في إختصاص " قوات خاصّة " في الفوج، إذ
أن عدد العناصر الذين تابعوا دورات خاصة كان ضئيلاً جدّاً.
• النقص الكبير في إختصاص "قنّاص" و "هندسة قتال" و
"إسعاف ميداني".
• التمرّس على القتال بالوحدات الصغرى: مستوى حضيرة
وفصيلة.
• عدم وجود وحدة للإستطلاع الميداني.
• النقص الهائل بالتجهيزات الخاصّة: أكثر البنادق
الفردية قديمة ومستهلكة نوع م16، البنادق القنّاصة، المناظير النهارية والليلية،
عتاد هندسة القتال، عتاد الإسعاف الميداني.
• النقص في أسلحة الدعم المباشر: الهواوين 120 ملم و 81
ملم والمدافع والصواريخ المضادّة للدروع ومدافع المدرّعات.
بالخلاصة : يحتاج الفوج للتدريب الميداني التخصّصي
والعتاد على المستويات كافة.
بدأت ورشة التدريب الإحترافي
وتحقيق العتاد الضروري للقتال، قبل ذلك كانت الإختصاصات الضرورية في الفوج كما يلي:
قوات خاصة: 7.2%
صفر % قنّاص
1.4% مسعف ميداني متقدّم
5% هندسة قتال
صفر % إستطلاع ميداني
صفر % تقفّي الأثر
أُلحق بالفوج فريق تدريب من القوات الخاصة الأميركية التابعة للمنطقة الوسطى SOCCENT من أفغانستان حتى مصر جنوباً ( كما تحدّدها القوات الأميركية ) وبدأ تدريب وحدات الفوج مداورة.
الكميّات الكبيرة من الذخيرة على مختلف أنواعها التي كان يصطحبها كل فريق تدريب أكسبت العسكريين الثقة بالنفس بإستعمال السلاح والتعايش مع الخطر بالرمايات والتمارين بالذخيرة الحية.
أعيد تنظيم سرايا القتال :
في كل حضيرة قتال: قنّاص، مسعف ميداني متقدّم، عنصر
هندسة قتال، متقفّي الأثر.
فصيلة دعم ناري مباشر في كل سرية قتال لتأمين الدعم
العضوي بالنار لكل سرية.
دورات "مغوار" و "مجوقل" و "معلم
هبوط" و "آمر فصيلة للرتباء" والدورات الخاصة في الخارج للضباط المناورات والتمارين
التكتية بالذخيرة الحية التي تنفّذها السرايا دورياً، أكسبت الرؤساء على المستويات
كافة، الخبرة في قيادة وحداتهم في اثناء القتال، ويكفي شهادة قائد القوات الخاصة
الأميركية في المنطقة الوسطى اللواء CHARLES CLEVELAND في أثناء إحدى زياراته
التدريبية للفوج :
"إن فوجك قد صُنّف الأول بين قوات الحلفاء" والحلفاء
يعني بها كل الجيوش التي تستفيد من تدريب القوات الأميركية في المنطقة الوسطى".
لكن التدريب المتواصل، كان يتوقّف أحياناً و "يُعرقل" أحياناً أخرى بسبب الأوضاع الأمنية التي إستجدّت في مختلف المناطق بدءأً من طرابلس: بين جبل محسن وباب التبّانة، والبقاع: بين سعدنايل وتعلبايا، وعكار وبيروت بين الأحياء التي تتنازع السيطرة عليها الأحزاب والقوى المتخاصمة: تيار المستقبل، حركة أمل، حزب الله، الحزب السوري القومي الإجتماعي.. ألخ.
وما زاد من تعقيد الوضع العملاني، عدم التوصّل إلى إنتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس الممدّدة ولايته إميل لحود، ثم إستقالة عدد من الوزراء من حكومة الرئيس "السنيورة"، وأصبحت البلاد بلا رأس، وحكومة يعتبرها البعض غير شرعية، والبعض الآخر شرعية وتحلّ مكان رئيس الجمهورية الشاغر منصبه.
لكن الضربة الموجعة التي تلقّاها الجيش كانت إغتيال مدير العمليات في الجيش العميد الركن فرنسوا الحاج في بعبدا، على بعد بضع مئات من الأمتار عن وزارة الدفاع، وذلك في 12/12/2007.
********
هذا انا جورج نادر.. "ضربة موجعة للجيش" - الحلقة الثلاثون
28 نيسان 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثلاثون من مذكرات العميد
الركن المتقاعد جورج نادر
11/12/2007، عند الساعة 7:30
مساءً إتصلت بالعميد الحاج:
"سيدنا، قالولي بكرا في إجتماع الساعة 7:00 الصبح، قولك
في شي ت هيك مبكّرين؟"
"ما على علمي، اليوم كنت بالجنوب مع القائد وتعبان بدي
نام، بكرا قبل ما تفوت ع الإجتماع طلّ صوبي أنا بكون بالمكتب".
12/12/2007، الساعة 6:40،وعند دخولي مبنى وزارة الدفاع سمعت صوت إنفجار ضخم إهتزّ له مبنى القيادة، نظرت فإذا الدخان يتصاعد من جهة بعبدا.
شقيقي البكر عبدالله يقطن في
"وادي شحرور" وشقيقي "نمر" يقطن في كفرشيما كذلك أهل زوجتي.. لم "ينشغل" بالي على
اي منهم، بل إتصلت على الرقم "الرباعي" (الرقم في الشبكة العسكرية المقفلة) 2333
الخاص بمدير العمليات: الخط مقفل
عاودت الإتصال مراراً: مقفل
إتصلت على الخط المدني الخاص به: 03318971: أيضاً مقفل.
لم يقفل خطّه مرة واحدة، فماذا إذن؟
خلال الإجتماع مع قائد الجيش العماد ميشال سليمان (كنا خمسة أو ستة قادة وحدات فقط) وصل الخبر المشؤوم: إغتيل العميد الحاج.
لم أعرف كيف وصلت إلى بعبدا، الركام والدمار ورائحة الموت تنبعث من كل زاوية، الدخان يملأ المكان، نزلت إلى تحت جسر بعبدا غير عابىء بالشريط الملون المانع للدخول، والموضوع من قبل المحقّقين لعدم العبث بمسرح الجريمة، ويا لهول المنظر: EPAULETTE العميد الحاج، وقسم من فروة الرأس وثياب ممزّقة.. وأشلاء..
إغتالوا فرنسوا الحاج، قتلوا
الضابط الشهم الشجاع، المثقّف، الولاؤه للعظم، الملتزم بجيشه حتى الموت.
قتلوا فينا أمل الشرفاء بجيش قوي ووطن يحلم فيه أبناؤنا.
قُتل الضابط المعلّم، القائد والأب الحنون، الذي لم
تنحنِ هامته لـ "إسرائيل" في أوج جبروتها وغطرستها.
رحل فرنسوا الحاج، ورحل معه جزءَ مني، وذهب معه الحلم
الجميل.
غياب اللواء الحاج عن مديرية العمليات أحدث فراغاً هائلاً في القيادة من الصعب ملؤه بضابط آخر، المرجعية العملانية لقادة الوحدات الذي يجد الحل دائماً لأي معضلة تواجههم.
حوادث شباط 2008 في مار مخايل، والمظاهرات التي قامت من قبل الأهالي وقتل أحد المتظاهرين "بطريق الخطأ" من رفاقه، ثم مقتل ستة آخرين بالرصاص إدّعى البعض أنه من جانب قوات الجيش (فوج التدخّل الخامس)، كل هذا أدّى إلى زجّ ثلاثة ضباط في السجن وعدد كبير من العسكريين من "مطلقي النار" ولمدّة أكثر من ثلاثة أشهر مع أنه ثبُت، بعد تحليل البنادق العسكرية التي اُطلقت النار منها أن الرصاصات التي إستقرّت في أجساد الضحايا لم تُطلق من تلك البنادق، مما يُثبت أن هناك من أطلق النار من "خلف" قوات الجيش أو من "خلف" المتظاهرين، وتسبّب في وقوع الضحايا من المدنيين.
ومع ذلك، أودع العسكريون السجن ولم تفلح كل الوساطات والتدخّلات لإطلاقهم.
هل هذا تحذير للقوات العملانية بألا تستخدم السلاح ؟؟
لا زلت أذكر حوادث أيلول 1993 في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث قُتل تسعة مواطنين بينهم نساء، وذلك خلال تفريق الجيش لمتظاهرين، وإلتباس الأمر على الضابط آمر القوى، وإطلاق النار من قبل العسكريين وقتل المدنيين التسعة. يومها لم يّعاقب أحد، ولم يُذكر إسم أحد من الضباط أو العسكريين، ولم تنشر أسماؤهم وصورهم في وسائل الإعلام، ولم يُزجّ أحد في السجن، بالرغم من ثبوت إطلاق النار من بنادق العسكريين ووقوع ضحايا أبرياء.
لست في "تحليل" دماء الضحايا، حاشا، فالمسؤولية تُحدّدها التحقيقات، ويجب معاقبة الفاعلين، لكن مع الحفاظ على معنويات الجيش وهيبته، لكنني أُقارن بين إجراءآت إتُخذت في حالتين مماثلتين للدلالة على التراجع في الإداء و"كشف" الوحدات العملانية اثناء تأدية مهامها، وبالتالي برأيي، أن أحداث مار مخايل في شباط 2008 أدّت إلى إحجام بعض وحدات الجيش عن القيام بمهامها في حوادث 7 أيار من العام ذاته.
********
هذا انا جورج نادر.. احداث 7 أيار 2008 - الحلقة الواحدة والثلاثون
2 ايار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الواحدة والثلاثون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
لا تزال حوادث تلك المرحلة ماثلةً أمام ناظري حتى الآن.
في غياب رئيس للجمهورية، ووجود حكومة مطعون بشرعيتها، إتخذت هذه الحكومة قرارين يقضي أحدهما بوضع اليد على شبكة الإتصالات الهاتفية التابعة لحزب اله، ونقل العميد وفيق شقير من مركزه في رئاسة جهاز أمن المطار.
قرّر الإتحاد العمالي العام الإضراب في 6 أيار 2008، عيد العمل، في أجواء مشحونة سبقها الشحن المذهبي والتحريض في وسائل الإعلام وعلى المنابر الدينية.
إعتباراً من 4 أيار، نُشر الفوج المجوقل بين المتحف و "الكولا" في بيروت للفصل بين أنصار تيار المستقبل المتواجدين بشكل أساسي في"الطريق الجديدة" وأنصار حركة امل وحزب الله المتواجدين في منطقة "بربور" ومحيطها.
قُطعت طريق المطار ذهاباً وإياباً بالسواتر الترابية وشُلّت حركة السفر بين لبنان والعالم، كما قُطعت طرقات عدّة في مختلف المناطق اللبنانية، وتمّت مهاجمة مراكز تيار المستقبل في بيروت وسقطت خلال ساعات معدودة، إلا في الطريق الجديدة حيث يتواجد الفوج المجوقل.
ليل 5- 6 أيار، ووحدات الفوج
تنتشر على كورنيش المزرعة تبيت في الملالات والآليات المدولبة بين المتحف
و"الكولا". توضّح أمامي المشهد الدموي المتوقّع:
إتصلت بمكتب قائد الجيش، فلم أُوفّق إلى الكلام معه،
مدير العمليات العميد "نبيل قرعة" الذي حلّ مكان اللواء الشهيد فرنسوا الحاج، مسافر
إلى الإمارات العربية المتحدة ولم يتمكّن من العودة بسبب شلّ حركة الطيران. بصراحة
"ضاعت الطاسة".
"لازم الجنرال يمنع التجوّل بكرا لأنو شايف قدّامي بحر دم ببيروت"
"بطّيخ يكسّر بعضو" أجابني أحد
ضباط القيادة الذي أتحفّظ عن ذكر إسمه.
نعم، هكذا كان الجواب: "بطّيخ يكسّر بعضو"، وكأن ما
أتوقّعه حاصلاً من إهراق الدم سيكون في "أنغولا" أو بلاد "الواق واق".
جمعت أركان الفوج، مفترشين
"الكرتون" قرب جامع "عبد الناصر" على كورنيش المزرعة وكانت تُمطر في أيار، وسأذكر
طوائفهم ومذاهبهم ( مع أن هذا ليس من شيمي ) للدلالة على أن المناقبية العسكرية
التي تحلّى بها ضبّاط الفوج كانت اقوى وأمتن من محاولات التفريق والشرذمة وستبقى:
مساعدي ضابط من رفاق الدورة العقيد أمين أبو مجاهد: درزي
رئيس القسم الثاني وضابط الأمن: العقيد عبد السلام
الحاج: سنّي
رئيس القسم الثالث ( العمليات والتدريب ) العقيد الركن
عبد المنعم مكّي: شيعي.
"يا شباب، أنا شايف الحرب قدّامي، واللي بدّو يصير أكبر
منّا كلنا سوا، بس نحنا عسكر ما فينا ننحاز ل حدا، لا هودي ولا هوديك. نحنا ع
كتافنا في 42 شهيد من نهر البارد، ما منقدر نزلّ فيهن ونتفرّج ع الناس عم تتقتّل
وما نعمل شي"
طبعاً، كل الضبّاط كانوا بالمناقبية والإلتزام ذاته.
ولإراحة الضمير، يقتضي وضع القيادة بالصورة الميدانية المتوقّعة.
ليل 5-6 أيار إتصلت برئيس
الأركان اللواء شوقي المصري على الرقم الرباعي الخاصّ به: 2001، أجاب: " عندي
إجتماع بمجلس الوزرا، بس خلّص بحكيك."
إتصلت لاحقاً فكان الخطّ مقفلاً.
عندها أوكلت ضابطين بنقل رسالة
شفهية إلى كلا الطرفين: حركة أمل وتيار المستقبل، مبلغاً الموقف:
"ممنوع حدا يقطع الطريق من هون لهونيك وبالعكس، واللي مش
مصدّق يجرّب"
وللدلالة على عمق الإنقسام
المذهبي أروي حادثة بسيطة:
متظاهرون من منطقة بربور موالين لحركة "أمل" وفي المقابل
متظاهرين من طريق الجديدة موالين لتيار المستقبل، كل مجموعة تشتم الأخرى، وتشتم
زعيمها وقادتها بالكلام البذيء، وتتوعّدها بالويل والثبور، وسائل الإعلام تغطّي
الحدث بتفاصيله وتنقله مباشرة، ولتفادي الصدام عمد آمر السرية النقيب "ربيع كحيل"
إلى تفريق المجوعتين بدءاً من المجموعة الموالية لحركة أمل، فتصلّب المتظاهرون
ورفضوا:
"قبل ما تتعاطى معنا روح فرّق هوديك".. وإنضمّ إليهم
عناصر جدد، فألقى الضابط قنبلة مسيلة للدموع لتفريق الحشود، فهاجت الجموع متّهمة
إياه بالتحيّز كونه لم يفعل الأمر ذاته مع مجموعة تيار المستقبل في الجهة المقابلة
من الشارع، فما كان منه إلا أن ألقى قنبلة صوتية وأخرى مسيلة للدموع بإتجاه مجموعة
تيار المستقبل، وبدقائق معدودة هدأت المجموعتان.
ليل 6 - 7 أيار إشتعلت بيروت فجأة، هوجمت مراكز تيار المستقبل في وقت واحد في رأس النبع وبربور والمحيط، لكن لم يجروء أحد على عبور كورنيش المزرعة بالإتجاهين.
قبيل الفجر، وكنت مفترشاً الأرض على الطريق مع أركان الفوج، جاءني شخصان يعرّف أحدهما عن نفسه بأنه مسؤول تيار المستقبل في الطريق الجديدة طالباً تسليم مراكزه للجيش.
"ليش، مين قرّب صوبك"
"نحنا خايفين.. بدنا تقعدو بمراكزنا"
"ما تخافو نحنا هون ما حدا بيجي صوبكن وإزا مصرّ منقعد
بمراكزكن"
"عطيني نصّ ساعا بدي أحكي العميد عجوز"
"العميد محمّد العجوز" أجاب: نعم
تعجّبت من زجّ هذا الإسم حيث تبيّن لي لاحقاً أنه تسلّم إدارة شركة أمن وحماية " SECURE PLUS " والتي تتولّى حماية مراكز تيار المستقبل.
بعد مضي نصف ساعة رجع الشخص
المسؤول في تيار المستقبل:
"شو صار معك ؟ "
"قال العميد أنو بدو يراجع العقيد "بلعة " قبل ما ياخد
القرار"
العقيد "غسان بلعة " مساعد مدير
المخابرات، تعجّبت أكثر لهذا لكلام، إذ ما دخل مساعد مدير المخابرات في الجيش بعمل
ضابط متقاعد، يعلوه رتبة، يدير شركة أمن وحماية لصالح تيار سياسي ؟
"شوفو شو بدّكن تعملو وتعا خبّرني، بس بكل الأحوال ما
حدا بيقرّب صوبكن طالما نحنا هون"
********
هذا انا جورج نادر.. المناقبية العسكرية تنتصر في 7 أيار 2008 - الحلقة الثانية والثلاثون
5 أيار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثانية والثلاثون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
تمّ إستلام مكاتب تيار المستقبل وطمأنت السكّان عندما تجوّلنا سيراً، أركان الفوج وأنا، في الأحياء والشوارع وتعمّدنا الكلام المباشر مع الأهالي لإراحتهم والتأكيد لهم "بأنو ما حدا بيقدر يدقّ فيهن".
الوجوه واجمة، حذرة وقلقة، وهذا طبيعي، لكن التواصل المباشر مع الناس، يوجد الثقة بنا بأننا لن نتركهم عرضة لنيران الغير. موكب تشييع أحد ضحايا القتال من سكان المنطقة لم يمرّ على خير إذ عمد أحد أنصار حركة "أمل" بسبب أفضلية المرور، على إطلاق النار على المشيّعين، أدّى إلى قتل إثنين من المواطنين المشيّعين. وهذا ما ألهب صدور الأهالي وغضبهم، فهاجت الجموع وركض كل إلى منزله لحمل السلاح والإنتقام، ولم تهدأ إلا بعد القبض على الجاني.
يصعب علي جدّاً أن أرى فريقاً لبنانياً "مكسورا" مهزوماً ومحبطاً، ولو إختلفت معه في الرأي والسياسة، فكيف إذا أتى الإحباط والقهر على يد فريق لبناني آخر؟ أما كان بالإمكان تحاشي تلك المعارك بين ابناء الوطن الواحد والمدينة الواحدة والحي والشارع الواحد.
أنا ضدّ ما جرى في 7 ايار، لكنني بالطبع ضدّ ما تقرر في 5 ايار، حين "سهرت للصبح" الحكومة المطعون بشرعيتها لإتخاذ قرار مصادرة شبكة الإتصالات الهاتفية التابعة للمقاومة، هكذا قرار لا يناقش بعد أقل من سنتين على عدوان تموز حيث، لولا تلك الشبكة لما حافظت المقاومة على القيادة والسيطرة التي هي العامل الأساس في إدارة القتال، ولكان العدو الإسرائيلي تمكّن من إحراز النصر على لبنان.
الأمور الوطنية الكبرى لا يُتّخذ القرار بشأنها خلسةً، وبخلفيات مذهبية طائفية وسياسية ضيّقة.
لكن القرارت الحمقاء التي إتخذتها الحكومة كان يجب ألا تواجه بالدم. والقتل والترهيب، ليس فقط في بيروت وللأسف، بل في كل المناطق المختلطة مذهبياً، إمتدّت المعارك لتشمل الشويفات وسعدنايل وتعلبايا في البقاع وجبل محسن وباب التبانة في طرابلس كذلك في حلبا حيث حصلت مجزرة بحق القوميين السوريين، لكن المعارك الأعنف كانت في الشويفات، إذ كانت مجموعات مقاتلة من حزب ألله قد دخلت مبانٍ مشرفة على البلدة، وأصبحت تهدّد مراكز الحزب الإشتراكي، وقد سقط ضحايا كثيرون من الطرفين، والوضع مرشح للتفاقم والتعقيد لعدم وجود رادع.
طُلب إلي إلحاق سرية من الفوج بالشرطة العسكرية التي تنتشر في الشويفات ومحيطها، سألت لماذا ؟ فأجابني نائب رئيس الأركان للعمليات العميد الركن محمد قعفراني "يا الله بعتها في هجوم ع الشويفات."
من لهجته المتوتّرة أدركت خطورة الوضع، تريّثت في إرسال السرية وتوجّهت إلى غرفة عمليات القيادة: ضياع وتخبّط في إتخاذ القرار، في الشرطة العسكرية الحال ليس بأفضل. سألت عن الوضع الميداني في الشويفات: وحدات من الدفاع الشعبي ثم من القوات الخاصة التابعة لحزب الله تهاجم مراكز الحزب التقدّمي الإشتراكي في الشويفات، خسائر جسيمة، والقتال يبدو أنه مستمرّ. والوضع بحاجة إلى قوّة رادعة للفصل بين المتقاتلين ولإيقاف المجزرة.
فكرت ملياً: الشويفات، وآسف لهذا التعبير، منطقة بأغلبيتها من الدروز وإمتدادها حتى سوق الغرب قرى بأغلبيتها الساحقة درزية، يحيط بها من الغرب صحراء الشويفات والعمروسية ذات الأغلبية الشيعية الموالية لحزب الله وحركة أمل، ومن الشمال كفرشيما وبسابا والحدث البلدات المسيحية، ويتقاسم ولاء سكانها التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، هذه البلدات كانت خلال الحرب المسمّاة أهلية خطوط تماس وصدام دموي مع محيطها الدرزي في الشويفات، ومع محيطها الشيعي أيضاً في الليلكي والعمروسية.
أدركت أن ترك هذه المنطقة بحساسيتها الطائفية والمنذهبية، وتاريخها الدموي على ما هي عليه، سيؤدي إلى مجازر حقيقية بين الشيعة والدروز ( آسف مرة أخرى على هذه التعابير لكنها تعبّر وللأسف عن واقع الحال ) وسيؤدي أيضاً إلى إستغلال بعض الأحزاب للواقع الميداني وبالتالي جرّ الأهالي إلى حرب طائفية لا يدرك أحد عواقبها. وإذا الحقت سرية قتال من الفوج بالشرطة العسكرية، فإن القتال لن يتوقّف.
في قيادة الجيش اليرزة، مكتب
العميد قعفراني:
"بدل ما تبعت سريي من الفوج ع الشويفات وما بتقدر تعمل
شي لوحدا، باخد الفوج كلو وبوقّف المعركي و ع مسؤوليتي هـ الحكي."
"ما معنا وقت ت يجي فوجك من غوسطا بيكون اللي ضرب ضرب
واللي هرب هرب."
نعم، نائب رئيس الأركان للعمليات لم يكن يعرف أن فوجي
ينتشر منذ الرابع من ايار ( عشرة ايام ) في بيروت.
"من غوسطا ؟؟؟؟ صار لي عشر تيام بالشارع ببيروت وبتقلّي
أجي من غوسطا ؟"
حُرّر الفوج من بيروت بإستبداله بلواء مشاة (على ما
أعتقد كان اللواء الحادي عشر )، وتجمّعت آليات الفوج أمام تمثال فخر الدين مدخل
وزارة الدفاع.
الزمان: 11/5/2007
الساعة: 7:30 ليلاً ( لم أعد أدري إذا كان التوقيت
دقيقاً لكن الليل كان قد أرخى سواده )
الفصل بين قوى متقاتلة ليلاً هو على مستوى عال من الخطورة، خصوصاً لتداخل الأبنية ومناطق السيطرة، ولعدم توافر أجهزة رؤية ليلية مع عناصر الفوج، لكن الوقت يعمل لصالح الفتنة، ولا مجال للتريّث.
قبل تحرّك أليات الفوج بإتجاه الشويفات، تلقيت إتصالاً من أحد المسؤولين السياسيين، من هاتف صديق مشترك، يطلب تأجيل تدخّل الفوج في الشويفات إلى الغد، لماذا ؟
********
هذا انا جورج نادر.. 7 أيار 2008 صوت الضمير يعلو على كل صوت - الحلقة الثالثة والثلاثون
10 ايار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الثالثة والثلاثون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
لم أصغِ إلا لصوت الضمير، ولم
يحرّكني شعور طائفي أو مذهبي، أو مصلحة شخصية، فقط مناقبيتي العسكرية وولائي للبزّة
التي أرتديها، ومعرفتي بالواقع المذهبي الطائفي للمنطقة وتاريخها الدموي إبّان
الحرب. لا أستطيع أن أرى فريقين لبنانيين يتقاتلان دون أن أمنعمها أو افصل بينهما،
أو على الأقل أحاول ذلك إذا لم يكن بمقدوري .. كالذي يرى شقيقين من عائلته يتضاربان
ويهرق كل منهما دم الآخر .. ولا يتحرّك لإيقاف قتال الأخوة ..
يقتضي عمل أي شيء لوقف هذه الحرب المدمّرة.
سريتان إلى الشويفات بقيادة
العقيد أمين أبو مجاهد، يعاونه النقيب ربيع كحيل .
سرية تتمركز في كفرشيما وبسابا لمنع إنتقال المسلّحين من
وإلى الشويفات .
سريتان تفصلان بين المعروفية وعيتات وبين القماطية وسوق
الغرب ..
سرية إحتياط في كفرشيما ..
المهمة : الفصل بين المتقاتلين،
ثم إبعاد كل فريق إلى داخل الأحياء التي خرج منها تمهيداً لوقف القتال وفرض الأمن
..
في الشويفات كان القتلى لا يزالون في الشوارع وإطلاق
النار المتبادل بين فريقي النزاع : حزب الله والحزب الإشتراكي ..
في الليل تصعب رؤية الواقع بوضوح خصوصاً لعدم توافر
أجهزة رؤية ليلية، حاول المسلّحون منع وحدات الفوج من التقدّم والفصل بين
المتقاتلين إلا أن الأمر كان واضحاً: " كل رصاصة تُطلق بإتجاهنا سيُعامل مُطلقها
كأنه عدو.."
بصعوبة بالغة، تمّ الفصل بين القوتين بسبب شراسة القتال
من جهة، وسوء الرؤية التي تعيق حركة القوى من جهة أخرى.
في المعروفية وسوق الغرب، الفصل بين المتحاربين كان
اسهل، فهناك مساحة غير مأهولة بين المعروفية وعيتات من جهة والقماطية من جهة أخرى،
إنتشرت الوحدات دون صعوبة تّذكر.
النتيجة: سقوط ضحايا من الفريقين تعدّى عددهم العشرات، والجرحى بأعداد كبيرة، بالإضافة إلى الأضرار بالممتلكات العامة والخاصّة، والأهم كان الهوّة السحيقة التي خلّفتها هذه الأحداث بين الفريقين والتي لا تزال آثارها ماثلة إلى اليوم.
في البقاع لم تكن الحال بأفضل
مما هي عليه في بيروت والجبل، تنقّلت الإشتباكات بين سعدنايل وتعلبايا وحيث يتواجد
أنصار تيار المستقبل وحركة أمل وحزب الله، ولم تستطع القوى العسكرية من لجم هذه
الإشتباكات إلا بصعوبة وذلك لكثرتها وتوزّعها جغرافيا على مناطق شاسعة ..
في الشمال تأزّم الوضع الأمني، ودارت الإشتباكات بين
المسلّحين في جبل محسن ومسلّحي باب التبّانة وإنتقلت الإشتباكات إلى عكار بين أنصار
النائب خالد الضاهر وعناصر الحزب السوري القومي الإجتماعي أدّت إلى سقوط عدة قتلى
من صفوف الحزب.
الخلاصة: حوادث 7 ايار 2008 عمّقت الإنقسام السياسي والشرخ المذهبي بين اللبنانيين وآثارها التدميرية بقيت حتى الساعة، وتفاقمت بسبب الأزمة السورية التي بدأت في مطلع العام 2011 ولا تزال حتى كتابة هذه السطور، وهي مرشحة، للأسف، للإستمرار والتفاقم، مما يزيد في حدّة الإنقسام العمودي بين اللبنانيين بين مؤيّد للنظام السوري، ومؤيد للمعارضة السورية. ولو بقي التأييد والشجب في مجال التعبير لما كنا نشعر بخطورة هذه الحرب في سوريا، لكن، وللأسف، يتقاتل اللبنانيون على الأرض السورية دعماً لجيش النظام هناك، ودعما للمعارضة المسلّحة أيضاً .....
إن الجيش، وبغياب القرار الحاسم لقيادته، جعل بعض الوحدات تقصّر في إداء مهامها، في فرض الأمن بالقوة ومنع التقاتل الداخلي الذي هو من أهم واجبات الجيش في كل زمان ومكان.
حتى لو إتُّخذ هذا القرار، فإن
التداخل الديموغرافي لأنصار الفريقين على الجغرافيا الوطنية، يجعل من الصعب جدّاً
فرض الأمن بالقوة دون وجود القرار السياسي بذلك . فهل تكفي وحدات الجيش لمنع القتال
إذا إندلع بين مكونات الشعب اللبناني في كل المناطق ؟؟
حوادث 7 ايار 2008 أدّت إلى ما سُمّي آنذاك بإتفاق
الدوحة، وإنتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وبعد أربعة
اشهر، تعيين قائد اللواء الثاني العميد الركن جان قهوجي قائداً جديداً للجيش (23
يلول ) .
********
هذا انا جورج نادر.. ابواب الثكنات تُفتح للمواطنين - الحلقة الرابعة والثلاثون
12 ايار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الرابعة والثلاثون من مذكرات العميد الركن المتقاعد جورج نادر
قبل تعيين العماد قهوجي قائداً للجيش في 29 ايلول 2008، كان قائداً للواء الثاني الذي ينتشر في منطقة عكار والمنية، وينتشر من فوجي سريتان إحداها في عكار، ثكنة عندقت، والأخرى في معسكر عرمان إحتياط القوى المنتشرة في طرابلس.
التعيين كان نهار الجمعة على ما أعتقد، وحفل التسلّم والتسليم في اليرزة بينه وبين اللواء شوقي المصري الذي كُلّف قيادة الجيش كان نهار الإثنين. الأحد، غداة التعيين، حصل إشتباك بين مجموعتين مسلّحتين في قرية "الشيخ لار" في عكار، إحداهما تتبعان تتبعان للنائب خالد الضاهر والأخرى موالية للنظام السوري، سبب الإشتباك كان الخلاف حول ملكية مسجد القرية، لكن الأسباب الحقيقية هي مذهبية بدون شك، لذلك فإن الإشتباك على خلفية مذهبية يمكن أن ينتشر كالنار في الهشيم، لذلك يقتضي التدخّل بسرعة وقوة منعاً لإمتداد النار المذهبية غلى مناطق أخرى.
أُعطي الأمر للسرية المتمركزة في عندقت بالتدخّل.
في طريقي إلى عكار تلقيت إتصالاً
من القائد الجديد للجيش:
"جورج، بدّي تحسم الوضع بسرعا وتصرّف بقوي وحزم"
"ما يهمّك سيدنا.. أنا رح أوصل، ورح دخّل سرية عرمان
كمان"
ناديت آمر السرية الثالثة الرائد
جان نهرا:
"ممنوع ترمي بالبندقيي، كل طلقا عليك بتردّ عليها بال
12،7 وبالآر بي جي، وممنوع يبقى مسلّحين بالشوارع"
وهكذا كان، حُسم الوضع الميداني بسرعة، قُتل أحد المسلحين وأوقف البعض الآخر من الجهتين المتقاتلتين.
اذكر أنه في اثناء تقديم التهاني
للقائد الجديد على رأس وفد من ضباط الفوج، قال:
"المجوقل خلاني فوت ع الوزارا مرفوع الرأس"
طلبت موعداً للقاء العماد قائد
الجيش.
"سيدي، أنا عندي مشروع لتدريب وتجهيز الفوج ع خمس سنين،
بكمّل فيه ولاّ بدّك تجيب حدا تاني مطرحي؟"
"انت ضابط ممتاز وبتبقى مطرحك، كفّي شغلك"
سيدنا، ما في إقبال ع التطوع بالجيش، والشبيبي بتتأثر
بالعنفوان ومظاهر القوّي، خلينا نعمل عروضات عسكريي بالمدارس والجامعات ت نجذب
الشباب للجيش" وأخبرته عن العرض الذي اقامه المغاوير في القبيات عندما كنت يافعاً،
وكيف تأثرت به إلى اليوم.
"أوكي موافق.. بلّش"
في موازاة التدريب التخصّصي والإحترافي لوحدات الفوج، كنت أعمل على رفع نسبة جهوزية الآليات العسكرية والسلاح والعتاد بالإضافة إلى بناء منشآت جديدة لعسكريي الفوج. لكن ضعف الموازنة المخصّصة للإنشاءآت وتجهيز الآليات دفعني إلى التفتيش عن مصدر آخر.
الثكنة كانت في الماضي ثكنة لميليشيا القوات اللبنانية، ولا يزال فيها بعض الآليات المجنزرة والمدولية بالإضافي إلى صفائح معدنية وصناديق شاحنات وآليات عسكرية، الخلاصة: فكّرت ببيع هذه الآليات لبائعي الخردة، قدّرت أوزانها، وتفاوضت مع البائع، ونظّمت طلباً بهذا الخصوص إلى قيادة الجيش شارحاً عدم إمكان الإستفادة من الآليات القديمة والتي ليست "على القيود" والجدوى الإقتصادية من بيعها، وكنت قد مهّدت للطلب بمناقشته مع أركان الحيش للتجهيز ومديرية المخابرات وطبعاً أخذ الموافقة الشفهية من قائد الجيش. وافقت القيادة، وبيعت "الخردة" بثمن عال مكّنني من تجهيز الآليات كافة.
إبتدأ تعريف الشباب في المدارس والمعاهد والجامعات بالجيش وبالفوج المجوقل تحديداً: عروض عسكرية منها: الزحف على الحبال، القتال وجهاً لوجه، الهبوط بالحبال من إرتفاعات شاهقة، وكان يسبق العروض دائماً محاضرات لتعريف الشباب بالجيش وشرح معركة نهر البارد.. التجاوب كان ممتازاً، الإقبال فاق المتوقّع والمدارس اصبحت تتسابق في طلب إجراء العروض العسكرية في حرمها.
كذلك، وفي سابقة من نوعها، فُتحت أبواب الثكنة للمواطنين: الأندية، الجمعيات، طلاب المدارس والجامعات، فرق الكشافة، أتو من مختلف المناطق لزيارة "المجوقل"، تعرّفوا على الثكنة ومنشآتها، حضروا مراسم تكريم العلم وإحتفلات تخريج الدورات، عاينوا التدريب عن قرب، شاركوا بالهبوط على الحبال وكانوا يتسابقون لركب الملالات وآليات الهامفي وأخذ الصور التذكارية مع العسكريين، واحياناً كثيرة، كانوا يتناولون الطعام مع العسكريين في مطبخ الفوج.
أجبت أحد الأصدقاء عن سؤآله عن
سبب الإنفتاح على المجتمع المدني وفتح ابواب الثكنة للمواطنين:
"هيدا العسكري اللي واقف حرس هونيك، أنا مسلّمو رقبتي..
ما بيحقّ ل مرتو وولادو و أهلو يجو يشوفو وين بينام وكيف بيتدرّب وشو بياكل وبيشرب
وكيف بيعيش ؟ إزا ما بدّي أمّن ل أهلو كيف بدّي أمّنلو ألو هوي؟ "
أكثر من 23 عرض في الجامعات وحوالي 115 عرض في المدارس والقرى والمدن من "رميش" في أقصى الجنوب حتى "وادي خالد" على الحدود الشمالية، تعرّف الناس على جيشهم عن كثب، عاشوا مع جنوده فترات الحماس والعنفوان، أحسّوا بالمخاطرة التي يعيشها عناصر النخبة، عاينوا الحياة العسكرية التي كانت في السابق "TABOO"، شاركوا العسكر طعامهم ومنهم من بات في الخيم في محيط الثكنة، وكانت الأصداء في كلّ مرة ممتازة، حتى أن أغلب الأماكن التي نفّذنا فيها عروضاً عسكرية أو الوفود التي زارت الثكنة، كان المسؤولون في الغالب يتّصلون للمعايدة في المناسبات وللإطمئنان عند سماع أخبار المعارك ويسألون: "هل إشترك عتاصر الفوج بالمهمة، وهل كلهم سالمون ؟ "
الأم ريتا روحانا رئيسة دير
راهبات الصليب في حراجل تتصل عند سماع اي خبر عن إشتباك أو معركة في أي منطقة:
" حدا من ولادنا بو شي؟ كلن مناح؟"
أصبنا الهدف..
التقرّب قدر الإمكان من المجتمع المدني وإشراكه في دعم
الجيش معنوياً ومادياً، فهل من يًصدّق أن ثلاثة ابنية تستوعب ثلاث سريا قتال، قوام
السرية 100 عنصر، مع مخازنها وآلياتها وبنيتها التحتية، قد أنشأت بفضل تبرّعات
المواطنين الميسورين ؟ كذلك مبنى عناصر الشرطة ومستوصف الفوج ( الذي أكمل إنشاؤه
بعد تشكيلي من الفوج ). وهنا لا يسعني إلا أن اشكر السيد ميلاد جبّور الذي دفع
تكاليف تعبيد ( تزفيت ) الطريق المؤدية إلى الثكنة من دير الأرمن حتى مدخل الثكنة (
حوالي 6000 متر مربّع )، والسيد طوني عطالله الذي أعطى من غير حساب، وشركة API
وجامعة الروح القدس الكسليك، والسادة: جوزيف قزيلي، غاري شكرجيان الذي رافق الفوج
من نهر البارد وحتى اليوم، يجود بماله، ليحقّق عتاداً أو تجهيزات " للعسكر اللي
رافع راسنا " " جورج خليل ووالده، الأب عمر الهاشم من إذاعة صوت المحبّة، السادة
سليم عبسي، أنطونيو شلهوب، ميشال عكاوي، آسيا رزق، وكثر ممن لا تسعفني الذاكرة
باسمائهم، فعذراً منهم، والشكر، كل الشكر لهم.
لا بد من ذكر صديقين عزيزين
ساعدا الفوج في كل خطوة بإتجاه الإحتراف:
الأستاذ ميشال الأسطا الذي رافق وحدات الفوج في كل مرحلة
بدءاً من نهر البارد حيث كان يصوّر الجبهة من الخطوط الأمامية ومن الطوافة، ثم واكب
الفوج في كل نشاطاته التدريبية والإحتفالية فكان يلتقط الصور الرائعة، صور محترف
محبّ، ينسخها على القرص المدمج، ثم يعطينا إياه.. شاكراً.
والصحافية الآنسة شانتال داغر التي ألّفت كتاباً عن معركة نهر البارد وواكبت الفوج في كل مرحلة، إذ كانت تترجم أوامر العمليات وكتيّب الفوج إلى اللغة الإنكليزية لتوزيعها على الملحقين العسكريين في أثناء المناورات التدريبية، وتعتبر نفسها دائماً المدافعة عن الجيش في الصحافة والإعلام، فالشكر لها أيضاً، كل الشكر.
لا زلت أحتفظ بلائحة كبيرة من المواطنين الذين تبرّعوا للفوج بمساعدات مادية وعينية مع ذكر كل ما قدّموه للفوج، هذا هو الشعب اللبناني العظيم...أنا واثق أنه لا يوجد شعب في العالم يحبّ جيشه، كما يحب شعبنا جيشه الوطني، وهذا بحدّ ذاته فخر للجيش، وقوة مضافة تشكل خلفية صلبة له في أوقات الشدّة.
********
هذا انا جورج نادر.. الشعب يشكّل رديفاً للجيش - الحلقة الخامسة والثلاثون
17 ايار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة الخامسة والثلاثون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
لم تتوقّف حركة دعم الجيش عند الدعم المادي، بل تعدّاه إلى "كودرة" الإندفاعة الشبابية والوطنية بإتجاه الجيش، فأنشأت جمعية "أنصار الوطن" وجمعية "شباب لبنان نحو المواطنية" وجمعيات أخرى هدفت جميعها إلى تشكيل خلفية صلبة لدعم الجيش على كامل مساحة الوطن، ففي كل مناسبة أو مفترق مصيري أو أي معركة يخوضها الجيش كانت هذه الجمعيات متحفّزة دوماً للوقوف إلى جانب جيشها قولاً وفعلاً، في معركة عرسال الأولى شباط 2013، ثم في آب 2014، حضر شباب جمعية أنصار الوطن إلى الثكنة لابسين الهندام العسكري الخاص بالفوج، واضعين أنفسهم بتصرف الفوج ....
بدا واضحاً في قراءة المشهد الإجتماعي السياسي اللبناني ، بأن الجيش إستقطب الرأي العام الشبابي خصوصاً في الأوساط الطلابية والأكاديمية، كانت مواقع التواصل الإجتماعي تشتعل غضباً في كلّ مرة يعمد أحد السياسيين إلى مهاجمة إداء الجيش أو قائده، وكانت الإتصالات الهاتفية تنهال على ثكنة الفوج عند سماع خبر استشهاد أو جرح أحد عناصر الفوج للإستفسار والشجب ولإستنكار.
شعرت بأن هذه الحال الشعبية العارمة الداعمة للجيش، هي القوّة الأفضل التي يركن الجيش إلى وجودها، ولكن عليه تنظيمها وإستثمارها وتطويرها ، فإقترحت على قائد الجيش إنشاء هيئة مستقلّة تعنى بتنظيم الدعم الشعبي للجيش وكودرته وتوجيهه للإستفادة منه إلى الحدّ الأقصى . فالجيش اضحى في نظر شعبه "الحزب غير الطائفي وغير الفاسد" و "الميليشيا" التي تحميه، كونه جرّب الأحزاب وميليشيات الطوائف فدمّرت نسيجه الإجتماعي وإنخرط في الأحزاب، فإكتشف أنها بأغلبيتها جماعات طائفية ومذهبية يتزعمها "شيخ القبيلة" الذي يورث "الجماهير" إلى نسله ، كما يورث أمواله المنقولة وغير المنقولة إلى أولاده.
في العام 2009 جرت الإنتخابات النيابية بخلاف الدورات السابقة التي كانت تتمّ على ثلاث أو أربع دفعات، على دفعة واحدة في كل الدوائر ، وفي كل المناطق اللبنانية ، وذلك بفضل التخطيط الجيّد والإدارة الناجحة لمديرية العمليات في الجيش والتي إستثمرت للحدّ الأقصى طاقات وقدرات الجيش . جرت الإنتخابات "دون ضربة كفّ" حيث أن الدورات السابقة كانت تحصل غالباً مع حوادث إعتداء وتزوير وأحياناً كثيرة : قتل وجرح عدد من المواطنين. الإجراءآت الإحترازية التي إتخذتها وحدات الجيش ، قبل وفي اثناء العملية الإنتخابية، جعلت الإقتراع يتمّ بهدوء وسلام.
في ذلك العام أيضاً، كانت حركة لبنان الرسالة تعمل لإجراء مصالحات بين القوى التي قاتل بعضها البعض في المجتمع المسيحي، وقد أخبرني الصديق العميد خليل الحلو أنه ينشط في هذا المجال. سألني السيد نعمت أفرام:
" عندك مشكل أنو تجتمع مع ريمون ناضر ..؟" ريمون ناضر كان أحد القادة الميدانيين في ميليشيا القوات اللبنانية خلال معاركها مع الجيش اللبناني ، وتحديداً في معركة أدما .. ، أجبت دون تحفّظ:
" لا أبداً .." ، تعجّب السيد
افرام من الجواب السريع بالموافقة فقال :
" أكيد أنت ..؟"
" إي أكيد وساعة البدّك ...
في مقهى " APPLE BEES " الضبيه، كان كل من: العميد
الطبيب خليل الحلو، السيد نعمت أفرام والمهندس ريمون ناضر، عند دخولي، قام ريمون
فاتحاً ذراعيه وعانقني مبدياً أسفه على كل الذي مرّ من مآسِ وويلات خلفتها المعارك
التي دارت بين الجيش والقوات ، ومن تلك الساعة " قلبت الصفحة " ومن الأساس لم يكن
في قلبي حقد ولا ضغينة، فأنا عسكري حتى العظم، نفّذت أوامر قيادتي في كل الأوقات
وأياً من تكن تلك القيادة، وليس للعسكري مناقشة أوامر رؤسائه، بل عليه تنفيذها.
كذلك السيد حنّا العتيق، وهو الذي كان قائد وحدات الصدم في القوات وقد قاتل الجيش بشراسة في تلك الحروب، زارني في مكتبي في قيادة الفوج المجوقل في غوسطا، ومنذ ذلك الحين، نحن على علاقة صداقة وإحترام كما هي الحال مع المهندس ريمون ناضر، فالحقد لا يدوم، ولا يجب توريث الضغائن للأولاد والأحفاد، لإن الحقد يدمّر صاحبه، والمحبّة غلبت الموت ..
لكن في ذلك العام وفي الأعوام التي تلت لم تتوقّف حملات التحريض المذهبي والطائفي، فكانت المعارك المتنقّلة في طرابلس بين باب التبّانة وجبل محسن، وسعدنايل وتعلبايا، تودي بحياة المدنيين وأكثرهم من الأبرياء العزّل، وكانت وحدات الجيش "تدفع" نصيبها من الشهداء والجرحى في كلّ مرّة يتقاتل فيها الفريقان، "فالمصلح ألو تلتين القتلي" اي أن الجيش الذي يتدخّل للفصل بين المتحاربين، يتعرّض من قبل الفريقين للإعتداء على مراكزه وآلياته وعتاده، فقدره دوماً ضريبة الدم جرّاء الإستثمار السياسي للعصبيات الدينية والمذهبية وإستغلالها .
في مرّات عدّة كان يُطلب إلى الفوج التدخّل بقوام سرية أو أكثر لدعم اللواء / الفوج المنتشر في طرابلس والفصل بين المتقاتلين ، كانت السرايا تنفّذ ما يطلب منها بكل حرفية وتجرّد وإندفاع، فلا مهادنة مع المسلّحين ولا " تطنيش " عن هذا أو ذاك، وكانت النتيجة دائماً: فرض الأمن بالقوّة دون خسائر في صفوف العسكريين وهذا دليل الإحتراف والمعرفة العسكرية والخبرة القتالية التي إكتسبها عسكريو الفوج والمناقبية التي يتمتّعون بها، لا مسايرة لأحد حتى لو كان أقرب الناس إلينا ، هكذا تصرّف المجوقلون دائماً ، فإستحقّوا شرف إحترام قيادتهم لهم وتقديرها ،ونالوا محبّة مواطنيهم والسمعة الحسنة، وهذا بحدّ ذاته وسام على بيرق الفوج .
أذكر في 16 حزيران من العام 2010 أن معركة عنيفة حصلت بين الفريقين المتقاتلين في طرابلس ولم يتمكّن الفوج المنتشر في البقعة من السيطرة على نيران المسلّحين فسقط له شهداء وجرحى كذلك كانت الإصابات كثيرة في صفوف المدنيين العزّل، فطلب إلى الفوج التدخّل لحسم الأمر، وقد تمّت العملية صباح 18 حزيران خلال أقل من ساعتين . تجوّلت في شارع سوريا الفاصل بين المنطقتين، وكنت في السابق أعرف المنطقة لكنني فوجئت بأنه في الشارع ذاته تتداخل البنايات التي يقطنها مواطنون من الفريقين حتى في البناية ذاتها وفي الطابق ذاته ....
" ع شو عم تقوّصوا ع بعضكن وريحة
المجارير ع مناخيركن تنيناتكن، والفقر ببيوتكن كلكن وقاعدين بفرد بنايي وفرد طابق
؟"
قلتها للمواطنين الذين تجمّعوا بعد هدوء "الجبهة" . كيف
يمكن لمواطنين متجاورين في المبنى ذاته أن يتقاتلوا فيما بينهم لمجرّد الإنتماء
المذهبي؟ وباي ضمير يحرّض المسؤولون السياسيون هؤلاء الناس على بعضهم البعض فيما هم
جيران واقارب ولا يفصل بينهم إلا حائط المنزل؟ يتشاركون الفقر وإهمال السلطة والهم
المعيشي ذاته؟ لاحظت عائلات تشرّدت ولا مكان تأوي إليه بسبب فقر ربّ العائلة، فهو"
مياوم وإذا ما أشتغل كل يوم ما بياكل هوي وعيلتو"، وأغلب سكان المنطقة "بيقبضو
يوميي أو جمعيي ( اي كل اسبوع) " وعند تفلّت الأمن، يجوع الأولاد وتتشرّد العائلة
"كرمال هالنايب أو هالزعيم " .....
قي بداية العام 2011 ، بدأت المظاهرات والإحتجاجات في سوريا مماثلة لما حصل في الدول العربية كتونس ومصر وليبيا، ثم تطوّرت إلى أعمال عنف، فتسلّح للمعارضة السورية، فمعارك دامية إستجلبت المقاتلين المتشدّدين من اغلب دول العالم، والجيوش الأجنبية حتى لكأن ما يحصل هو حرب عالمية على الأرض السورية ، حرب دمّرت البنية التحتية والإقتصاد السوري والنسيج الإجتماعي في هذا البلد .
الحرب السورية الكارثية التي لا زالت رحاها تدور في المناطق السورية كافة إلى اليوم، وهي مرشحة للتفاقم والإستمرار في غياب أي أفق للحل السياسي، هل نجا لبنان من آثار العاصفة السورية ؟؟
********
هذا انا جورج نادر.. الحرب السورية على الأرض اللبنانية - الحلقة السادسة والثلاثون
20 ايار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة السادسة والثلاثون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
للأسف، لم ينجُ لبنان من العاصفة التي ضربت العالم العربي وخاصّة سوريا، الدولة التي يتقاسم معها حوالي 375 كلم من الحدود المشتركة في الشمال والشرق ( البقاع )، بالإضافة إلى العلاقات التجارية والتداخل الإجتماعي والثقافي بين الشعبين على الحدود، فإنقسم اللبنانيون بين مؤيّد للمعارضة السورية المسلّحة وداعم لها وبين مؤيّد للنظام وداعم له بالقدر ذاته.
تحضرني "خبرية " تشبه النكتة التي تُبكي:
في أثناء الإجنياح الإسرائيلي للبنان، في حزيران من العام 1982، وبعد إستشهاد إثنين من العسكريين على مدخل وزارة الدفاع، لاحظ أحد الرتباء "العتاق" رفاقه الغاضبين المعترضين على غطرسة العدو الإسرائيلي، لكن بدون جدوى، ولكي يهدّىء من روعهم قال لهم: "شو بكن زعلانين، لبنان كل عمرو محكوم من والي الشام أو من والي عكّا وهلق دور والي عكّا".
للأسف، ولو أتى كلام هذا الرتيب "العتيق" جارحاً ومهيناً، لكنّه كان على حقّ. فنحن اليوم بحاجة إلى والِ لننتخب رئيساً للجمهورية مثلاً، وقد مرّت سنتان، ولم يحضر الوالي ليساعدنا على الإنتخاب.
نعم، لم ينجُ لبنان من العاصفة السورية، ولم يحاول النجاة حتى، فالحدود الشمالية مع سوريا "مفتوحة" للتدخّل بالإتجاهين، والمقاتلون "السلفيون" يعبرون الحدود للقتال إلى جانب المعارضة التي كانت تعتمد بشكل كبير على الدعم اللوجستي والعملاني من مناطق الشمال اللبناني، لكن هل إقتصر "التأييد والدعم" على هؤلاء؟ بالطبع لا، فالشحن المذهبي دفع بحزب الله إلى التدخّل في سوريا بدءاً من الدفاع عن الأماكن المقدّسة ثم بمدينة "القصير" ثم بالإنخراط في القتال على كامل الجغرافيا السورية، جنباً إلى جنب مع قوات النظام وقوات الحرس الثوري الإيراني وبعض الميليشيات العراقية، ومؤخّرا سلاح الجو الروسي.
كما تورّط الداعمون للمعارضة السورية بنقل السلاح والذخائر والمال وكل اشكال الدعم المادي والمعنوي للمعارضة السورية مع مقاتلين متشدّدين من جنسيات مختلفة بلغت أعدادهم عشرات الآلاف.
النتيجة: فريقان لبنانيان يتقاتلان على الأرض السورية ولبنان يستقبل يومياً نعوش المقاتلين من الطرفين.. فلأي والِ نتبع في هذه الأيام؟
نتيجة للحرب السورية، ولإنخراط بعض اللبنانيين فيها بشكل مباشر، كانت وتيرة المعارك تشتدّ بين فريقي النزاع في طرابلس على وقع الحرب السورية، وكان يُطلب دائماً من الفوج، في كلّ مرة تخرج المعارك عن ضوابطها، أن يتدخّل لإعادة فرض الأمن في المدينة الجريح.
المعركة الأشدّ كانت في ايار
العام 2012:
تلقيت الأمر من مديرية العمليات بالإنتقال الفوري إلى
طرابلس والفصل بين المتقاتلين وذلك بكامل قوى الفوج (ينقص سرية متمركزة في منطقة
عكار بين رحبة وعندقت) وذلك بالتنسيق مع فوج التدخّل الرابع المنتشر أصلاً في
البقعة. الأمر عند العصر، وحشد السرايا وإستدعاء المأذونين وإحضار حاملات الملالات
وتوضيب ونقل الذخيرة والعتاد يتطلّب ما لا يقلّ عن 6 إلى 8 ساعات، لكنّ الأوامر
واضحة: الفوج سيحسم اليوم ولو كان ذلك خلال الليل لأن الضحايا والجرحى يزداد عددهم
كل ساعة، والأمور بدأت بالخروج عن السيطرة. وهكذا كان.
بسرعة قياسية تم الإنتشار في جبل محسن أولاً من ناحية الشرق، وتمّ توقيف بعض المخالفين، وقبل الإنتشار في باب التبّانة تعرّضت وحدات الفوج إلى إطلاق نار من جهة "حي المنكوبين" و باب التبّانة.
الردّ كان موضعياً ومحترفاً القنّاصون بسلاحهم مع المناظير الليلية أسكتوا النيران في موضعها بدقّة وفعالية.
هدأت "الجبهة" وأدرك المسلّحون من الطرفين "أنّو المجوقل ما في مزح معو" وشعرت بنظرات المواطنين إلى عسكريي الفوج: الإحترام.. والرهبة.
الرهبة من ردّات الفعل المحترفة للعسكريين ومن منظرهم بعتادهم وسلاحهم وهندامهم المميّز، والإحترام لفوج لا يميّز بين مواطن وآخر على اساس الإنتماء المذهبي أو السياسي، ولا يميل لهذا أو ذاك، بل يضرب بحزم وقوّة كل معتدِ على الأمن الوطني أياًّ يكن.
أكثر من اسبوع، وعسكريو الفوج منتشرون في الشوارع، يبيتون في الملالات وينفّذون فرض الأمن بالقوة في منطقة أريد لها أن تكون ساحة صراع سورية على الأرض اللبنانية، كنت أتعجّب من الشعارات والملصقات التي تُرفع على الجدران وفي الساحات العامة والشوارع والأبنية: في جبل محسن صور الرئيس السوري بشار الأسد وعبارات التأييد، وفي باب التبّانة صور "زعماء طرابلس" والشعارات المؤيدة للمعارضة السورية. ها نحن مجدّداً أبناء الوطن الواحد والمدينة الواحدة وحتى الحي الواحد نتقاتل ونهدر دماء بعضنا البعض خدمة لأطراف النزاع في سوريا ؟
نعم، إنها وللأسف، الحرب السورية على الأرض اللبنانية.
في خضمّ هذه الأحداث، قرّر الحزب السوري القومي الإجتماعي إقامة إحتفال في حلبا، مركز قضاء عكار، لإحياءً لذكرى الضحايا من الحرب الذين سقطوا في 7 ايار 1998، وذلك في 20 ايار 2012 الساعة 11 قبل الظهر. وقرّر النائب خالد الضاهر إقامة إحتفال في المكان ذاته والتاريخ والتوقيت عينهما، ولم تفلح الإتصالات من المراجع الأمنية ولا حتى من الرئيس سعد الحريري لثنيه عن إقامة الإحتفال في المكان ذاته ورفض حتى تقديم أو تأخير التاريخ أو التوقيت.
كيف يكون ذلك ؟ طرفان مسلّحان يحييان ذكرى إقتتالهما في نفس المكان بالتاريخ والتوقيت ذاته؟ ماذا ستكون النتيجة؟
عند إصرار النائب الضاهر على إقامة إحتفاله في المكان والتاريخ والتوقيت عينه الذي يقيم فيه الحزب القومي إحتفاله، إستنفرت قيادة الجيش لواء المشاة الثاني المنتشر في المنطقة وحٌشد حوالي 500 عنصر من قوى الأمن الداخلي إنتشروا للفصل بين الإحتفالين المقرّرين..
إتصل بي مدير العمليات العميد
الركن مارون حتي:
"خلّي سرية عكار بتصرّف اللواء الثاني وشوف سمير الحاج
شو بدّو "العميد الركن سمير الحاج" قائد اللواء الثاني ( حالياً يشغل وظيفة المفتّش
العام في المجلس العسكري وهو برتبة لواء).
إتصلت بالعميد الحاج:
"سمير، شو بدّك من السريي بعكّار كرمال بكرا ؟"
"بدّي تعملي حاجز ع الكويخات وتحميلي ضهري من جماعة عبد
الواحد..."
أي على السرية من الفوج المجوقل التي تتمركز في ثكنة
عندقت أن تقيم حاجزاً في بلدة الكويخات، شمال حلبا وتمنع دخول المسلّحين من
الطرفين، وخصوصاً الذين يقودهم الشيخ أحمد عبد الواحد من أنصار النائب خالد الضاهر.
********
هذا انا جورج نادر.. حادثة الكويخات: الفخّ المنصوب - الحلقة السابعة والثلاثون
25 ايار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة السابعة والثلاثون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
صباح 20 ايار 2012 الساعة 6 وصلتٌ إلى سرية الدعم التابعة للفوج والتي تقيم حاجزاً منذ ساعات الفجر في بلدة الكويخات، وإتصلت بمدير العمليات للإستيضاح عن التدابير المتّخذة :
"ممنوع يفوت عويسيي ع الإحتفال" أي يمنع إدخال حتى السكين الصغير إلى مكان الإحتفال، من الطرفين بطبيعة الحال، تلافياً لأي إشكال قد يحصل. آمر السرية بالوكالة النقيب محمد علي أحمد ( كون آمر السرية الأصيل النقيب جورج فريفر كان يشارك في تمرين مشترك في الأردن ) تلقّى التعليمات بدوره والتي ركّزت على التشديد بالتفتيش على الممنوعات وخصوصاً السلاح، حتى الأبيض منه.
إطمأنيت إلى العسكريين وقفلت راجعاً إلى طرابلس، المركز المؤقت لقيادة الفوج، وقلبي يُنبؤني بشيء ما لم أدرك اسبابه، فلقد تشاءمت من تاريخ 20 ايار ، الذي إستُشهد فيه النقيب الياس أبو راشد في راس النبع العام 1985.
الإحتفالان مقرّران عند الحادية
عشر، الجوّ متشنّج من قبل الطرفين : الحزب السوري القومي الإجتماعي وأنصار النائب
الضاهر.
حوالي الساعة 10:30 إتصل آمر السرية بواسطة الهاتف
الرباعي (الشبطة الهاتفية الخليوية المقفلة التي يستخدمها الجيش ):
"في مختار تل عبّاس معو فرد وفايت ع الإحتفال .." اي
بحوذته مسدّس.
"أكيد بتشلّحو الفرد وبتوقّفو ..
" وذلك دون أن أعرف من هو المختار ولأي جهة ينتمي .."
ثم بعد دقائق : "كمان في شخص من الحيصة معو فرد .."
القانون بيتطبّق ع الكل متلو متل غيرو .. بتوقّفو
وبتشلّحو الفرد " وبعد دقائق إفادة ثالثة :
" في شخص ( نسيت إسمه لكنني عرفت لاحقاً أنه من بلدتي )
معو بومب أكشن للصيد .."
كمان بتشلّحو ياها ولو كانت للصيد وبتعملو كف لأنو من
ضيعتي .. "
ثم إفادة أخرى :
" سيدنا في الشيخ عبد الواحد ع
الحاجز ورافض يتفتّش ولاحظنا أنو بالسيارا في سلاح .."
" الشيخ، لأنو شيخ، لو معو آر بي جي ع كتفو بتمرّقو
والبقيي بيتفتّشو متلن متل غيرن .."
هذه ليست أوامر قيادة الجيش بعدم توقيف الشيخ بل هي مبادرة شخصية منّي، لكنني آثرت عدم التعرّض للشيخ لحساسية الموضوع الديني، وأخذت الأمر على عاتقي الشخصي مع أنه ليس للشيخ حصانة تمنع من تفتيشه.
كان الشيخ يستقل سيارة رانج روفر
يقودها المدعو محمد العبّود ومن الخلف أحد مرافقي الشيخ يدعى محمد مرعب ( عرفنا
لاحقاً أنه رقيب أول متقاعد من الجيش ) ، ووراء سيارة الشيخ سيارة أخرى تشكّل مع
سيارته موكباً مسلّحاً لو دخل إلى مكان الإحتفال بالسلاح الذي بحوذة عناصر الموكب،
ما من أحد يقدّر ماذا كان يمكن أن يحصل .
إقترب النقيب علي أحمد من سيارة الشيخ وناداه، واضعاً
يده على رأسه إحتراماً:
"شيخ أنت ع راسي بس السيارا فيها سلاح بدّنا نفتّشها ..
"
"أنا ما بتفتّش .." قالها الشيخ بنبرة عالية ولم ينظر
إلى الضابط الذي يكلّمه ..
أعاد النقيب عبارته واضعاً يده على راسه:
"شيخ برجع بقلّك أنت ع راسي،
أوامرنا لو معك آر بي جي، أنت شخصياً ما منقلك شي، بس السيارا فيها سلاح بدّنا
نفتّشها .."
في هذه الأثناء ترجّل السائق محمد العبود من السيارة
وتهجّم على الضابط والعناصر من حوله معترضاً على التفتيش مهدّداً متوعّداً ..
"أنت طلاع بالسيارا ما خصّك .."قالها له أحد الضباط على
الحاجز.
ترجّل الشيخ بسرعة ثم جلس خلف
المقود وهو يوجّه العبارات النابية للعناصر، وجلس عن يمينه محمد العبود وقال بلهجة
التهديد:
" أنا قلتلك ما بتفتّش، إزا كنتو رجال لاقوني ع البيري
.." بلدة البيرة مسقط رأس الشيخ عبد الواحد.
وإنطلق من جهازية الحاجز بسرعة، إلا أن النقيب إيلي
كيروز مساعد آمر السرية وقف أمام السيارة ونادى الشيخ بصوت عالِ:
" شيخ إزا بتريد وقّف السيارا."
لم يتوقّف الشيخ بل على العكس
أكمل طريقه بسرعة كاد أن يدهس النقيب كيروز، عندها شهر النقيب مسدّسه وأطلق النار
بإتجاه إطارات السيارة لإجبارها على التوقّف، فإنطلقت بضع رصاصات من المقعد الخلفي
للسيارة بإتجاه الحاجز اصابت آلية الهامفي المصفّحة، وأصابت شظية من الرصاص
المتفجّر عين أحد العسكريين على الحاجز، فسالت للتوّ الدماء بغزارة تخيّل رفاقه أن
جرحاً بليغاً في وجهه، فأطلقوا النار بإتجاه السيارة فقٌتل على الفور الشيخ عبد
الواحد والرقيب أول المتقاعد محمد مرعب...
قامت الدنيا ولم تقعد.
********
هذا انا جورج نادر.. حادثة الكويخات وحيداً واجهت وبقيت وحيدا - الحلقة الثامنة والثلاثون
31 ايار 2016
ليبانون ديبايت - الحلقة التاسعة والثلاثون من مذكرات
العميد الركن المتقاعد جورج نادر
لجنة التحقيق في مركز سرية الدعم التابعة للفوج المجوقل في بلدة عندقت، تحقّق مع العسكريين الذين أطلقوا النرا وبالطبع مع ضباط السرية، إتصل بي العميد الركن لبيب بو عرم إبن دورتي:
"جورج، بدّنا الملازم محفوظ ت
نحقّق معو.."
"الملازم محفوظ بمركز رحبة، والطريق لعندك مش آمني، فيكن
تبعتو حدا يحقّق معو هونيك ؟ "
"طيب أحكي مع القاضي صقر.."
"طلب لقاضي صقر صقر مني على الهاتف:
" بدّنا الملازم محفوظ يا عميد ؟"
" يا ريّس، الملازم محفوظ بمركز رحبة وطريقو لعندك مش
آمني في خطر ع حياتو والمسلّحين متلايين الطرقات... فيكن تبعتو حدا يحقّق معو؟"
" لا ما ببعت حدا بدي ياه هلق"
"مستحيل يجي لعندك هلق يا ريّس، بكون عم بقتلو..."
" قلتلك هلق، أنا القاضي صقر عم بحكي.."
"وقلتلّك ما بدي أبعتو وأنا العميد نادر عم بحكي.."
واقفلت الخط، وأخبرني الحضور لاحقاً أنه إستشاط غضباً، وقد عرفت من لهجته أنه سيوقف
الضباط والعسكريين، أو هذا طُلب منه أن يكونوا "كبش محرقة" فداء الهجمة السياسية
على الجيش.
أصدر القاضي صقر، وتحت ضغط السياسيين والشارع الذي يحرّكونه، مذكرة توقيب بحقّ ضباط السرية الثلاث، و19 عسكرياً أطلقوا النار، إذ أن منهم من أطلق النار إنذاراً في الهواء، ومنهم من أطلق النار على الإطارارت ومنهم بعد إصابة رفيقهم، من أطلق على السيارة فأصاب الشيخ ومرافقه.
عرفت لاحقاً حجم الضغط السياسي الذي تعرّض له قائد الجيش ومفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية وقاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا الذي اصدر مذكرة وجاهية بتوقيف العسكريين الذين وللأسف، واكبتهم الشرطة العسكرية من عندقت عن طريق البقاع، الهرمل، بعلبك، زحلة، بيروت، تحاشياً للمرور في عكار... وهل أصبحت عكار خزان الجيش وحاضنته، بفضل بعض النواب الموتورين، عصيّة على جيشها الذي تُحب ولم تبخل عليه يوماً بشبابها الأشدّاء؟
فليعرف المحرّضون والشتّامون والطائفيون الهامشيون، أن منطقة عكار، نبع العسكر، لا يمكن أخذها إلى مكان آخر، فهي بيئة الجيش الحاضنة في كل مكان وزمان ومهما كانت الظروف، وجيشها يبادلها العاطفة والولاء.
قابلت الموقوفين في سجن الشرطة العسكرية. إفادات الضباط والعسكريين واحدة: هكذا خاطب النقيب علي أحمد الشيخ وهكذا حصل.
كنت أنفرد بمكتبي أفكّر وأحلّل ما حدث، وأدركت أنني وحيد في هذه العاصفة، يهاجمني "نواب " لا عمل لهم إلا التحريض على الجيش، وحيداً كنت، نعم، لكن للأمانة والتاريخ فالعماد ميشال عون وقف بجرأة مع الجيش الذي يتعرّض لحملات التحريض، ثم نظّم التيار الوطني الحر تظاهرة تطالب بإطلاق سراح الموقوفين.
كنت بشكل شبه يومي أذهب الى سجن الشرطة العسكرية في الريحانية أقابل الموقوفين: ثلاثة ضباط و19 رتيب وفرد منهم ثلاثة من عكار، وللدلالة على كذب الأقاويل والإدعاءآت التحريضية وإختلاق الروايات فإن من بين الموقوفين أحد عشر عسكرياً من ابناء الطائفة السنية ومن عكار بالتحديد، ف "يروحو يخيّطو بغير هالمسلّي".
وحدة الجيش ومناقبيته فوق كل إعتبار، والهجوم السياسي والإعلامي على الجيش، وخصوصاً في تلك المرحلة، لا يخدم إلا أعداء الأمة والمنظّمات الإرهابية.
إتصل بي السيد "نادر الحريري"
رئيس مكتب الرئيس "سعد الحريري"، وليس هناك من معرفة سابقة بيننا حتى اليوم:
"جنرال نحنا منحترمك ومنعرف كيف صارت الحادثي.."
"بس يأ أستاذ نادر كيف منصرف هالإحترام ؟ نواب عكار
حرّضوا الناس ع الفوج وعليي أنا شخصياً، وإنهدر دمي وصار التجوّل بعكار منطقتي..
خطر عليي.."
"معك حق، بدنا نتعاون نحنا وياك ع هالناس، طول بالك.."
"ع كل حال ممنون ع إتصالك.." عدة مصادر حذّرتني من
الذهاب إلى بلدتي حفاظاً على حياتي، وقائد الجيش حّذرني مرّات عدّة:
"لا بقا تطلع ع القبيات بهالوضع.."
سيدنا ما بيسوا ما أطلع ع ضيعتي كرمال كرامتي وكرامة الجيش، ومش لازم نخاف من حدا."
"قلتلك ما تطلع، يعني ما تطلع.."
أعترف أنني خالفت الأوامر، بل"
صرت بالنكايي اطلع كل جمعا ع الضيعا.." وكانت التهديدات تصلني بإستمرار:
" بدن يقتلوك ع الطريق.."
عاملينلك كمين بحلبا.."
إلى ما هنالك من إشاعات واقاويل، صدّقت بعضها، لكنني لم أرفض يوماً التحدّي، سأذهب إلى قريتي ولو كنت سأقتل على الطريق، ليس إلتزاماً بضيعتي التي أعشق ترابها وحسب، بل حفاظاً على كرامة الجيش الذي يجب أن لا يكون على الأرض اللبنانية بقعة يُحظّر عليه الدخول إليها فكرامة الجيش ترخص لها التضحيات.
********
الحلقة الاخيرة من مذكرات العميد جورج نادر.. انهم المجوقلون الأشدّاء
3 حزيران 2016
للأمانة، لا بدّ لي من شكر بلدتي القبيات التي أحبّها حتى العظم، هذه البلدة الرائعة التي وقفت واحدة رافضة التعرّض للجيش ولي شخصياً، وحمل شبّانها السلاح وأتوا الى منزلي: " اللي بدّو يجي لهون منجعل ألله ما خلقو".
مع تقديري العميق لهذه العاطفة
الصادقة، لا يمكن لي، وأنا الضابط في الجيش أن اقبل بأن يحرس منزلي شبّان قريتي
الأوفياء، فالجيش هو المسؤول عن سلامتي الشخصية، لذلك أوكلت حراسة المنزل إلى حضيرة
من الفوج، كون التهديدات التي كانت تصل:
"بدنا، نقتلو ونحرقلو بيتو"، ومنزلي: فرداوي " ويقع على
تلّة سهل الوصول إليها حتى أنه يمكن ضربه بصاروخ من الأراضي السورية نظراً لقربه من
الحدود الشمالية.
كذلك أشكر كل ابناء عكار الشرفاء وهم كثر، على وقفتهم التضامنية، ومنهم من بلدة البيرة المجاورة التي حافظت دائماً على حسن الجوار في عزّ الحرب الطائفية 1975- 1976 ـ لذلك كنت، مع الأخذ بعين الإعتبار التهديدات التي تصلني، مطمئنّاً على أن المهدّدين بالويل والثبور، لا أفق لهم ولا مستقبل ولا حاضنة في عكار، ولو كان البعض منهم عكاريون.
ثلاثة اشهر ونصف أوقف خلالها ضباط وعسكريي الفوج، أخذت عهداً على نفسي بألا "أسهر أو أنعزم أو أعزم أو أحضر حفلات.. الا بعد ما يطلعو الشباب من الحبس" مع أنه خلال هذه المدّة تزوّج ضابطان من الفوج، حيث كان العرس مقرّراً مسبقاً، ولم أحضر (بخلاف العادة لأنني في عرس اي ضابط من الفوج، كنت أحضر رتبة الإكليل وحفل العرس ). كأنني بهذه الطريقة أسجّل موقفاً لا أستطيع أن أعبّر عنه إلا بهذه الطريقة.
المحزن في القصّة ليس التوقيف بحدّ ذاته، بل إخلاء السبيل ثم إعادة التوقيف. فبعد شهرين من توقيف الضباط والجنود، أصدر قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا قراراً بإخلاء سبيل الموقوفين بإنتظار مثولهم امام المحكمة العسكرية، فقامت الدنيا ولم تقعد، إذ بتحريض من "نواب" التحريض والمذهبية والحقد، عمّت الإحتجاجات وقطع الطرقات مختلف مناطق الشمال وخصوصاً طرابلس وعكّار، وتحت ضغط الشارع، وتدخّل المسؤولين الحكوميين وأعاد القاضي توقيفهم.
يا لهذا القضاء.. يخضع للضغوط
السياسية ويتخذ قراراته على وقع الشارع وليس تلبية للضمير المهني والقانون
والعدالة، عرفت لاحقاً أن أرفع مسؤول في السلطة إتصل بالقاضي وقال له:
"شو هالقاضي اللي ما بيدرس الشارع قبل ما ياخد قرارو"
وهل على القاضي أن يستلهم ردّات فعل خالد الضاهر ومعين المرعبي ليتّخذ قراراً قضائياً، أم أن عليه تطبيق القانون والإصغاء فقط لصوت الضمير؟
أحد العسكريين الموقوفين هو العريف محمود السبسبي من بلدة ببنين العكارية، بلدة الشهداء، زوجته مريضة بداء السرطان وهي بحاجة للعلاج كل أسبوع وأحياناً عدة مرات في الأسبوع الواحد، عبثاً حاولت مع قاضي التحقيق لتسهيل خروجه وتدبير أمر زوجته ثم إعادته الى السجن، الجواب: موقوف.
أرسلت سيارة الإسعاف التابعة
للفوج مع ممرّض محترف إلى بلدتها ببنين لنقلها غلى المستشفى بالرغم من تحذير البعض:
"كيف بتودي ال Ambulance تبع المجوقل ع ببنين مش عارف
الوضع هونيك؟"
"ببنين ضيعة الشهدا، وفيها 12 شهيد بمعركة نهر البارد
بس، والعسكري موقوف ما بيقدر ياخد مرتو، أنا المسؤول عنها وبدي أمّنلا العلاج"
كانت سيارة الإسعاف "المجوقلة" تذهب الى ببنين، قرية المحرّض خالد الضاهر، لنقل زوجة العريف السبسبي من منزلها الى المستشفى وبالعكس، وذلك لمرّات عدة، وفي كل مرة "ما حدا رشقها بوردي" فهذه ببنين العكارية "العسكرية ".
بعد ثلاثة اشهر ونصف، خرج الضباط والجنود من السجن، وخرجت أنا من "سجني الطوعي" الثكنة والمنزل، وطيلة مدة التوقيف لم تتوقف التعدّيات على عناصر الفوج التي كانت تحسب بشكل شبه يومي، وجلّ المعتدى عليهم من ابناء عكار: تحطيم زجاج سيارة عسكري، أطلاق النار فوق رأس أحد العسكريين، محاولة دهس، مطاردة سيارة عسكري وإطلاق النار بإتجاه السيارة.. الى ما هناك من حوادث دلّت على جسامة ما نتج عن التحريض السياسي والمذهبي ضد الجيش والفوج بالتحديد، لذلك قررت قيادة الجيش إستبدال سرية "المجوقل" المتمركزة في عندقت ورحبة، بسرية من فوج المغاوير، كذلك إستبدال سرية المغاوير المتمكزة في بلدة "بشوات" البقاعية بسرية من الفوج المجوقل.
عرفت لاحقاً أن الحادثة بحدّ
ذاتها كانت فخّاً نُصب لي شخصياً:
بتاريخ وقوع الحادثة صباحاً، إتصل المرحوم الشيخ أحمد
عبد الواحد بأحد ضباط المخابرات الذي أتحفّظ عن ذكر إسمه، تاركاً ذلك للظروف:
"بدي روح ع الإحتفال بحلبا"
"روح ما في شي"
"بس في حاجز للمجوقل بالكويخات كيف بدي اقطع ومعي سلاح؟"
"ما حدا بيتعاطى معك"
ما حدا بيتعاطى معو، كيف يكون ذلك ومديرية العمليات شدّدت على منع دخول السلاح إلى مكان الإحتفال، حتى السكين الصغير؟ وهل يتهاون الجيش والمجوقل خصوصاً بموضوع كهذا؟ أولم يدرك هذا الضابط حجم المخاطر التي تسبّب بها عندما "سمح" للشيخ المرحوم بالمرور "وما حدا بيتعاطى معو ولو معو سلاح؟؟" أم أنه لغاية في نفس يعقوب "نصب هذا الفخّ، فراح ضحيته الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافقه محمد مرعب؟
بعد خروج الموقوفين بأسابيع معدودة، إغتيل العميد "وسام الحسن" رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، ونتيجة فورية لعملية الإغتيال، عمّت التعدّيات على العسكريين مناطق طرابلس وعكار وقطع الطرقات والظهور المسلّح، حتى أن قراراً إتخذ بعدم تجول العسكريين باللباس العسكري في تلك المناطق تحسّباً لردّات الفعل.
بالطبع، إن الذي رفض "التمنّي"
في المدرسة الحربية بعدم إرتداء البزّة العسكرية خارج الثكنة، لن يرضى بعد خدمة
أكثر من 32 سنة، أن يعاد هذا "التمنّي" ولو على حساب حياته، فأصدرت امراً
للعسكريين:
"بدلتك شرفك، واللي بيخاف يلبس بدلتو يشلحا هلّق ويفلّ،
واللي بيستحي فيها مش خرج يكون بيناتنا."
من مخازن الفوج، سلّمت مسدّسات للعسكريين الذين كانوا موقوفين ولغيرهم "اللي راسن كبير" وأدركوا تماماً فحوى الأوامر: "اللي بيدقّ فيك ب....... كرامة المجوقل أغلى من كل العالم."
أحد الأصدقاء من طرابلس السيد
"محمّد حرفوش" إتصل بي:
"دخيلك يا سيدنا، ما بقا تخلّي الشباب يلبسو عسكري، شايف
قدّامي أربع شباب من المجوقل ببدلاتن واقفين بساحة التلّ ( طرابلس ) وكل العسكر من
كل الأفواج والألويي لابسين مدني، وعم شوف الزعران المسلّحين عم يتطلعو بجماعتك
بالورب... بلكي عملولن شي؟
"ألله يطعمن ويدقّو بعسكري من الفوج..المجوقل ألو الشرف يلبس بدلتو واللي مش عاجبو يسترجي يدقّ راسو بالحيط.."
هكذا المجوقلون الأشدّاء، وحيدون
بلباسهم المرقّط المميّز والبيريه البنية، يختالون غير هيّابين بالخطر، يتحدّون
البنادق المأجورة والنفوس الرخيصة، هكذا كانوا وسيبقون، لأنهم وضعوا الكرامة
والعنفوان من تراب ثكنتهم ومن ذكرى رفاقهم الشهداء، وعاشوا عزّة النفس والشجاعة
والإلتزام الوطني والمناقبية العسكرية.
********