الإمبراطورية الأميركية وبدايات السقوط |
غالب أبو مصلح (لبنان)
خبير مالي واقتصادي
تعالج هذه الحلقة الأولى حقيقة منحى انهيار الإمبريالية الأميركية بعد فشلها في العراق ولبنان، كما فشلها نسبيا في فلسطين وأفغانستان، واضطرارها إلى التراجع والانكفاء في أميركا اللاتينية وشرقي آسيا، والعمل على إعادة بناء إستراتيجيتها العدوانية. |
مع بداية هذا القرن، بدأ العالم دخول مرحلة تاريخية شديدة الإضطراب والمخاطر. فقد كثرت الحروب ونمت الصراعات في مناطق عديدة من العالم، كما ازدادت الإغتيالات السياسية وعمليات "الإرهاب"، رغم كل الإنفاق العسكري لكبحه، والذي بلغ في سنة 2005 حوالي 191 مليار دولار حسب دراسة إقتصادية لمؤسسة "HSRC" الأميركية.
وتتناقض هذه التطورات مع العديد من التنبؤات السابقة، التي ظنت أن هذا القرن سيكون قرنا أميركيا بامتياز، يرضخ فيه العالم أجمع للهيمنة الأميركية المطلقة، ويسود فيه "سلم روماني" طويل الأمد. فبعد انهيار الإتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، خلت الساحة الدولية للإمبريالية الأميركية لفرض هيمنتها المطلقة على العالم كله، وخاصة على دول العالم الثالث التي إستظلت المظلة السوفيتية للاحتماء من العدوانية الغربية، العسكرية والإقتصادية. وظن البعض أن العالم بتطوره قد وصل إلى نهاية التاريخ، وذلك بتعميم "الديمقراطية" الغربية ومبادىء الليبرالية الإقتصادية الجديدة التي فازت عبر صراع أو منافسة شديدة إمتدت أكثر من نصف قرن على مبادىء الإشتراكية العلمية ومعظم تجاربها في العالم.
ومنذ انهيار الإتحاد السوفياتي، خرجت القيادات الأميركية على العالم بسلسلة من "المبادىء"، من مبدأ كارتر إلى مبدأ بوش الإبن، المعبرة عن طموح الإمبريالية الأميركية وتطلعاتها العالمية. فقد طرح بوش الإبن مبادىء الحروب الوقائية والإستباقية، ليضع حدا لطموح أية دولة ترغب في منافسة القطب الأميركي الأوحد، ولطموح أي شعب من شعوب العالم الثالث في الإستقلال الحقيقي وحماية ثرواته التي تحتاجها الولايات المتحدة وأتباعها من الدول الرأسمالية. كانت أنظار الولايات المتحدة تتركز على مصادر الطاقة، وأهمها النفط والغاز الطبيعي، ذات الأهمية الإستراتيجية الفائقة والمشرفة على النضوب. فقد نضبت أو كادت تنضب موارد النفط في الدول الغربية كافة، وأصبحت مكامن هذه الطاقة محصورة تقريبا في دول العالم الثالث وروسيا. وبما أن نمو الطلب على النفط يزيد على نمو إنتاجه، فإن آليات السوق الحرة أصبحت غير كافية لتأمين الطاقة بأسعار مناسبة للدول الصناعية، وأصبح من أهداف الإمبريالية الأميركية المهيمنة السيطرة على منابع النفط وطرق إمداده، لتحديد أسعاره بعيدا عن آليات السوق التي تبشر بها الليبرالية الجديدة، وللإبقاء على هيمنتها وتحكمها بمعظم دول العالم عبر التحكم بأهم سلعة إستراتيجية إقتصادية وأمنية.
قفز استهلاك النفط في العالم من 15 مليون برميل سنويا في سنة 1955 إلى 82 مليون برميل سنة 2005، بزيادة قدرها 450%. وتم حتى اليوم إستهلاك أكثر من نصف النفط المقدر الموجود في الكرة الأرضية. وحسب معدلات الإستهلاك الراهنة ونمو الطلب على النفط في الدول النامية مثل الصين والهند، فإن الطلب سيتجاوز العرض، وسينعكس ذلك على الأسعار. ويعتقد عدد متزايد من الخبراء أن إنتاج النفط في العالم سيبلغ ذروته سنة 2015 تقريبا، ويبدأ بعد ذلك مرحلة هبوط، مما سيحدث صدمة إقتصادية عالمية، لا تستطيع تفاديها الجهود المبذولة لتأمين بدائل عنه، مثل إنتاج الإيثانول واستخدام منابع الطاقة المتجددة. وبالتالي، فإن قوى السوق بمفردها "لا يمكن الإعتماد عليها لتحقيق حاجات الطاقة الوطنية للولايات المتحدة، وعلى الدولة أن تضطلع بمسؤولية متزايدة لتأمين هذا الدور"، حسب إستنتاجات "السياسة الوطنية للطاقة" التي تبنتها إدارة بوش في 17 أيار 2001.
لم يكن بوش أول رئيس أميركي يسخر القوة العسكرية الأميركية للسيطرة على مصادر النفط وحماية شبكة إمداداته في العالم. فقد وضع هذه السياسة الرئيس كارتر في كانون الثاني 1980، إذ وصف تدفق النفط من منطقة الخليج كـ"مصلحة حياتية للولايات المتحدة"، وشدد على أن الولايات المتحدة ستستعمل "أية وسائل ضرورية، بما فيها القوة العسكرية،" لتأمين تدفقه. وسمي ذلك "مبدأ كارتر". ومن أجل تأمين هذه المهمة، أنشأ كارتر قيادة عسكرية جديدة، تضم قواعد عسكرية أميركية عدة من أجل فرض هيمنتها على الشرق الأوسط، وفي سنة 1983 أطلق ريغان على هذه القيادة إسم "القيادة المركزية الوسطى" CENTCOM، والتي تشرف على كل القوات الأميركية الموجودة في المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى الخليج العربي إلى القرن الأفريقي.
وتم توسيع مبدأ كارتر ليشمل جميع المناطق الأساسية المنتجة للنفط في دول العالم الثالث. في سنة 2000، وفي تقرير تحت إسم "الجغرافيا السياسية للطاقة" وضعه "مركز الدراسات الإستراتيجية والعالمية"، واشنطن، قال التقرير: "بما أن الولايات المتحدة وحلفاءها يزداد اعتمادهم على إمدادات الطاقة من مناطق مضطربة في دول العالم الثالث، فإن المخاطر الجغرافية السياسية المرتبطة بالحصول على الطاقة، ليست مرشحة للتراجع، (ولذلك) إن الولايات المتحدة، كقوة عظمى عالمية وحيدة، عليها قبول مسؤوليتها الخاصة في الحفاظ على الوصول إلى مصادر الطاقة في العالم".
ووسع الرئيس كلينتون تطبيق مبدأ كارتر ليشمل منطقة بحر قزوين، معتبرا أن تدفق النفط والغاز من بحر قزوين إلى الغرب "أولوية أمنية أميركية". فأقام كلينتون علاقات عسكرية مع العديد من دول أواسط آسيا. كما وسع الرئيس بوش مبدأ كارتر إلى غربي أفريقيا، معتبرا أن قطع إمدادات النفط من نيجيريا يمثل "ضربة أساسية لأمن النفط الإستراتيجي الأميركي". كما أن الولايات المتحدة تستهلك ربع إنتاج النفط في العالم، واستهلك البنتاغون وحده 134 مليون برميل من النفط في سنة 2005.
أصبحت سياسة السيطرة على مصادر النفط والغاز الطبيعي وطرق إمداده البحرية والبرية أولوية إستراتيجية وأمنية، ليس لتأمين مصادر الطاقة للولايات المتحدة وأتباعها من الدول الصناعية فقط، بل للإمساك بعنان هذه الدول وفرض هيمنتها الإمبريالية على العالم. ويمكن رؤية المصالح النفطية وراء جميع الحروب العدوانية التي تشنها الولايات المتحدة، ووراء إستهدافات الولايات المتحدة للعديد من دول العالم بالحصار الإقتصادي والمالي، وباتهامها بإيواء الإرهاب، وبانتهاك حقوق الإنسان. كما تعمد الولايات المتحدة إلى إذكاء الصراعات المذهبية والطائفية والإثنية والعشائرية عند مكامن النفط، كما هي الحال في العراق وأفغانستان والسودان والصومال وتشاد وغيرها من دول العالم الثالث حيث هناك إحتياطات من النفط والغاز الطبيعي، بغية تقويض أمن هذه الدول وتفتيت كياناتها أو إضعافها لتسهل السيطرة عليها.
ولكن هل تستطيع الولايات المتحدة فرض هيمنتها واستبدادها واستغلالها لثروات شعوب دول العالم الثالث؟ هل تستطيع أن تمنع ظهور أقطاب عالميين جدد يسقطون أحادية القطبية الدولية؟ هل تستطيع جعل القرن الحالي قرنا أميركيا بامتياز؟
ظن قادة الولايات المتحدة أن انهيار وتشظي الإتحاد السوفياتي وانفتاح الصين على العالم تجاريا واقتصاديا وسياسيا وإعطائها الأولوية المطلقة للنمو الإقتصادي، كشف دول العالم الثالث وحركات التحرر فيه للقوة العسكرية الأميركية القادرة على خوض حروب متعددة في آن واحد، وإلحاق هزيمة ساحقة بأية دولة في العالم ترفض الخضوع لإملائاتها، وإعادتها إلى العصر الحجري كما توعد بوش، وذلك دون وقوع خسائر بشرية تذكر في صفوف الجيش الأميركي. فالتطور العلمي والتقني الذي قادته الأبحاث العسكرية في أميركا، خلق أجيالا من الأسلحة المتطورة والقنابل الذكية الفائقة الدقة والقدرة التدميرية، والتي يمكن إطلاقها من بعيد، من البوارج وحاملات الطائرات في أعماق البحار كما من الأرض الأميركية، لتدمر أي هدف حول العالم.
وولدت الأحادية القطبية عند القيادة الأميركية وهما بالقوة المطلقة التي لا تقاوم، وكانت الأولوية في تطبيق هذه الأوهام ساحة المشرق العربي بشكل خاص، ومنطقة الشرق الأوسط الكبير بشكل عام حسب التعبير الأميركي.
يقول باتريك سيل: "كان المحافظون الجدد متأثرين بوهم جيوسياسي، أسرى لمفهوم تولد عندهم، يتخيلون أن إسقاط صدام حسين سيشعل ثورة سياسية على إمتداد الوطن العربي، وسيقضي على الراديكالية الإسلامية والقومية العربية والحراك الفلسطيني، ويجعل المنطقة بكاملها موالية للولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن هذا الحلم تلاشى، وإن كان ما يزال يشكل خطرا، ولا يجوز التقليل من أهميته".
وكانت وزارة الدفاع الأميركية قد أصدرت في عام 2002 مذكرة تصف فيها كيف ستجهز على سبع دول خلال خمس سنوات، تبدأ بالعراق ثم سوريا مرورا بلبنان وليبيا والصومال والسودان، وتنتهي بإيران، حسب ما قاله الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، الجنرال المتقاعد ويسلي كلارك.
ولكن سرعان ما تبين أن تقديرات الولايات المتحدة لتداعيات إحتلالها للعراق، وتقديرها لقدراتها العسكرية في الإجهاز على ست دول عربية وعلى إيران خلال خمس سنوات كان مجرد وهم وأضغاث أحلام.
فالهجمة الإمبريالية الصهيونية التي قادتها الولايات المتحدة تعثرت وانهارت أمام المقاومات الشعبية العربية، وليس أمام الأنظمة العربية الموالية لها والساعية إلى الإستسلام أمام إسرائيل. ولتبيان مدى المأزق الذي وصلت إليه الإمبريالية الأميركية في العراق، يكفي إلقاء نظرة سريعة على اشتداد المعارضات الشعبية والرسمية الأميركية للحرب على العراق. فجميع إستطلاعات الرأي هناك تشير إلى أن أكثرية الشعب الأميركي يطالبون بالخروج الفوري للقوات العسكرية الأميركية من العراق، وأن أكثرية مجلس الشيوخ والنواب يطالبون بوضع برنامج لإنسحاب قواتهم من العراق في مدى أقصاه أيلول 2008، بالرغم من تشبث البيت الأبيض بالبقاء في الفخ العراقي، واستعداده لاستعمال حق النقض في تعطيل قرار الكونغرس.
لم يجدِ نفعا إصرار بعض القادة اليمينيين على البقاء في الفخ العراقي. ولتبيان أسباب هذا العناد والتشبث، ولتغيير المواقف الشعبية والرسمية المتصاعدة المطالبة بالخروج السريع من هذا الفخ، كتب وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، مهولا من مخاطر الإنسحاب من العراق على أمن الولايات المتحدة وأتباعها من الدول قائلا: "إذا فشل الأميركيون في تحقيق أهدافهم الفورية، إذا انبثقت المعسكرات الإرهابية أو الأنظمة الإرهابية في المستنقع العراقي، مدعومة بثرواتها النفطية الضخمة، فلن تكون أي دولة بهذا الكم من المسلمين قادرة على الإفلات من النتائج، وإن التهديد يمكن أن يمتد إلى الدول الأوروبية الغربية ذات الجاليات المسلمة...".
ولكن دراسة أميركية بريطانية تحت عنوان "التأثير العراقي" كتبها بول كروكشانك وبيتر بيرغن تقول: "إن حرب العراق أنتجت زيادة سنوية مذهلة بنسبة سبعة أضعاف في ضحايا الهجمات "الإرهابية" الجهادية... حتى لو إستثنينا العمليات "الإرهابية" في أفغانستان والعراق، فإن هناك زيادة بنسبة الثلث في "الإرهاب" في بقية أنحاء العالم". أي أن حرب أميركا على الإرهاب وغزوها للعراق لم يؤدِ إلى هزيمة "الإرهاب الدولي" وإضعافه، بل إلى تقويته وانتشاره.
إن معظم السياسيين الغربيين وقادة الرأي، وكذلك كبار العسكريين لهم رأي آخر. ففي إجتماع نادي موناكو عند بداية شهر آذار، أكد معظم المشاركين أنه لا يمكن أن يتحقق السلام في الشرق الأوسط إلا إذا اعترفت الولايات المتحدة بهزيمتها في العراق، وأن عليها أن تغادر هذا البلد فورا. وأن هناك قناعة لدى جميع المؤتمرين أن هجوم الولايات المتحدة على إيران سيكون ضرب جنون، إذ أنه سيشعل المنطقة بكاملها، وسيوقف تدفق النفط، وسيغرق العالم الصناعي في الركود الإقتصادي، وسيعطي دفعا جديدا لـ"الإرهاب".
ويعتقد أعضاء فريق من ضباط النخبة، الذين يقدمون المشورة لقائد القوات الأميركية الجديد في العراق، الجنرال ديفد بيترايوس، وفق تقرير في صحيفة "ذي غارديان" البريطانية بتاريخ 1-3-2007، أن وضع القوات الأميركية في العراق أصبح حرجا جدا: "إستنتجنا، بعد مشاورات ودراسات، أن أمامهم ستة أشهر لتحقيق نصر في الحرب في العراق، أو مواجهة إنهيار فيتنامي الطراز، يرغم العسكريين على إنسحاب مفاجئ".
وواضح لمعظم المراقبين أن تحقيق النصر بالنسبة لأميركا وأتباعها أصبح أمرا مستحيلا في العراق. لم يبق أمام الأميركي إلا الهزيمة والإندحار. ولكن أصحاب الرؤوس الحامية لا يستفيدون عادة من دروس التاريخ، من تاريخ الإمبراطوريات السابقة التي انهارت وهوت بسبب توسيع مغامراتها إلى أكثر مما تتحمله مواردها الإقتصادية والبشرية، لقصور إمكاناتها عن طموحاتها وأطماعها، ولعدم قدرتها على فهم المتغيرات العالمية والدولية.
إن القيادة الأميركية الحالية نسيت حرب فيتنام ورهاناتها الخاسرة هناك. نسيت كيف دخلت الحرب ووسعت نطاقها بذرائع كاذبة، كما فعلت في العراق، وكيف حاولت وضع مسؤولية هزيمتها على تدخلات دول الجوار، وظنت أن الإنتصار في فيتنام يعتمد على غزو دول هذا الجوار، فشنت حربها المدمرة على فيتنام الشمالية وكمبوديا، كما تتجه الآن لتحميل كل من سوريا وإيران مسؤولية هزيمتها في العراق. وكما دفعت إسرائيل لشن حرب تموز على لبنان لإحكام قبضتها عليه واستعماله للضغط على سوريا وإسقاط نظامها، أو كمقدمة لإجتياح سوريا ثم إجتياح إيران، ظنا منها أن طريق الإنتصار على بغداد تمر عبر بيروت ودمشق وطهران. لم تتعلم أميركا من دروس فيتنام التي تقول أن توسيع إطار الحرب يعجل بالهزيمة ولا يأتي بالنصر. وتبقى إمكانية شن هجمات أميركية إسرائيلية مدمرة على إيران، على بنيتها التحتية عامة، وعلى المراكز النووية فيها، الحقيقية والمفترضة، إمكانية قائمة ولو أنها تتراجع باستمرار نتيجة تعمق المأزق الأميركي في العراق، وما يثيره ذلك من إرتدادات سياسية وإقتصادية في الداخل الأميركي.
فحرب أميركا في العراق أحدثت حتى الآن متغيرات عديدة على الصعيد العالمي، وهي بالتالي، من حيث كلفتها المادية والبشرية، ومن حيث تأثيراتها على الداخل الأميركي وعلى العالم، تفوق آثارها بكثير ما أحدثته حرب فيتنام. فالكلفة المادية للحرب على العراق تجاوزت بقيمتها الحقيقية، بدولارات الستينات، مجمل كلفة الحرب الفيتنامية، فقاربت 700 مليار دولار. أما كلفتها المباشرة وغير المباشرة، فربما تقارب تريليوني دولار أميركي، وهذا مبلغ لا يستطيع الإقتصاد الأميركي تحمله بسهولة. أما الكلفة السياسية فيصعب تقديرها.
لم يكن بإمكان دول أميركا اللاتينية وشعوبها الإفلات من الهيمنة الأميركية لولا وقوع أميركا في الفخ العراقي. وإفلات أميركا اللاتينية من هذه الهيمنة هو في حقيقته إسقاط لـ"مبدأ مونرو"، والذي شكل أحد الثوابت الأساسية في السياسة الخارجية الأميركية، والذي جعل من أميركا اللاتينية الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وجعل من شعوبها الضحية الأولى لهذه الإمبريالية. كما أن إفلات كوريا الشمالية من العدوانية الأميركية، ونجاحها في تجربة قنبلتها النووية، كان نتيجة وقوع أميركا في الفخ العراقي.
إن آثار هذه الحرب ستكون كبيرة جدا على الوطن العربي ودول الشرق الأوسط. فهذه الحرب بتداعياتها وإيحاءاتها وعلاقتها العضوية بإنتصارات المقاومة الإسلامية اللبنانية والمقاومة العراقية، تؤسس لواقع عربي جديد، لا مكان فيه للهيمنة الإمبريالية الصهيونية وسياسات الإستتباع للمراكز الرأسمالية الغربية الأكثر تطورا. نتيجة ذلك، تسعى الولايات المتحدة للإستغناء مستقبلا عن نفط الشرق الأوسط حيث مكامن النفط الأكبر في العالم، وتتجه نحو القارة الأفريقية، حيث البنية الطائفية والقبلية، وحيث المعدلات الأكثر إرتفاعا للفقر المدقع، تتيح المجال لإذكاء الصراعات الطائفية والقبلية، ولتفسيخ الدول الكبيرة فيها، بغية إحكام الهيمنة الأميركية وممارسة أشد أنواع الإستغلال والإستنزاف لشعوبها.
فحيث يظهر النفط بشكل خاص، تنشب الحروب الأهلية، كما جرى في جنوب السودان ثم في منطقة دارفور حيث تم إكتشاف النفط بكميات كبيرة، كما تم الشيء ذاته في الصومال. فقد تم إسقاط حكم سياد بري بعد أن إكتشفت الشركات الأميركية النفط فحفرت آبارا تجريبية وأقفلتها، ثم حاولت إستعمار الصومال. وعندما أجبر الجيش الأميركي على الرحيل، غذت الولايات المتحدة وتبنت أمراء الحرب فيها، فأوقدت حربا أهلية إمتدت خمسة عشرة سنة. وعندما إستطاعت المحاكم الإسلامية إلحاق الهزيمة بأمراء الحرب هؤلاء، وكادت أن تعيد توحيد الصومال، دفعت الإمبريالية الأميركية الحكم الأثيوبي التابع لها إلى إجتياح الصومال بمساعدتها اللوجستية وبدعم من أسطولها وقواعدها العسكرية في المنطقة، لتنصيب حكومة تابعة لها تعطي الشركات الأميركية الثروة النفطية الصومالية. الشيء ذاته يتكرر في تشاد ونيجيريا. وكان إنشاء قيادة أميركية موحدة لأفريقيا نتيجة إرتفاع أهمية أفريقيا الإستراتيجية لدى الإمبريالية الأميركية، التي تخطط لفرض هيمنتها الكاملة على حزام الصحراء الممتد من موريتانيا إلى القرن الأفريقي، بدعوى مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي.
كما أن وقوع الولايات المتحدة في التجربة العسكرية العراقية فرض عليها إعادة النظر في كل إستراتيجياتها وفكرها العسكري. فقد فشلت نظريات الحرب "النظيفة" الأميركية التي تقول بإمكانية كسب الحرب عن بعد، ودون خسائر بشرية. وظهر أن أقمار التجسس الأحدث لديها لا تغني عن بنية مخابراتية تقليدية على الأرض قادرة على إختراق بنية المجتمعات المستهدفة. وبالتالي، عاد الإهتمام لتعليم لغات الشعوب المستهدفة بالعدوان للعديد من أفراد الجيش الأميركي ومخابراته. كما ثبت عجز الأسلحة الذكية عن كسب الحروب بمعزل عن المشاة، وضرورة العودة إلى تطوير الأسلحة التقليدية من ناقلات الجند والمدرعات وأسلحتها، كما الأسلحة الفردية وتجهيز الجنود. وظهر عدم جدوى القواعد العسكرية الكبيرة، وضرورة إبدالها بأنواع متعددة من القواعد الصغيرة والنائمة، التي يمكن إيقاظها واستعمالها لدعم الحكومات والأنظمة التابعة. وأظهرت التجربة العراقية ضرورة إعطاء أهمية أكبر بكثير لسلاح المشاة وللمقاتلين على الأرض. وستستغرق إعادة هيكلة القوات العسكرية الأميركية، نتيجة دروس حرب العراق، حوالي عشر سنوات.
إن الإمبريالية الأميركية بعد فشلها في العراق ولبنان، كما فشلها نسبيا في فلسطين وأفغانستان، وإضطرارها إلى التراجع والإنكفاء في أميركا اللاتينية وشرقي آسيا، تعمل على إعادة بناء إستراتيجيتها العدوانية، وإقحام دول أوروبا الغربية، عبر تغيير مفهوم ونطاق عمل حلف الأطلسي، في مغامراتها العالمية، ودفع حلفائها إلى زيادة إنفاقهم العسكري، كما تفعل. وتعمد أيضا إلى بناء أحلاف عسكرية جديدة، مثل حلف اليابان-أستراليا، في جنوب شرق آسيا وإستدراج الهند للدخول في هذه الأحلاف، لمجابهة القدرات الصينية الصاعدة وحلف شانغهاي الذي يضم عددا من الدول أهمها روسيا والصين.
فهل تنجح الولايات المتحدة في ترميم إمبراطوريتها الآخذة في التفسخ وهيمنتها المتقلصة على العالم، والإحتفاظ بأحادية قطبيتها، أم أنها بدأت في مسيرة إنحدارية، تبشر بإنبلاج نظام عالمي جديد يتم بناؤه على أنقاض النظام الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية بقيادة أميركية؟
غالب أبو مصلح (لبنان)
خبير مالي واقتصادي
عين كسور، في 25-3-2007