النصر... نصر القيم |
لقد تعرض المخطط الاستراتيجي الذي وضعه القائد نور الدين زنكي الشهيد لاضرار كبيرة بسبب وفاة وزيره وشريكه في المخطط أسد الدين شركوه- عم صلاح الدين- وقائد الجيش المكلف بالحفاظ على استمرار الحياة في اوصال الخلافة الفاطمية المتداعية، لإبقائها- ولو شكلا- في ساحة المواجهة مع الفرنجة الغاصبين لفلسطين في ذلك الزمان، والذين أقاموا على أرضها مملكة أورشليم "الصليبية".
لقد هدف المخطط المذكور بناء إستراتيجية أمة، تظهر فيها بكل فرقها السنية والشيعية
والسبعية- الفاطمية موحدة تقاتل اعداءها عن قوس واحدة، فالوحدة بين المسلمين الطريق
الأقصر لإجلاء الفرنجة عن بلادنا، واستعادة أرض الإسلام محررة موحدة. فلم يوجه
اهتمامه لأهل علم الكلام راجيا منهم توحيد العقيدة، بل اهتم بالوحدة السياسية
والاجتماعية للمسلمين أبناء أمة لا اله الا الله محمد رسول الله: وبما ان المرأة
والفتاة تخرج من بيتها بغير إذن زوجها أو وليها مدافعة عن أرض الإسلام، فمن الأولى
أن يضع المسلمون المختلفون خلافاتهم وراء ظهورهم عند اي طارىء خطير يعرض الدين
والأمة للهلاك.
توفي أسد الدين شركوه فخلفه ابن اخيه الشاب المجاهد الطموح صلاح الدين في قيادة
الجيش الشامي المولج بالحفاظ على مباني الخلافة الفاطمية وحماية مصر والجبهة
الغربية، فلا تستفرد الجبهة الشرقية وبلاد الشام من قبل الفرنجة. الا ان القائد
الشاب لم يكن بمستوى عمه استراتيجيا، كما انه لم يكن وزيرا وصديقا ورفيق درب طويل
لنور الدين وهو غير مطلع منه على اهداف وخفايا مخططاته.
فسلك سبلا مخالفة لاستراتيجيات السلطان نور الدين، فبدل أن يحافظ على الدولة
الفاطمية حالف اتباع المذهب الشافعي في مصر، وهو شافعي مثلهم، وعملوا معا على تقويض
الدولة الشيعية ما حدا بكبير الوزراء الفاطميين بدر الدين الجمالي ان يراسل السلطان
نور الدين شاكيا من افعال صلاح الدين ونقضه للمواثيق المعقودة بين الدولتين، فتأثر
السلطان كثيرا وجهز حملة الى مصر قصد تأديب مولاه لمخالفته مخططاته.
وكان القدر، فتوفي نور الدين، وتهاوت أركان الدولة الفاطمية الموشكة على الوقوع
أصلاً، فتخلص صلاح الدين من خصومه دفعة واحدة، وقبض بقوة على ملك مصر، ثم عزل الفتى
ابن نور الدين وضم البلاد الشامية الى ارض الكنانة موحدا البلدين والجبهتين تحت
سلطانه ليتفرغ لقتال الفرنجة.
لقد كان السلطان الجديد صلاح الدين قائدا عسكريا بكل ما للكلمة من معنى، لقد كان
قائدا فذا، إلاّ انه ما قرأ من إستراتيجية سلفه إلاّ إستراتيجية المعركة، مقتبسا
هذه الاستراتيجية مضى يقاتل اعداء الامة بلا هوادة مبتكرا في فنون القتال ما حول به
المستحيل الى صعب والصعب الى ممكن، ملحقا الهزيمة الأولى بالفرنجة في حطين لكي يهزم
بعدها بما يزيد عن الشهر في معركة مرج بني عامر، إلاّ أن انتصاره الفريد كان كافيا
لتاسيس وعد الانتصار.
فقد كانت المرة الأولى التي يثبت فيها بان الخيالة الثقيلة "الصليبية" ومن في
داخلها ممن ادعى الرهبنة، "وأنهم مرسلو الله" من الممكن ان تهزم، وان تنتصر عليها
الخيالة العربية الخفيفة، وان تلحق بها دمارا مروعا وهزيمة منكرة، لينفرج الأمل في
نظر المسلمين وفي قلوبهم وليكتب التاريخ للمرة الاولى بان العدو ولو مهما بلغت قوته
فغلبته علينا ليست قدرا مقدورا، وان في استطاعتنا في زمن المعاناة والصبر ان نفر من
قدر الله الذي كان هزيمة الى قدر الله فنحقق النصر. ولقد كان النجاح الأبلغ لحظة
انتزعت جيوش المسلمين بقيادة صلاح الدين بيت المقدس للمرة الأولى من أيدي الفرنجة،
لينتصب السؤال: هل وجود دولة العدو لا زوال له؟ وهل إن مشروع مملكة اورشليم صليبية
كانت ام توراتية لا نهاية له؟
كما افاء علينا انتصار الصيف الماضي في جنوبي لبنان بخيرات كثيرة، أفاء انتصار صلاح
الدين على الفرنجة بالكثير من الخيرات على الامة العربية والإسلامية، إلاّ أن
ابتعاده عن استراتيجية نور الدين كلفنا الكثير ايضا.
اذ تكرس الشقاق بين السنة والشيعة، وتحول أتباع المذهب الشيعي الى مشاكسة السلاطين
السنة، بل وفي بعض الاحيان الى عملاء للفرنجة حتى وصل الامر بالفقيه ابن تيمية الى
القول: لو رأيت رافضيا- شيعيا يغرق فلا تمدن له يد العون. وما زال هذا النزاع
مستمرا الى لحظتنا هذه، ونزاعات العراق اليوم، وموقف الكثير من أهل السنة في لبنان
من انتصار حزب الله صيف 2006، لأبلغ دليل. ولو ان الامر وصل الى هذا المنحى فقط
لربما هان، فكما نقلتنا الحرب الاهلية اللبنانية 1975 من حرب طوائف الى حروب داخل
الطوائف الى حروب الأزقة والزواريب. فقد كاد ابتعادنا عن استراتيجية نور الدين ان
ينقلنا الى حروب بين أهل السنة أهل رباط ذلك الزمن، فلما استتب الامر للسلطان صلاح
الدين واجتمعت جيوش مصر والشام حوله، أراد استبدال قاضي الجيش المجاهد الشيخ
الشهرزوري الحنفي بتعيين قاض شافعي مكانه. فكادت الاجناد تنقسم بين شامي حنفي ومصري
شافعي، لولا أن عصم الله السلطان عن الاستمرار في مسعاه.
ولم ينعقد الانتصار الحاسم لأهل بلادنا المسلمين على الغزاة الفرنجة الا في عهد
المماليك، الذين أقاموا صلحا اجتماعيا أشبه ما يكون بعقد اجتماعي بينهم وبين الشعب
قضى بتكريس المذاهب والمدارس السنية الاربعة- حنفي، مالكي، شافعي، حنبلي– في مقابل
قيام السلاطين المماليك بدحر الغزو الاجنبي والحفاظ على بيضة الدين والامة.
وهكذا، وبدل من ان نطرد الفرنجة بقوتنا كأمة موحدة لا مجال لغريب ان يدخل خلالها،
ولا لخططه ان تنفذ عليها، صرنا في حاجة لقهر القوة بالقوة بدل قهر القوة بالوحدة.
وهو فعل النبي محمد يوم اقتتل الناس، مهاجرين وأنصارا، على ماء المريسيع، فقال
دعوها انها منتنة، أي الفتنة، وقادهم ليقاتلوا موحدين أعداء الأمة جاعلا سداد دية
من قتل في ذمته.
صرنا بحاجة للمملوك الذي تربى في القلعة وتعلم فنون الحلقة وأساليب القتال ليهزم
الفارس "الصليبي" الثقيل. صرنا أكثر اعتمادا على القوة، أقل اعتمادا على العقل،
وأقل استلهاما لسيرة النبي المصطفى، ونحن نكرر معه ما قلناه في مقالتنا السابقة:
"المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين".
إن أمتنا العربية الإسلامية أمام مفترق خطير، فهي اليوم في مجابهة مع أعتى دولة في
التاريخ، الإمبراطورية الأميركية المعولمة، التي تنشر عساكرها في بلادنا بنسب تفوق
نسبة الأوروبيين أبان الحملات "الصليبية"، وتهددنا بشر ما عهدناه من قبل.
ولرد كيدها فلا بد لنا من استحضار استراتيجية الأمة، إستراتيجية نور الدين الشهيد،
فإستراتيجية المعركة لا تكفي، فالصراع صراع حضارات.
والنصر الناجز نحرزه بانتصار قيمنا الإيمانية الإنسانية التي بها ننهض بأهل الأرض
جميعا.
وبانهزام حضيض الشر والعدوان والقهر والجبروت مهلكات أهل الأرض جميعا.
"الذين امنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا
اولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا"، "النساء 75".