back to Books

 ملكوت الله هو برّ وسلام وفـرح بالروح القدس-روما14/17

رجل غني حَلِمَ في نومه أن الملائكة حملته إلى عند ربّه، إلى دار النّعيم وجنّة الأفراح. ورأى نفسه في عالمٍ غريب عجيب، عالم روحي يختلف كل الاختلاف عن عالمنا الأرضي هذا. عالم سماوي فائق الطبيعة غاية في الجمال روعة في البهاء، ولا شك أنّ الساويات أرفع بكثير من الأرضيات.

إنه عالم لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر، ما أعدّه الله للّذين يحبّونه. (1كورنتس2/9)

وقال الغني: كم كان عليّ أن أحبّ الله! لأنه يكرّم الذين يحبّونه.

واختلطت الأمور على هذا الغني، فالدّهشة والحيرة ظاهرتان على وجهه، لأن كل ما يراه هو سماوي ورفيع، وخاصة المدينة المقدّسة النازلة من السماء، أورشليم الجديدة. رؤيا21/2 لأن الله جعل كل شيء جديداً رؤيا21/5 .

وممّا لفتَ نظره أنّ الفرح والبهجة يشملان الجميع، فحيثما ذهبتَ، وكيفما نظرتَ تجد السعادة في متناول أهل النّعيم.

ولماذا العجب ؟ أليستْ السماء بالذات، قد جٌعلت لتكون داراً للسعادة ومقراً للأفراح؟

وأن أفراحها تدوم وتدوم، لذا قيل إنها دار السعادة الأبديّة. أما الفرح الأوّل والأعظم فهو: بالجالس على العرش، والحمل السماوي - رؤيا فصل 4 .

فلما شاهد الغني منظر الجالس على العرش، سقط عند قدميه كالميت رؤيا1/17. لأن ليس لإنسان أن يرى الله ويعيش، لكنّ المتمنطق بمنطقة من ذهب رؤيا1/13 وضع يده عليه قائلاً لا تخف. فنهض وسمع أن الخليقة كلها تسبّح هذا التسبيح: كل ما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وفي البحر، وكل الكائنات سمعتها تقول: للجالس على العرش وللحمل التسبيح والكرامة والمجد والعزّة إلى دهر الدهور. رؤيا5/13.

لم يهدأ روع هذا الغني لأن المشاهد تأخذ الألباب، وكلّما انتقل من مكان إلى آخر، وقع نظره على مشاهدَ ولا أروع، ومن هذه الروائع مشهد نهر ماء الحياة صافياً كالبلّور رؤيا22/1

وشاهد أيضاً أجواق الملائكة، ينشدون نشيداً جديداً أمام العرش رؤيا14/3 ينشدون ترانيم عذبة وأنغام شجيّة، حتى أنّ السّامع، لا يمكنه إلا وأن يُؤخذ بهذه الألحان، ويخشع ويُمجّد مَنْ تُقدّم لأجله.

ثم التفت فرأى حشوداً كبيرةَ، هي جموع القديسين بوجوههم الوضّاءة وأكاليلهم اللاّمعة وحللهم التي بيّضوها بدم الحمل رؤيا7/14.

لكن الغني لم يكن يتوقّع أن يقع نظره على منظرٍ كهذا، إنه منظرٌ فريد من نوعه، لقد سمّره في مكانه، إذ رأى.

إمرأة ملتحفة بالشمس، وتحت قدميها القمر وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً رؤيا12/1

وبقي متعجّباً كيف أن الشمس لم تُحرقها. وأخذ يردّد: إن هذه المرأة العظيمة لا يطالها الفساد. إنها أعظم من الشمس والقمر والنجوم. ويبدو أن لها سلطان عليها، فهي سلطانة الفَلَكْ، وسلطانة على سماء ربّها الذي نقلها إليها بالنفس والجسد، لأنها أعظم من الملائكة، فهم في خدمتها، وأعظم من القديسين لأن لهم شفاعتها، وهي عروسة الروح القدس، ووالده الإله المعظّم، فهي أيضاً سلطانة عند ربّها. كما وأنها مترفّعة عن قوانين الأرض إن كان بالحبل أو بالولادة، وهي بريئة من الخطيئة، وقد مرّت بالموت مروراً لتنتقل بالنفس والجسد إلى السماء، فهي بحق سلطانة الأرض أيضاً.

إنها سلطانة السماء والأرض في الجمال والقداسة، وهي روعة من روائع الخلق، فهي تفوق الجميع بنعمة الذي أبدعها  لأن الله القدير صنع بها عظائم لوقا1/49.

ورأى أن الجميع يطوّبونها ويقدّمون الاكرام لها. تطوّبني جميع الجيال وقا1/48.

فبقي غارقاً يتأمّل ويحدّق بمريم غير مصدّق ناظريه، إلى ان سمع أصوات فرحٍ قريبةٍ منه فسأل ما هذا؟

فقيل له: لقد قدّم أحد سكان الأرض توبته إلى الله. وما دخل ذاك التائب بهذا الفرح؟ فأجابوه: ألم يقل الكتاب: ويكون فرحٌ في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين صدّيقاً لا يحتاجون إلى توبة لوقا15/7.

فتعجّب قائلاً: أتطرب السماء لإنسانٍ واحدٍ يتوب؟! فكم إن التوبة عزيزة على قلب الله؟!

وتوالت أصوات الفرح وتكاثر التائبون من أبناء الأرض، وزاد عجب الغني.

لكنه لاحظ أن الجميع في السماء هم متحابّون فرحون، وأن لا أثر للآلام والأوجاع ولا للأتعاب والأمراض في جميع أرجاء السماء. فكلُّ هذا قد تخطّاه الزمان والمكان، وأن ّكل شيء مُعَدٌّ للفرح والسعادة.

وليس ببعيد عن المكان الذي كان فيه، سمع أصوات فرحٍ، عرف أنها صادرة عن أحد الأعراس. ثم سمع ملاك يقول: طوبى للمدعوين إلى وليمة عرس الحمل. رؤيا19/9.

فأحبّ الغني أن يكون أحد المدعوّين، لكن لم يحن الوقت بعد.

وسمع صوت جمع كثير يقول: إن الربّ قد ملك فلنفرح ونبتهج ولنُشِدْ بمجده، لأن عرس الحمل قد حضر.رؤيا19/7

وايضاً سمع ملاك آخر يقول: الآن صارت الغلبة لإلهنا ولمسيحه، فلذلك إفرحي أيتها السماوات، والساكنون فيها.رؤيا12/10-12

وأخيراً جزم هذا الغني على أن السماء هي دار الأفراح الإلهيّة، وهذا ما يؤكّده له كلام الكتاب المقدّس.

ونسي الغني أمر نفسه، إلى أن عضّه الجوع، فهو ما زال بالجسد. وسأل عن طعام يأكله فقيل له: إن أجساد أهل السماء، أجسادٌ ممجّدة، لا يجوعون ولا يعطشون رؤيا7/16. ولكن بما أنك ما زلت من أهل الأرض فلك كل الأطايب وبأسعار زهيدة للغاية.

مدّ الغني يده إلى جيبه فوجد أن معه مبلغاً لا بأس به. فتشجّع وأخذ يجمع ما طاب ولذّ له من إحدى المجمّعات الغذائية. وعند الحساب رفض المسؤول عملة الغني، لأنها لا تصلح لأبناء السماء.

إمتعض الغني وهو يتضوّر جوعاً، وقرّر رفع شكواه إلى الجالس على العرش.

وحضر أمامه وخرّ ساجداً كما يفعل الشيوخ الذين هم حول العرش الإلهي. وعرض الأمر عليه مُبدياً استعداده لدفع كلّ ما هو بحوزته مقابل أن يسدّ جوعاً يكاد أن يقتله.

-       أجابه الجالس على العرش: إن فضّتك وذهبك قد صدئا يعقوب5/3 وأن عملة الأرض لا تصلح لأمور السماء، ومع أني قد أوصيتُ من خلال الكتاب المقدّس: أن اكنزوا لكم كنوزاً في السماء متى19/21. فلماذا لم تمتثّل لكلامي؟ لكنك تصرفت مثل الكثيرين، كما يقول أشعيا النبي: سماعاً تسمعون ولا تفهمون، ونظراً تنظرون ولا تبصرون. أشعيا6/8.

-       أجاب الغني لقد فاتتني هذه المعرفة.

-       فردّ الجالس على العرش ان الكثيرين من أهل الأرض لا يقيمون وزناً لكلامي مع أن السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول مرقس13/31.

فلأنك تجاهلت وأهملت كلامي – فلا يمكنك شراء مقدار ذرّة، وان بقيت هنا أدركك الهلاك جوعاً. لقد استعملت حكمتكَ لأمور الأرض وجمعت الثروات،  وكان عليك أن تعمل لخلاص نفسك أولاً.  ولقد كان عليك أن تقرأ كلامي وتحفظه وتعمل به، لأنّ الطوبى لمن يقرأ ويسمع رؤيا1/3.

-       عذراً يا ربّ إني أقِرُّ بذنبي وأضع ذاتي وأموري أمام رحمتك.

-       بما أنك قرّرت إصلاح سيرتك، فاني سأعطيك فرصةً لأنك ما زلت في الجسد.

-       تراجع الغني وهو يردّد: السجود والكرامة والتسبيح، والشكر لك يا محبّ البشر.

وأفاق الغني من حلمه،  وعاش صراعاً بين حب المال من جهة وبين سماع كلمة الله من جهة ثانية. لكنه تذكّر أفراح السماء التي تفوق بكثير أفراح الأرض وأموالها. فقرّر أن يكنز له كنوزاً في السماء. عندها وزّع بعضاً من أمواله للفقراء والمحتاجين ولأعمال الخير، وهكذا حقق له رصيداً في السماء لا بأس به حيث لا يَنقبُ اللصوص ولا يُفسدُ العث. متى6/20

الخوري منير حاكمه

القبيات، ايلول 2010

 

back to Books