back to Books

 

 

من كثرة الإثم تَبْرُد المحبّة – متى24/12

 

 

         أو كما أننا نقول: من كثرة المرض تزول الصحّة. والملاحظ أن علاقات الناس وحياتهم كانت سابقاً، أفضل مما نحن عليه في هذه الأيام.

لماذا؟ لماذا حياة أهلنا وأجدادنا (وبشكل عام) تختلف عن حياتنا اليوم؟

 يُجيب البعض: لقد كانوا يعيشون حياة بسيطة صادقة وأقل تعقيداً.

ويُجيب غيرهم: لقد كانت المحبّة تجمعهم وتربطهم ببعضهم، وتنشر الفرح والسلام فيما بينهم رغم الصعوبات والمضايقات.

نعم إن المحبّة التي من الله، تملأ قلب الإنسان بكل ما هو حقّ وعدل ورحمة... فالمحبة تتأنّى وترفق، لا تحسد ولا تتباهى، لا تأتي قباحة، ولا تغضب، ولا تظنّ السوء، ولا تفرح بالظلم...1كور13/4-7

فهنيئاً للذين يعيشون المحبّة، لأنه بالمحبّة يَقبَلون بعضهم، ويتعاونون، ويتضامنون، ويعيشون علاقات طبيعيّة بدون أي تصنّع أو رياء (كذب)، علاقات يسودها السّلام والتواضع والكرم والاستقرار، تنبع منها المغفرة وأعمال الرحمة. إنهم متساوون (في غياب الكبرياء) يُصلّون وصلواتهم مرضيّة أمام الله، يتعبّدون ويحترمون أهلهم والكبار بينهم، يجلّون المقدّسات، يراعون القيم والعادات الصالحة، يحذرون الخطايا، ولا يقعون فيها إلا مرغمين، وإن سقطوا في الخطيئة يتوبون.

وهكذا عاشوا بعيدين عن خطايا كثيرة، كان بامكانها أن تُشوّش عليهم حياتهم الروحيّة، وتهلكهم، وتُنغّص علاقاتهم الاجتماعيّة.

كانوا يعيشون مع الله – والعيش معه يُنتج إنساناً مُحبّاً – يُحبّ الله والقريب – (حسب الوصيّة).

محبّة الله ضروريّة (رأس الحكمة مخافة الله)، المخافة أي الخوف من أن نُغضبه – والمخافة حسب القديس أغسطينس، تَنْضُجُ وتتحوّل إلى محبّة.

أما محبّة القريب، فتقضي باحترامه وخدمته، في أجواء من التسامح والتواضع والصدق والعطاء....

أما كانوا يقولون عن مُحبّي الله: أنظروا كم يُحبّون بعضهم البعض. يوحنا13/35 لأن كل علاقة أو تصرّف خالٍ من المحبّة هو: نحاسٌ يطنّ وصنجٌ يرنّ. 1كور13/1

ولكن لماذا بَرُدَتْ المحبّة؟ بين هؤلاء المؤمنين وما زالت تبرد.

أخي عليك أن تعلم أن المحبّة تتأثّر بعوامل عدّة:

أوّلها الإيمان. إحذروا أن يكون لأحدكم قلب غير مؤمن، فيرتّد عن الله. عب3/12 أي إن المرتدّ يقطع علاقته بالله. (وبما أن الله محبّة) فإن محبّة ذلك الشخص تنقطع أيضاً.

ثانياً: تتأثّر المحبّة بنوعية السلوك في هذه الحياة. لأن من أحبّ العالم ليست محبّة الله فيه . 1يوحنا2/15.

ثالثاً: تتأثّر المحبّة بحضور الله الدائم في قلب المؤمن. إن أحبَّني أحد، وحفظ كلمتي فأبي يحبّه وإليه نأتي، وعنده نجعل لنا منزلاً. يو14/23. لكن هذا المنزل يفرغ من الله بسبب الخطيئة. فيقول الروح النجس: أعود إلى بيتي الذي منه خرجت، فياتي ومعه سبعة أرواح أشرّ منه، فتكون آخرة ذلك الإنسان شراً من أولاه. متى12/44

لقد قلنا أن للإيمان دورٌ فعّال في وجود المحبّة، فما هو الإيمان؟ الإيمان هو أن نثق بوعود الله. عب11/1 (الإيمان هو ركيزة ما نرجو، ويجعل الشيء المرجو كأنه حاضر).

وما الذي يُفسد الإيمان؟ إنّه الشكّ. فبالإيمان مشى بطرس على المياه – وبالشكّ بدأ يغرق. فقال له يسوع: لماذا شكَكْت يا قليل الإيمان؟ متى14/31. هذا الإيمان الذي بدونه (بدون أن يكون قوياً) لا يمكن أن نُرضي الله. عب6/11.

والسّالك في محبّة الله والقريب هو: ثابتٌ في النّور. 1يو2/10. وبالتالي فإن السّالك مع الله هو ثابت في المحبّة.

لكن مُحبّ العالم، ليست فيه محبّة الله. 1يو2/15. لماذا ليست فيه محبّة الله؟ لأن كل ما في العالم هو شهوة العين وشهوة الجسد وصَلَف الغنى. 1يو2/16. ولأن محبّة العالم تتعارض مع محبّة الله.

ونستنتج ممّا سبق: أن العيش مع الله يحافظ على وجود المحبّة، أما دخول الإثم في حياة الإنسان فيُزيلها. وبغياب المحبّة تتغيّر الأمور وتتبدّل حياة الإنسان، وتتبدّل معها تصرّفاته، وتتأثّر علاقاته بالآخرين، لأن التبدّل يطال أذهان النّاس وإيمانهم وتصرّفاتهم – ويحلّ البُغض والحِقد وحبّ الذّات... في قلوب الناس بدل المحبّة، وتتحكّم فيهم الشهوات فيتحوّلون إلى عبادة ذواتهم، وإلى حب المال والطّمع والكبرياء والتجديف والفجور والعداوة وغيرها.2تيموتاوس3/2-5.

وبهذا نكون قد توصّلنا إلى معرفة أسباب برودة المحبّة. ألا وهي ضُعف الإيمان، وغياب الله عن حياة الإنسان، ودخول الإثم في حياته، (أي دخول الشرّير في قلبه).

ولكن ما هو الإثم؟ الإثم هو كل عمل، لا يحقّ للمؤمن أن يعمله. وذلك كما قال يوحنا المعمدان للملك هيرودس: (لا يحقّ لك) أن تحتفظ بهيروديّا زوجة أخيك، لأنه حي. متى14/4

ولأن يسوع لا يرضى بالإثم، إذ قال: إذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم. متى7/23. والإنجيلي يوحنا يقول: من يعمل الإثم فهو من إبليس.1يو3/7 ويقول أيضاً: لأن كل إثم هو خطيئة.1يو5/17.

فما هي الخطيئة؟ الخطيئة هي معصية الإنسان لإرادة الله. (من كتاب التعليم المسيحي للكنيسة) عدد1850. وفي المعصية إهانة لعظمته.

قال النبيّ داوود: إليك وحدك خطئت والشرّ قدّامك صنعت. مزمور50/6 وقال الإبن الضّال: قد خطئت إلى السماء وإليك، ولا أستحقّ بعد أن أدعى لك ابناً. لوقا15/21.

وهكذا تَفْصل الخطيئة الإنسان عن خالقه.

وبما أن الإثم والخطيئة أمران يرمزان إلى عمل الشرّ، يمكننا القول إن الإثم يتزايد في عالمنا المنجرف وراء العولمة وحبّ المال والملذّات والرّفاهيّة والعنف والمخدّرات والطّمع والأنانيّة والفساد... وخاصة بوجود وسائل الإعلام الحاضرة – والفن الخلاعي – إنّها أدوات فعّالة في نشر الفساد الخُلُقي والرذيلة والدّعارة وباقي الخطايا.

لقد استطاع الإعلام أن يؤثّر سلباً على ضمائر وعادات وسلوك الكثيرين – وبالتالي على إيمانهم ومحبّتهم.

ونلاحظ أن البشريّة تتخلّص شيئاً فشيئاً من وصايا الله وأبوّته عليها – وتتّجه للعيش بدونه – إنّها تأثم لأنها لا تفكّر بخلاصها الأبديّ – أطلبوا ملكوت الله أولاً – إنما همّها الرّفاهيّة والملذّات وإرضاء الذّات. والمؤمن لا يستطيع أن يجمع بين متطلّبات إيمانه وشهوات العالم، إذ أي شركة بين البرّ والإثم – 2كورنتس6/14

وأنت يا أخي لا يمكنك أن تتدّعي الإيمان إن كنت تفعل الإثم. ويبقى السؤال، لماذا هذا الارتداد عن الإيمان الحي؟ يمكن القول: إن الدين المسيحي وهو دين متعالٍ، ووصاياه أصبحت ثقيلة بالنسبة للكثيرين، إنها لم تعد تتناسب مع شهواتهم ووضعهم الروحي الضّعيف، إنّهم يريدون السّلوك بحسب الجسد وهذا يتعارض تماماً مع السّلوك بالروح كما هو مطلوب. فالسّلوك بالروح يتطلّب التقوى والقداسة والجهاد والتجرّد وطهارة الجسد والفكر والقلب... . إنّه سلوك صعب عليهم اتّباعه، لهذا ارتدّوا إلى الحياة الوثنيّة التي يمكنها أن تجمع بين الطاهر والنّجس، وهي الأقلّ تطلّباً والأكثر تساهلاً.

 – فكان أن حدث هذا الانقلاب – تغيّروا من العيش مع الله إلى العيش بدونه. وخسروا إيمانهم ومحبّتهم، (محبة الله والقريب) ليعملوا الإثم على هواهم.

لذلك تجد أن تصرّف البخيل يختلف عن تصرّف الكريم، وتصرّف الزّاني غير تصرّف العفيف، ومحبّة المؤمن تكون شاملة، عكس الخاطي الذي لا يفكّر إلا بنفسه.

ومما يدعو إلى الاستغراب أنّهم يدّعون الإيمان – وهم لا يحترمون هذا الإله الذي يعبدونه، لأنهم يكسرون وصاياه ساعة يشاؤون وبدون أي تأنيب للضمير.

يسرقون ويكذبون ويفحشون ويتخاصمون... وثم يطلبون ويتضرّعون، وفي صلاتهم يُسَخِّرون هذا الإله لأغراضهم ومطالبهم، يشتمونه ويهينونه لإتفه الأسباب، ولا يقيمون له وزناً، فهو بالنسبة لهم(إله قَزَمْ). هذا هو الإلحاد العَمَلي – وهذه هي الوثنيّة المعاصرة.

فيا أخي لا تتشبّه بهم، وإن شعرتَ بنقصٍ في المحبّة، فاحذر من دخول الإثم إلى حياتك.

الخوري منير حاكمه

القبيات، تشرين الاول 2010

 

back to Books