back to Book

 

ملاحظات في الأركيولوجيا الشرقية[1]

نصب بابلي

(ص 600) تمت الإشارة للمرة الأولى إلى النصب الوارد في اللوحة (الصورة) من قبل الأب الجليل لامنس الذي توفر له الحظ بمشاهدته أثناء رحلة لاستكشاف الآثار[2] في العام 1899. حاول زميلي، على الرغم من ظروفه غير الملائمة، التقاط صورة أولى له بواسطة رفيق دربه الأب دو مارتنبريه de Martimprey: تم عرض الصورة مؤقتاً في سرد الرحلة بانتظار الحصول على صورة أفضل.

وفي صيف السنة الماضية (1902) توفرت الفرصة للحصول على صورة ثانية أكبر وأفضل بكثير من السابقة التقطها أيضاً الأب دو مارتنبريه، وهذه الصورة نعرضها اليوم لقراء المجلة (التوراتية) Revue Biblique لننقذ من الضياع نصباً يرتبط، كما سنرى بالتاريخ التوراتي، وربما يصبح قريباً ضحية للباحثين عن الكنوز[3].

النصب محفور على مساحة كبيرة وسط صخرة في جبل أكروم المكون من آخر قمم لبنان الشمالي.

يقول الأب الجليل لامنس "أن جبل أكروم يظهر في أدب الجبال السوري كسلسلة من الهضاب طولها أكبر من عرضها وتقع بين وادي خالد والوعر، يفصلها وادي خالد عن جبل عكار. وهي تبدأ في الجنوب بعيد الهرمل بقليل، ويحدها من الشمال البقيعة ووادي عودين...

"إن صعود جبل أكروم (عبر عودين) صعب للغاية. فالسلسلة تتكون من تتابع لتلال حادة ووديان عميقة مشجرة بشكل رائع. وكان أعلى ارتفاع بلغناه على مستوى 1195م، وما تزال بعض القمم الأعلى تشرف علينا مباشرة. وبعد صعود لمدة ساعة عبر ممرات صعبة تلتوي تباعاً وسط الغابات وصلنا (ص 601) إلى فرجة. إنها خربة معروجا حيث الدواثر لا قيمة لها؛ على مسافة نصف ساعة يقع وادي صُليب (1175م).

"هنا بدأ ممر الهبوط الذي كان مستحيلاً على الدواب اجتيازه، واستلزمنا ساعة لبلوغ قعر الوادي الضيق حيث يسيل جدول نهر السبع، بعد 10 دقائق منه يقع نصب السبع (875م). إنه نصب مربع تقريباً على صخرة تشرف على الجدول عن مسافة بضعة أمتار. يبلغ ضلعه حوالي 2.5م".

­ يمثل النصب، كما يبدو في الصورة، رجلاً يصارع أسداً. الرجل واقف حافي القدمين، يرتدي

 

      

 

جلباباً مفتوحاً من الأمام على علو البطن[4]، ويقبض بيد قوية على الشدق الفاغر لهذا الحيوان المفترس الواقف على قائمتيه الخلفيتين منطلقاً بقوة على خصمه، وقائمتاه الأماميتان مرفوعتان ومنفرجتان، طبقاً للموقف المعهود في الفن الأشوري- البابلي. وفي الواقع، ليس هناك أدنى شك بأن النصب ينتمي إلى هذا الفن. صحيح أن النصب تعرض للتشويه عمداً في قسمه العلوي بحيث بالكاد نستطيع أن نميز نطاق رأس الرجل والقلنسوة التي تبدو حادة، كما فقدت أيضاً اليد اليمنى التي تمسك سلاحاً[5]. ولكن بقيت التفاصيل التي من غير المجدي التوقف أمامها، وكذلك مجمل النصب لا يترك أي مجال للشك بنسبته.

لدينا من حسن الحظ دليل آخر من خارج النصب، وهو ثمين جداً وسيسمح لنا بتوضيح نسبتنا للنصب.

على مسافة قريبة جنوبي أكروم ثمة واد يقع في سلسلة جبال لبنان، وهو مواز تقريباً لوادي نهر السبع، اكتشف فيه منذ 20 سنة نقشان مسماريان مع نصبين أحدهما على شبه مثير من نصبنا. إنه وادي بريصا الواقع على مسافة ساعتين من الهرمل. وفي هذا الوادي الضيق والكثيف الأشجار كوادي السبع اكتشف السيد بونيون، قنصل فرنسا في حلب اليوم، نصبين هامين لنبوخذنصر الثاني، ونشرهما مع التعليقات اللازمة في العام 1887، في مؤلف بعنوان النقوش البابلية في وادي بريصا (فيوفغ Vieweg). لا ضرورة للكلام على مضمون هذين النقشين اللذين كشف المختصون باللغة الأشورية ومؤرخو العصور القديمة قيمتهما المتعددة[6]. ولكن يكفينا الإشارة إلى أنه لا بد أن هذين النصين (واحد بحروف بدائية، وآخر بحروف مسمارية عادية) قد تم نقشهما أثناء الإقامة الطويلة لنبوخذنصر في ربلة، وعلى الأرجح قبل حصار صور وتدمير القدس (587).

إن النصب المشوه جداً والمرافق للنقش بحروف عادية يمثل "رجلاً يتجه إلى اليسار واقفاً أمام شجرة بلا أوراق" … "الأجزاء الوحيدة المحفوظة جيداً هي القسم العلوي من الشجرة وقلنسوة على رأس الرجل". يضيف السيد بونيون في حاشية له في نفس المكان "هذه القلنسوة الفريدة الشكل تختلف تماماً عن القلنسوة الأشورية. فهي دقيقة الرأس وتنتهي بغطاء للرقبة يتدلى على قذال الرجل، (ص 603) وهي تشبه كثيراً التاج الحاد المقفل من الأعلى الذي يضعه الأساقفة اليوم".

أما النقش الآخر الذي يعنينا بشكل خاص فقد كان مشوهاً للغاية كالأول. وفيه، كما يقول بونيون: "رجل واقف يمسك بذراعه الممدودة حيواناً، هو على الأرجح أسد منتصب على قائمتيه الخلفيتين ويرفع إلى الأعلى إحدى قائمتيه الأماميتين ليَهم بمهاجمة خصمه".

إن التفحص الدقيق لصورة النصب الجيدة تسمح لنا بداية بالتعرف على وضعية للأسد شبيهة بالوضعية في نصب وادي السبع، فالذنب فيه يظهر بنفس الطريقة. أما الشخص، فيمكن التأكيد بلا تردد أنه يبدو بنفس وضعية الشخص في نصب وادي السبع. والفرق الملموس الوحيد الذي يُلاحَظ، وهذا أمر ينطبق على كامل المشهد، هو أن الحركات هي أكثر تصلباً، فذراع اليمين أقرب إلى النصف الأعلى من الجسم، والساقان أقل انفراجاً، وإلخ... وكل الاختصار المفروض بحكم ما يستلزمه نقش النص من مجال. ويبدو اللباس مماثلاً في الجانبين، علماً بأنه ليُمكن تعيينه بوضوح في نصب وادي بريصا يجب الاستعانة بنصب وادي السبع. باختصار، التشابه كامل في النصبين[7].

وعليه فالنصب الذي اكتشفه زميلي يمثل بالضرورة الملك نبوخذنصر الثاني يصارع أسداً. وهذا النصب، مع الأسف لا يترافق مع أي نقش من شأنه أن يعين تاريخه بدقة. ولكن ليس من المجازفة اعتباره معاصراً لنصب وادي بريصا. كما ليس من التهور أن نرى في هذين النصبين، لا سيما نصب وادي السبع، الصلة بالفن التشكيلي الذي يصور افتخار الملك البابلي بمأثرة صيد فعلية حققها في المكان أثناء إقامته المديدة في سورية المجوفة (البقاع). ووجود الأسود في لبنان في أواسط القرن السادس ق.م. ليس من المبالغة في شيء، في منطقة كانت في حينه، كما هي اليوم، خاوية تقريباً وإن تكن تكسوها الغابات الغضة[8].



[1] المرجع: RONZEVALLE, Sébastien (S. J.): Notes d’Archéologie Orientale, un bas-relief babylonien, Revue Biblique, t. XII, 1903, pp. 600-604

[2] راجع: H. Lammens, Notes Epigraphiques et Topographique sur l’Emésène, Extrait du Musée Belge, 1902, p. 49 et suiv.

[3] تعرض هذا النصب كمثيله في وادي بريصا للثقب والخدش في وسطه (المترجم).

[4] يظهر هذا التفصيل في ثلاث صور مختلفة اتخذت للنصب.

[5] قد يبدو للوهلة الأولى أن ما نسميه الذراع اليمنى هو بالأحرى جعبة، وأن هذه الذراع المرسومة ممدودة على يسار النصب كانت عديمة الفائدة تماماً. ولكن الأمر بخلاف ذلك: فتفحص القسم الأخير من هذه القطعة بواسطة العدسة المكبرة يبين أن الفنان تقصد فعلاً رسم الذراع واليد اليمنى تمسك ربما عمودياً سلاحاً كالدبوس ...، وقد اختفت قمته مع الأسف.

[6] راجع خصوصاً: H. Winckler, Altorient. Frschung., I, p. 506; Maspéro, Hist. anc., III, p. 513; et tout récement encore Winckler, dans Schrader, Die Keilinschriftn,  u. d., All. Testam. 3, p. 107 et suiv. – Sur une autre inscription de Nabuchodonosor, gravée à l’embouchure du Nahr el-Kelb, cf. Procred. Soc. Bibl. Arch. 1882; Comptes rendus de l’Acad., 1882, p. 86.

[7] إن إعادة رسم النصب من قبل بودييه Boudier في (Hist. Anc. de Maspéro, II, p. 543) أوضحت أنه يجب أن يُستبعد من نصب السبع الكثير من التفاصيل. فالملك لا يقبض على القائمة اليسارية للأسد؛ أما ذراع اليمين فمن المفروض أن تكون على يسار القسم العلوي من الجسم، وما يثبت ذلك، بصرف النظر عن أي مقارنة، هو أن ظل الرجل إلى الأمام لا يترك أي مجال للاتصال. والخنجر المغروز في صدر الحيوان هو ترميم مجاني، وإن يكن معذوراً بحكم التشويه الحاصل في النصب.

[8] يبدو الأمر على معقولية أكبر متى لاحظنا استناداً إلى تاريخ بن يحيا (؟) أن الأسود استمرت موجودة في لبنان حتى القرن الرابع عشر.

 

د. جوزف عبدالله

back to Book