back to Book
 

تقرير بونيون[1] POGNON

 

(ص 345) طرابلس الغرب[2]، 2 تشرين الأول 1884

السيد الوزير

اكتشفت، في رحلتي التي قمت بها في البقاع الشمالي، في 16 تشرين الأول 1883، نقشين لنبوخذنصر محفورين على صخور وادي بريصا، على مقربة من الهرمل. تم تبليغ هذا الاكتشاف إلى أكاديمية النقوش والآداب بواسطة السيد باربييه دو مينارد Barbier de Meynard، في جلسة 28 كانون الأول 1883. ولما عدت بعد قليل إلى فرنسا سرعان ما تبينت أنه يصعب عليّ نشر هذه النصوص دون العودة إلى الموقع ومقابلة النسخ التي أخذتها مع واقعها الأصلي.

عندئذ رغبتم معاليكم بتكليفي، بقرار بتاريخ 17 نيسان 1884، بمهمة في لبنان بغية جمع نص نقوش وادي بريصا. فعدت إلى بيروت، ومنها انطلقت في 10 من أيار إلى البقاع. بات لبنان اليوم معروفاً تماماً ولا حاجة بالتالي لأعرض المسار الذي سلكته، وأكتفي بأن أعرض لمعاليكم بعض البيانات حول موضع هذه النقوش.

تقع وادي بريصا في المنقلب الشرقي للبنان، على مسافة ساعتين ونصف شمالي بلدة الهرمل، وعلى حوالي 45 كلم، كخط مستقيم، شرقي طرابلس الشام[3]، وعلى بعد من 7 إلى 8 كلم من نهر العاصي. يتجه الوادي وهو يرسم عدة منعرجات من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي، ويصل الصاعد فيه بعد مسير بضع ساعات إلى منبسط فسيح من الأرض على ارتفاع كبير تحيطه (ص 346) الجبال من كل الجهات ويسميه سكان المحلة مرج حين. ومن هذا الموضع يمكن، عبر الجرد، أي المنطقة الوسطى من (جبل) لبنان، الوصول إلى طرابلس الشام بمسير يومين. هذا الوادي غير مزروع، ولا يقطنه سوى قلة من المتاولة الرحالة الذين يعيشون تحت الخيم، ويرعون الكثير من قطعان الماعز؛ ونجد في اسفل الوادي بضعة أكواخ بائسة يأوي إليها البدو في الشتاء. وعلى العموم من الصعب وصف مظهر هذه المنطقة البري والمنعزل. على من يقصد وادي بريصا قادماً من الهرمل أن يتجه أولاً نحو الشمال، ليدخل لبنان عبر وادي الشربين الذي يتشعب، فيؤدي شعب اليمين إلى وادي فيسان، وشعب اليسار إلى وادي بريصا.

والصاعد في هذا الوادي يصادف على مسير ثلاث ساعات من الهرمل تقريباً بعض الدواثر المشوهة التي تحتل قعره، ويرى على منحدر الجبل على اليمين النبع الوحيد الذي نصادفه قبل بلوغ مرج حين. تفحصت هذه الدواثر بكل عناية فلم أعثر فيها على أي نقش؛ ولكني وجدت فقط حجراً كبيراً عليه ثلاثة صلبان محفورة بكل وضوح. وبدا لي بدهياً أن ثمة قرية مسيحية وكنيسة كانتا قائمتين هنا، ولكني لم أتمكن من معرفة أي شيء عن زمن دمارهما؛ والمتاولة الذين يقيمون في هذا الموضع الآن يجهلون حقيقة هذه الدواثر التي لا يبدو بالتأكيد أنها تعود إلى العصر الروماني.

بعد نصف ساعة من الصعود في الوادي انطلاقاً من موقع هذه الدواثر نرى على يمين ويسار الدرب نقشَيْ نبوخذنصر. النقشان محفوران في الصخر ومعهما نصبين؛ ولكنهما مع الأسف على حال بائسة. وأخبرني أبناء المحلة أن وضعهما كان سليماً لبضع سنوات خلت، ولكن ثمة مغربي مرّ من هنا أعتقد أن فيهما كنزاً فعمل على تخريب الصخور بآلة حادة لكشفه.

ولما عثرت بالقرب من نقش اليمين على جزء من النصب ثبت لي أن المتاولة كانوا صادقين معي، وان تشويه هذين النقشين كان حديثاً. وإنه لمنتشر في لبنان الاعتقاد بوجود الكنوز المخفية، وأن جميع الصخور التي تحمل نقوشاً تحتوي عليها. ولهذا فإن عدد المواقع الأثرية التي أدى هذا الاعتقاد السخيف إلى تدميرها كبير للغاية مع الأسف. ولقد اضطررت، حتى تمكنت من إقناع المتاولة أني لست هنا بحثاً عن الكنز، أن أصور لهم أن هذه النصوص قد تم نقشها من قبل ملك فرنسي قديم حكم (ص 347) لبنان، وأني أرغب بنسخها ليتعرف أبناء وطني الفرنسيون على مجد أجدادهم.

انطلقت من بيروت في 10 أيار، كما كان لي شرف قول ذلك لمعاليكم، ووصلت وادي بريصا في 14 منه، وشرعت فوراً بنسخ النقوش وبأخذ ما أمكن من رشم لها. وإليكم على العموم وصفاً موجزاً للنقشين وللنصب المرافقة لهما.

نقش اليسار: نصب يمثل رجلاً على رأسه قلنسوة شبيهة بالتاج المدقق من الأعلى الذي يضعه الأساقفة اليوم، وأمامه شجرة. وسط النصب واسفله مختفيان تماماً؛ أما النقش فيحتوي 10 أعمدة مكتوبة بحروف حديثة؛ طوله تقريباً 5.50م، والارتفاع بين أعلى سطر وآخر سطر، في أطول أعمدة حوالي 2.80م.

نقش اليمين: نصب بحالة سيئة للغاية يمثل رجلاً يعتمر القلنسوة الأشورية يقبض على حيوان واقف أو يضربه، والحيوان هو على الأرجح أسد. خلف الرجل ثمة فراغ كان يجب أن يكون منقوشاً عليه صورة إلاهة؛ الصورة مختفية كلياُ، ولكن يمكن أن نقرأ تحتها تفسيرها:

إلى الإلاهة .............

التي تنمي ...............

التي تقيم في معبد إيه-غولا É-Goula .............................

....................................................................

النقش محفور بحروف قديمة ويتألف من 9 أعمدة. المنطقة السفلية مختفية تماماً، ومن المستحيل معرفة ارتفاع السطور الأخيرة لكل عمود عن سطح الأرض. طول النقش حوالي 5.50م، أما ارتفاع أعلى سطر في كل عمود عن سطح الأرض فحوالي 3م.

لا تخبرنا نقوش وادي بريصا، ككل نقوش نبوخذنصر المعروفة حتى اليوم، عن شيء غير الأبنية التي أنشأها هذا الملك في بابل، والهبات التي تلقاها من الآلهة، وبراهين التقوى التي يقدمها. ثمة جملة في العمود التاسع على يسار النقش يبدو أنها تتعلق بحملة في لبنان، ولكن النص مع الأسف مشوه ومتعذر الفهم.

على العموم، ستنشر نقوش وادي بريصا في طبعة خاصة ستظهر قريباً على ما آمل.

(ص 348) أمضيت أيام 15 و16 و17 و18 أيار في نسخ النقشين، وفي أخذ الرشم لهما. وفي 19 أيار قمت باستكشاف أعلى الوادي لجهة مرج حين. أرشدني متوالي إلى صخرة على حافة الدرب عليها نقش لاتيني لأدريان Adrien، أعرض هنا نصها بالدقة الممكنة[4]:

عثرت بعد قليل إلى الأعلى على صخرة تبعد 10م عن الطريق قرأت عليها النقش الآتي:

النصان تالفان جداً ومن الصعوبة بمكان قراءتهما، وبالتالي لا أتجرأ على ضمان دقة نسخهما تماماً؛ ولم يكن بمتناولي الماء لأتمكن من أخذ رشم لهما.

يوجد في لبنان الكثير من نقوش أدريان المشابهة لما عثرت عليه في وادي بريصا: يعتبر السيد رينان هذه النقوش بمثابة قانون كأنه معلق هناك بأمر من الامبراطور أدريان، وبواسطته يتم التمييز بين نماذج الأشجار المخصصة للدولة وتلك المتروكة ليحتطبها الناس[5].

وتفيد المعلومات التي جمعتها ميدانياً بوجود عدد من النقوش المشابهة لتلك التي عرضت عليّ منتشرة في وادي بريصا والجوار. وعليه فمن المؤكد أن هذه المنطقة كانت في ما مضى مغطاة بالغابات، وإني لأميل بالتالي إلى الظن بأن النقشين البابليين يؤشران على موضع ورشة يتم فيها قطع الأشجار بغية إرسالها إلى بلاد ما بين النهرين. وفي الواقع، يخبرنا نبوخذنصر أنه استعمل خشب لبنان في بناء (ص 349) المعابد التي أقامها في بابل، ولعله أمر فريد أن نجد نصوصاً لا كلام فيها عن حملات عسكرية وهي منقوشة في واد مهجور وبعيد إلى هذه الدرجة عن أي منطقة مأهولة.

في 19 أيار بعد أن استكشفت أعلى الوادي، هبطت إلى البقاع، وقبل عودتي إلى بيروت، قمت بجولة حول بحيرة حمص، وزرت رَبلة Rableh (رِبلة القديمة l’ancienne Riblah) التي يبدو أنها كانت مركز الاحتلال البابلي لسورية المجوفة Célé-Syrie (البقاع)؛ ففي ربلة في الواقع مثل سيديسياس Sédicias (صدقيا[6]) أمام نبوخذنصر، وفيها قطعت رؤوس كبار قادة مملكة اليهودية Juda. لن اتحدث عن هذه الرحلة الخارجة عن نطاق المهمة التي أوكلتها معاليكم إليّ، بل سأكتفي بعرض نقش يوناني عُرض عليّ في منزل في ربلة. ها هو نص النقش الذي ليس له على العموم أي قيمة، ولكنه غير منشور ربما:

                                   

عدت إلى بيروت في 27 أيار، وبعد بضعة أيام توجهت إلى فرنسا. وقبل مغادرة سورية رأيت من الواجب التواصل مع الحاكم العام للبنان حول ضرورة حماية نقشَيْ وادي بريصا من جشع الباحثين عن الكنوز وتجار الآثار في بيروت. ولقد رغب صاحب السعادة واصا باشا بطمأنتي أنه سيعطي الأوامر بتحريم قاطع لتخريب بقايا الحضارة البابلية الفريدة.

تفضلوا سيدي الوزير بقبول تأكيدي على الاحترام الجليل الذي به يشرفني أن أكون الخادم المتواضع والمطيع لمعاليكم.

هـ. بونيون



[1] المرجع: Archives des Missions Scientifiques et Littéraires, 3ème série, tome XIV, 1888,  pp. 345 - 349

[2] في النص الفرنسي طرابلس بلاد البربر Tripoli de Barbarie، المترجم.

[3]  في النص الفرنسي طرابلس السورية (طرابلس الشام) Tripoli de Syrie، المترجم

[4] يمكن أن يكون الحرف الأخير في السطر الأول من النقش الأول هو IV، والحرف الأخير في السطر الثاني N.

[5] راجع: E. RENAN, Mission de Phénicie, p. 279.

[6] صدقيا: آخر ملوك اليهودية، وهو متنيا الذي حمل اسم صدقيا لما أصبح ملكاً ( ق. م.597-587 ق. م.). تمرد على نبوخذنصر فسبب الاستيلاء البابلي الثاني على القدس ونفي اليهود إلى بابل عام 587 ق.م. أسرته القوات البابلية وتم إحضاره إلى ربلة (مركز القيادة البابلية حيث عسكر نبوخذنصر)، فسجن ومات في سجنه (المترجم).

 

د. جوزف عبدالله

 

 

back to Book