back to Book

نقوش نبوخذنصر الثاني في وادي بريصا ونهر الكلب[1]

 

المقدمة

على غلاف الدفتر الرابع من "المنشورات العلمية لجمعية الشرق الألمانية" الصادر في صيف 1903، أعلنْتُ عزمي على إصدار مؤلف (دفتر) جديد حول نقوش وادي بريصا. مرّ على ذلك الإعلان حوالي ثلاث سنوات. هذا التأخير الذي أتحمل شخصياً على الأقل مسؤوليته، يعود إلى توسيع مخططي الأصلي، من جهة، كما يرجع من جهة أخرى إلى صعوبات في فك رموز أجزاء غير سليمة من النقوش. لن أتفاخر بأني توصلت إلى تفسير رموز لم أحصل على غير آثارها، ولا بأني قرأت بشكل صحيح تماماً كل بقاياها. وإذا كان لا يجوز إبقاء هذه النصوص الهامة بالنسبة للعلم محجوبة، فقد وافتني الفرصة لتقديم خلاصة بحث تفصيلي استمر لعدة سنوات. إن ما يدفع إلى استكمال البحث الآن هو تقدم الطباعة التصويرية (طباعة الألواح من 1 إلى 6 في هذا الدفتر) والاستفادة من النسخ المقلدة (الموجودة في المتاحف الملكية في برلين). وإذا كان هناك من بتصرفه نماذج لا أعرفها أو لا أستطيع الوصول إليها، فبوسعه استكمال نصي في كثير من المواضع وتصحيحه.

وكما توفر لي نقش نبوخذنصر في نهر الكلب لتفسيره، فهذه المادة التي تم تزويدي بها لنشرها موجودة الآن أيضاً في المتاحف الملكية في برلين.

قلما استرعت النقوش المنشورة هنا الاهتمام بها بكليتها. فنقش نهر الكلب الذي يُنشر نصه الأصلي للمرة الأولى هنا، كان ما يزال غير معروف لسنتين عندما نشر شارل فوسيه "موجز الأشورية" (Charles Fossey: Manuel d'assyriologie, Paris, 1904) حيث كان على شك من أمر نسبة هذا النقش إلى نبوخذنصر. إن نقوش وادي بريصا ونهر الكلب شغلت في العام الماضي العالم الأميركي الشاب لاندون (Stephen Langdon) وذلك في بحثين: واحد فرنسي (Les Inscriptions du Wadi Brissa et du Nahr el-Kelb, Recueil de travaux relatifs a la philologie et à l’archéologie égyptiennes et assyriennes. Vol. 28, pp. 28-61). وأخر إنكليزي (Building Inscriptions of the Neo-Babylonian Empire, Vol. I, pp. 152-175, Paris 1905). وبما أني لا أستطيع في سياق هذا الدفتر اتخاذ موقف من هذين العملين، فإني أكتفي بوضع ملاحظة قصيرة. لقد استطاع لاندون بفضل المقارنات التي قام بها بطريقة رائعة من ردم الكثير من الثغرات، وتوصل إلى أن نقشَيْ وادي بريصا ليسا لوحدهما متماثلين فحسب، بل نقش نهر الكلب أيضاً. وبصرف النظر عن نجاحاته وإخفاقاته فإن أعماله تكشف ما يمكن للمقارنة بين النصوص الأصلية أن تقدمه.

وفي الختام عليّ القيام بواجب الشكر للجمعية الألمانية الشرقية التي تحملت أعباءً ليست قليلة لزيارتي إلى وادي بريصا، والشكر أيضاً لفريق بعثة بعلبك، وخصوصاً السيد فون لوك، لدعمهم الحماسي لي؛ واخيراً لا بد من شكر الأستاذ د. دوليتزش الذي زودني بالمادة المتوفرة عن نقش نهر الكلب.

ليبزيغ، 8 نيسان 1906. ف. هـ. ويزباخ

تمهيد

1- وصف موضع وادي بريصا[2]

وادي بريصا[3] ضيق ومحفور عميقاً في لبنان. مدخله على البقاع على مسافة ساعة ونصف تقريباً من بلدة الهرمل مركز المنقلب الشرقي لجبل لبنان. بعد ساعة من المسير في منعطفات متنوعة شرقاً وغرباً وانعطاف نحو الجنوب. القسم السفلي من الوادي مزروع قليلاً مع أنه فقير بالمياه. على مقربة من مدخل الوادي توجد قرية معروفة باسم "كعب وادي بريصا"[4]  حيث يبدأ بالانعطاف قليلاً نحو الشمال. هنا يوجد النبع الوحيد الذي تتدفق مياهه على المنحدر الشمالي الغربي. البيوت هنا هي ملاجئ أعلى بقليل من قامة الرجل ومبنية بالحجارة غير المنحوتة والطين. سكانه المتاولة على مذهب الشيعة. وبما أن الزراعة ممكنة في منطقة محدودة من الوادي فهم يعيشون على موارد قطعان الغنم والماعز. والوادي غير مسكون أبداً فوق النبع. الصخور المزروعة على جانبي الوادي تقترب من بعضها في قعره ولا تسمح بغير ممر لا يتجاوز بضعة أقدام. وبينما قعر الوادي حيث القرية يمتع النظر ببعض الأشجار المثمرة ففي العالي يقتصر وجود النبات على بعض الشجيرات الشوكية والقليل من الأعشاب التي لا تغطي جوانب الوادي الجرداء. الطريق الذي يتبع التواءات الوادي مبحصة للغاية من بدايتها وصعبة جداً على المشاة. على مسافة 10 دقائق من النبع يظهر لنا واد إلى اليسار، 10 دقائق أخرى ونصل إلى المكان المقصود في هذه المنطقة النائية التي استقبلت زائراً أوروبياً وربما ستستقبل الكثيرين. من اليسير أن نبلغ كوة على يمين الموضع وأخرى على يساره محفورتين في الصخر وفي كل منهما تمثال ونقش كبير. يؤدي الوادي في أعلاه إلى نوع من منبسط مرتفع تحيطه الجبال وترويه كثرة من الينابيع، هذا الموضع يسميه سكان المحلة "مرج حين"[5]. ومنه يمكن الوصول بيسر عبر الجرد، أي المنطقة الوسطى من لبنان، إلى طرابلس سورية (الشام) في مدى يومين.

 

وادي بريصا، منظر مأخوذ من الجنوب

2- أول زائر لهذا النصب

أول أوروبي بلغَتْه معلومة بوجود نصب ونقوش وادي بريصا، ولكنه أهملها، هو إرنست رينان Ernest RENAN الذي ترأس "بعثة فينيقيا" المكلفة من الحكومة الفرنسية، وذلك عندما كان في "مشنقة" في حزيران وتموز 1861. هناك أخبره حجّار أنه شاهد "نقوشاً وتماثيل كبيرة تمثل رجالاً ونساءً" في بريصا، فوق الهرمل. من المؤسف جداً أن رينان، عندما قال: "ما هي بريصا هذه؟"[6]، كان يمكنه الحصول على جواب سريع وأكيد لو أنه قصد المنطقة قرب الهرمل[7]. ولو فعل لما كان هذا العالم الفرنسي أضاف إلى سجل مجده صفحة رائعة فحسب، بل لكان قدم إلى العلم خدمة لا تقدر، لأنه كان توصل إلى هذه النقوش وهي على الأرجح بحالة جيدة في حينه.

الكوة الغربية والنقش بالبابلية القديمة

3- اكتشاف النصب والنقوش

يعود الشرف باكتشاف نقوش وادي بريصا إلى العالم الفرنسي هنري بونيون قنصل فرنسا في حلب. فأثناء رحلته في سورية المجوفة (البقاع) ولبنان في 16 تشرين الأول من العام 1883 باحثاً على ضفاف العاصي عن نقش تبين أنه غير موجود، قاده مرشده، من أبناء الهرمل، إلى موضع زعم أن فيه آثار مدينة قديمة. بيد أن الموضع تكشف عن بقايا بلدة حديثة. عندها اقترح عليه مرشده أن يدله على وادي بريصا كموضع فيه نقوش. ولكن الفشل السابق جعل بونيون يفكر بالتخلي عن مرشده الذي أكد له أنه شاهد بأم عينه النقوش، فعاد وتبعه. وهذا ما لم يندم عليه لأنه وجد نفسه بعد بضع ساعات أمام كوتين في الصخر وعليهما النقوش والتماثيل المنحوتة. والآن أقدم وصفاً للنقوش متبعاً بشكل وثيق تقرير[8] بونيون.

أولاً، الكوة على يمين (غرب) الطريق من حوالي 5.5م وطرفها العلوي على حوالي 3م من الأرض. في طرف اليسار من الكوة ثمة تمثال في النقش ما تزال حدوده بينة. وهو يمثل رجلاً واقفاً يمسك بحيوان مستقيماً على قائمتيه الخلفيتين، بينما إحدى قائمتيه الأماميتين مرفوعة وكأنه يهم بضرب خصمه. ثمة نقش يبدأ على اليمين فوق الرجل، وهو من تسعة أعمدة يملأ الفراغ حول التمثال داخل الكوة. ثمة عمود عاشر لم يبقَ منه سوى بعض الحروف القابلة للقراءة. القسم الهام من النقش مفقود، وهو باللغة البابلية القديمة.

ثانياً، الكوة على يسار (الشرق) الطريق من حوالي 3.5م طولاً بارتفاع حوالي 2.8م، يرتفع طرفها السفلي عن الأرض حوالي 50سنتم. مع أن مساحة الكوة كافية لاستيعاب النقش فإن الأعمدة الأربعة الأخيرة من الأعمدة العشرة تقع خارج الكوة على نفس الصخرة. في وسط النقش تقريباً نرى تمثالاً منحوتاً يمثل رجلاً وجهه إلى اليسار وواقفاً أمام شجرة عارية من الأوراق. وهو يعتمر قلنسوة عالية تشبه القلنسوة الأسقفية. كتابة النقش هنا باللغة البابلية الجديدة.

الكوة الشرقية والنقش بالبابلية الحديثة

 

لقد تعرض التمثالين والنقشين أيضاً إلى أضرار بفعل المؤثرات المناخية لعدم توفر الحماية من الجهة العلوية، وكذلك بفعل تخريب مقصود. لقد وجد بونيون أن صفحة النقش تعرضت للتكسير بواسطة آلة حادة، كما أخبره سكان المحلة ان هذا حصل قبل حوالي 10 سنوات، عندما افترض المغربي الذي خرب الموضع أن خلف النقش مخابئ كنز، وفق اسطورة واسعة الانتشار في كل الشرق.

لقد قرر بونيون أن النقشين، النقش باللغة البابلية القدية والنقش باللغة الحديثة، يعودان إلى نبوخذصر الثاني (605-562 ق.م.). ونسخ فوراً قسماً كبيراً من النقوش. ولما بدا له أن يجري مقارنة بالأصل، قبل نشرها، طلب من الحكومة الفرنسية إرساله بزيارة ثانية إلى المكان، وهذا ما حصل عليه. وفي 14 أيار 1884 حضر إلى وادي بريصا مجدداً وبقي حتى 18 من ذلك الشهر، وهو ينسخ ويأخذ الأرشم. متى أخذ بونيون الصور فهذا غير واضح في تقريره. وكانت ثمرة أعماله مؤلفه "النقوش البابلية في وادي بريصا"[9] Les Inscriptions Babyloniennes de Wadi Brissa, Paris, 1887. وفيه نرى صوره على أربع لوحات، بالإضافة إلى 10 لوحات تمثل الكتابة المنقوشة لكل ما استطاع قراءته، ومن بعد ذلك ترجمة مفصلة وتحليلاً ممتازاً وقاموساً صغيراً.

4- زيارة هيلبريشت

استرعت أعمال بونيون اهتمام هـ ف هيلبريشت H. V. Hilprecht الذي اغتنم فرصة أول زيارة له إلى الشرق والمخصصة إلى أبحاث حول بيروت من ضمن أمور أخرى، وشرع بالقيام بجولة في لبنان. وزار وادي بريصا في نهاية العام 1888، وكذلك منطقة الهرمل بالطبع. لم يتسنَّ له الوقت ليأخذ أرشم النقوش. واعتبر أن النصبين يمثلان "مشاهد من حياة المقاتلين البابليين أثناء واحدة من حملات نبوخذنصر في لبنان"[10].

5- مضمون النقوش

لا ينكر أحد الأهمية الكبرى لنقوش وادي بريصا. وإذا كان نبوخذنصر يخبرنا هنا عن بنائه المعابد في بابل، وعيد رأس السنة فيها، علاوة على ما يقدمه من قرابين لآلهتها، وحول أسوار المدينة، وكذلك أخيراً حول حملته في لبنان، وذلك بطريقة مفصلة أكثر مما هي الحال في جميع باقي نقوشه الكبيرة، فإن نقوش وادي بريصا تتضمن، أو كانت تتضمن، الكثير من المعطيات التي نبحث عنها عبثاً في باقي نقوش نبوخذنصر. ومن ذلك المحاور الثلاثة: عيد رأس السنة (P. Jensen)، حملة نبوخذنصر في سورية، وأسوار بابل.

6- الحاجة إلى إصدار جديد حول وادي بريصا

بدت لي الحاجة إلى إصدر جديد حول نقوش وادي بريصا منذ بدأت التعمق فيها. إن ما نشره بونيون عمل محترم. ولكن إذا كانت الدراسات حول كتابه بعد عقد ونصف على تقدم العلم أعطت تحسينات متنوعة، فبوسعنا توقع المزيد بفعل المقارنة مع النقوش الأصلية. لقد عين بونيون الكثير من مقاطع النقش بأنها "غير مقروءة"؛ على سبيل المثال: العمود رقم 5 من النقش بالبابلية الحديثة، من Z إلى 25. ولكن استناداً إلى صورته (اللوحة رقم 4)...  وبالعودة إلى الأصل قد يجلي الكثير من الغموض.

سبق لبونيون أن لاحظ أن أقساماً كبيرة من النقشين متطابقة حرفياً مع بعضها. وبالتالي فالمزيد من العمل التفصيلي على حالات التطابق يكشفها أكثر ويدعو إلى افتراض أن النقشين يتضمن كلاهما نفس النص. وسواء صحت هذه الفرضية أم لا، فإن التحقق منها لا يكون بغير تفحص دقيق لواقع النقوش الأصلية.

النقش الصغير في الزاوية السفلية اليسارية من الكوة الغربية يشكل لغزاً. يرى بونيون أن سطوره الثلاثة الأول هي ابتهال إلى الإلاهة غولا. وهذا لغز غير مفهوم على الإطلاق، فلماذا يكرس لها نبوخذنصر نداءً بينما هي لا تحتل في باقي نقوشه غير موضع ثانوي؟

كذلك افترض هيلبريشت أن هذا قد يكون العمود الأول من النقش، وهو من ضمن موضوعه الأساسي.

يزعم بونيون أن القسم السفلي من الكوة الغربية مختفية تماماً، ولكن استناداً إلى صورته (اللوحة 4) يبدو لي بالعكس كما لو أن هذا القسم السفلي محجوباً خلف التراب أو خلف كتل من الحجارة. ولا بد للتأكد من صحة هذا الافتراض من بذل جهد صغير.

أخيراً، ربما المطلوب اكتشاف مدلول النحتين الموجودين وسط النقشين. وصور بونيون لا تفي بالغرض، ويفترض هيلبرشت أنهما يمثلان مشاهد من حياة معسكرات القوات البابلية. ولكن لا شيء يكون مرضياً بغير التمحيص الدقيق للموضع.

استناداً لما سبق، أخذت على عاتقي تنفيذ المهام الواضحة هنا خلال زيارتي لوادي بريصا.

7- تقرير حول زيارتي لوادي بريصا

وصلت في الأول من نيسان 1903، إلى دمشق عائداً من بابل. ولكن تلهفي لزيارة وادي بريصا لم تخفف من حدته المدينة الرائعة التي لم يكن لأي أوروبي إلاّ أن يشعر بروعتها، وهكذا وجدت نفسي في اليوم الثالث، بعد أن أنجزت الأمور الأكثر ضرورة، على طريق بعلبك يصحبني خادمي نَصوري بن اسطفان Naşşûri ibn Iştîfân، مسيحي من بغداد. لم تعد هذه الرحلة متعبة أبداً منذ أن بدأ بالعمل خط سكة الحديد رياق- حماة المتفرع عن خط دمشق- بيروت. وصلنا بعد ظهر الأمس إلى بعلبك، وشرعت مباشرة بعد زيارة منزل البعثة الألمانية التي تدرس آثار المدينة القديمة، في مهمتي السامية. فقيامي بزيارة مرعية لوادي بريصا تحتاج إلى أعضاء من البعثة المبلغة مسبقاً وخطياً، وطلبوا معرفة قصدي، وهو مساعدتي بمشورتهم وخبرتهم. ولقد برهن السادة نحوي عن رعاية فاجأتني واستدعت مني كبير الامتنان. وكان المتوالي أبو محمود من العاملين في البعثة، وكان عارفاً بالمنطقة وأهلها حيث سأقوم بزيارتي؛ لقد قدموا كل ذلك وأكثر. ولأن زيارتي لوادي بريصا لا يمكنها أن تتكلل بغير نصف نجاح على الأكثر بدون أخذ صور فوتوغرافية، وأنا شخصياً عديم الخبرة في "الفن الأسود"، فضلاً عن افتقادي لآلة تصوير، فقد تطوع بكل لطف السيد ت. فون لوك (Th von Lüpke)، أحد أعضاء البعثة، لمرافقتي. وله يعود الفضل، هذا ما أقوله سلفاً، بصور العرض من 1 إلى 4، واللوحات من 1 إلى 6.

في اليوم التالي، بعد أن اطلعت على انجازات الألمان في بعلبك، كانا جاهزين للانطلاق. بدأنا رحلتنا في القطار إلى بلدة لبوة. هناك ذهب السيد فون لوك بصحبة أبي محمود إلى البلدة التي تبعد مسافة ساعة تقريباً عن محطة القطار، بحثاً عن مقام الشيخ Sêh. بينما بقيت في المحطة مع خادمي وقضيت الليل تحت خيمتي. وفي الصباح التالي وصل السيد لوك وأبو محمود بعد أن رتبا أمر حيوانات النقل والمستلزمات. ثم انطلقنا في النهار على الخيل قاصدين جوار الهرمل. كان الدرب صعباً للغاية، خصوصاً بالنسبة لنا نحن الأوروبيين. خلفنا كانت هناك قمم السلسلة الشرقية الجرداء، وأمامنا سلسلة جبال لبنان التي كانت قممها الجليلة مغطاة جزئياً بثلوج الشتاء. في غضون ذلك كانت أمامنا مداخل سورية المجوفة (البقاع) تمتد على مد النظر. ومنازل الهرمل البيضاء تلمع أمامنا على المقلب الشرقي للبنان. بدا الطريق طويلاً، فكان علينا فجأة أن ننحرف باتجاه اليسار، لنترك على يميننا النصب المعروف باسم "قاموع الهرمل"[11] هذا البرج الصغير المبني بالحجارة القديمة، والذي كان يعين مستوى سطح السهل؛ كان يستحق معاينته ولكن ضيق الوقت حرمنا منها.  بين خط سكة الحديد ولبنان ثمة هدير في وادٍ أشبه بشعب في الجبل حيث يشق أورنط (العاصي) طريقه عميقاً، هذا النهر باسمه العربي (نهر العاصي)، النهر المتمرد.

كان اجتيازنا نزولاً لمخاضة العاصي وصعودنا إلى الجهة المقابلة صعباً جداً ما اضطرّنا إلى النزول عن الجياد وقيادتها ممسكين بلجامها. بعد مسير أربع ساعات بلغنا بلدة الهرمل. اتجهنا مباشرة إلى شيخ لبنان (Sêh du Liban) حسن أ (Hasan A) الذي كنا نحمل له كتاب توصية من بعلبك. استقبلنا حسن بمودة وعاملنا على الطريقة الشرقية بتقديم القهوة وعصير الليمون وحبات الحلوى. بيد أنه عندما أبلغته أننا ننوي المتابعة إلى وادي بريصا، عمل على عدولنا عن ذلك بكل السبل، مؤكداً أن الثلج ما يزال بسماكة أكثر من متر في الوادي، وبالتالي فهو ليس على استعداد بتحمل أي مسؤولية من هذا النوع. أزعجنا موقفه هذا قليلاً، ولكنه أمام إصرارنا عاد ووافق مرغماً. لقد تم تفريغ حمولتنا بدون علمنا، ورغم إرادتنا، ولما استعدنا كل شيء وحيوانات بديلة، وتم تحميلها امتطينا الجياد، يصحبنا جندي زودنا به الشيخ حسن، وانطلقنا في طريق مبحصة على سفوح الجبال باتجاه الشمال. بعد ساعتين دُرنا في الوادي، في القرية السفلية التي اجتزناها؛ بداية صادفنا على مقربة منا رجلاً أمام منزله دعانا إلى زيارته بحرارة، وهو يقترب منا بسرعة. لقد كان الشيخ مصطفى. لم يكن بوسعنا التجاوب مع دعوته الصادرة عن حسن طوية، لأن الوقت كان يداهمنا ويستدعي إسراعنا. ولكني وعدت الرجل أن زيارتنا له تشرفنا في مرة أخرى، ولقد أبدى لاحقاً الكثير من اللياقة نحوي. بعد ساعة كنا بالقرب من النبع، لنصل في عشرين دقيقة منه إلى الموضع المقصود. سرعان ما أنزلنا حمولتنا؛ وعاد أبناء الهرمل مع دوابهم، باستثناء الجندي. نُصبت الخيمة مباشرة بقرب النقوش. وبما أن الوقت صار متأخراً على بدء العمل، اقتصرنا على تفحص النصب بدقة والقيام بنزهة صغيرة صعوداً في الوادي. وتبين لنا أننا كلما تقدمنا في السير كلما بدا لنا المكان مشابهاً، باستثناء تقلص عرض الوادي في الأعلى. بعد حوالي ربع ساعة من موضع النقوش صادفنا وادياً آخر ينحدر إلى اليسار. أما الثلج الذي حدثنا عنه حسن، فكان كحكاية أحد الشعانين[12]؛ فالثلج لا يبدو سوى على رؤؤس القمم. ولكن الطقس سرعان ما بدأ يسوء وهطل المطر ليلاً بغزارة، بينما ظروف إقامتنا لا تقدم أي حماية تحت الخيمة. ولكن مرافقينا الشرقيين الثلاثة، أبو محمود ونصري والجندي، عثروا في الوادي على مغارة في سفح الجبل الشرقي، ما وفر ملجأ موقتاً لليل.

 

الخيمة وموقع النقوش

في صباح اليوم التالي (الاثنين، 6 نيسان) بدأنا بعملنا. بينما كان السيد فون لوك يحمل آلة التصوير ويلتقط صورة هنا وأخرى هناك، عند هذا الجانب وذاك، كنت أقابل ما طرحه بونيون حول توزيع النقوش. أما أبو محمود والجندي، فكانوا يساعدون فون لوك في تثبيت آلات التصوير، ويعملون على كشف التربة بحثاً عن بعض السطور، وعند الكوة الغربية تحت نقش الابتهال إلى غولا. بهذا العمل، تحقق افتراضي بأن القسم السفلي من اللوحة ليس ضائعاً بلا أثر، بل هو مخفي تحت التراب. بقي السيد فون لوك معنا لمدة ثلاثة أيام؛ وبعد أنهى التقاط الصور التي رسمت الموقع والنقوش، وأجرى قياسات الكوّتين، ودّعنا في صباح الثامن من نيسان. رافقه أبو محمود حتى محطة القطار، ليعود صباح اليوم التالي إلى الموضع. والآن بدأ فوراً العمل لأخذ الأرشم. كان العمل في الأقسام السفلية من النقوش سهلاً، ولكن الأمر صار مختلفاً عند الأعمدة في المناطق العليا التي يصعب بلوغها. بيد أن شقيق الشيخ مصطفى المقيم بقرب النبع وفر لنا سلماً. هذا بالإضافة إلى أن ابنتيه كانتا تزوداننا بالماء التي نشتريها معبأة في جرة. وأخيراً فان هاتين الفتاتين كشفتا، بواسطة الرفش والمعول، في 12 نيسان، يوم أحد الفصح، القسم السفلي من الكوة الغربية المطمور تحت التراب. بعد يوم أنهيت أخذ الأرشم؛ وهكذا كان بوسع أبو محمود الذي قدم لي العون الأساسي بالتعاون مع نصوري العودة إلى بعلبك. أما الجندي فقد تحجج سلفاً بأعمال طارئة، وغادَرَنا. بقيت لوحدي مع نصوري في الأيام اللاحقة، أدرس الرشم وأنظمها، واستبدل منها التي لا تروقني، واتحقق من الأمكنة الصعبة في النقوش لمرات متعددة. وفي صباح 17 نيسان، انطلقنا عائدين بعد أن قضينا أحد عشر يوماً في هذا الموضع المشهود. بهبوطنا الوادي كان لا بد لنا من المرور بالشيخ مصطفى الذي أعد لنا احتفالاً وذبح لنا خروفاً كتعبير منه على تكريمي. ولكن عندما بلغنا الهرمل عند الظهر قررت عدم المرور بالشيخ مصطفى، وضياع بضع ساعات أخرى. فانعطفت يساراَ بقافلتي الصغيرة عند المنازل الأولى للهرمل. تابعنا المسير على الحصان على هذه الطريق المتدرجة حتى بلغنا شارعاً مريحاً يؤدي في نهايته إلى العاصي، وحيث النهر عريض المجرى ويتم اجتيازه على جسر مبني بالحجارة. الوادي هنا أكثر اتساعاً وفيه بعض الملاجئ التي يمكن القول أنها معلقة على الصخور. وما أن ابتعدنا قليلاً بمحازاة النهر وانحرفنا حتى باتت الصخور تقترب من بعضها لتسد الطريق التي تتجه عندها إلى الشرق لتؤدي مباشرة في الصعود إلى الهضبة. وما أن وصلنا إلى الأعلى حتى شاهدنا ثانية نصب الهرمل الذي صرفنا النظر عنه مرة أخرى وتركناه على يميننا. بعد أربع ساعات بلغنا محطة رأس بعلبك. لقد استغرقتنا الطريق من نقوش نبوخذنصر حتى توقفنا 8 ساعات بالتمام، بينها ساعة وربع الساعة عند الشيخ مصطفى.

ثمة قطار واحد يتحرك على خط سكة الحديد في سورية، في كل يوم وباتجاه واحد. وهكذا فإن قطار حماة كان قد وصل بعد رياق، وبالتالي كان عليّ النوم ليلة أخرى تحت الخيمة. وصباح اليوم التالي، كنت في بعلبك مجدداً حيث كان السيد فون لوك والصور واللوحات المظهرة بانتظاري. قضيت السهرة في مركز إقامة مواطِنيّ المحترمين. غادرت في اليوم التالي، في 19 نيسان، بعد تقديم آيات الشكر القلبية لمساعدتهم الثمينة والنشيطة، لأكمل بعيداً رحلة العودة.

8- نتائج رحلتي إلى وادي بريصا

إن النقشين، نقش اللغة البابلية القديمة ونقش اللغة البابلية الحديثة، يحتويان كلاهما نفس النص الواحد. القسم السفلي من الكوة الغربية مغطى بالتراب، وإن كانت بعض محتوياته تعرضت للتلف. كما أن طرفها السفلي غارق في الأرض لعمق نصف المتر. لقد تبين أن الكوتين كانتا منذ البداية صغيرتين على حجم النقش. وبينما كان النقاش يستعين بالحجارين لينقش خلاصة النقش على طرف اليمين من الصخرة نفسها التي لم يبقَ فيها هناك متسع، وجد نفسه ملزماً على توسيع الكوة من الأسفل[13]. يجب اعتبار النقش المزعوم مخصصاً إلى غولا بوصفه استمراراً مباشراً من الأعلى للعمود التاسع، وبالتالي كأنه العمود العاشر. وهكذا هنا لدينا أيضاً 10 أعمدة قصيرة متتابعة، ولم يبقَ منها غير بعض الأثر. خلاصة النقش بالبابلية القديمة كانت موجودة تحت، وعلى الأرجح، للجهة الأخرى للعمود رقم 9، لأن بقايا الكتابة المسمارية ما تزال موجودة على القسم الذي كان مطموراً بالتراب.

يبدو أن حالة نقش وادي بريصا بقيت على ما كانت عليه منذ زمن بونيون. لقد عثرت على الحروف التي قرأها سلفي، وربما بدون استثناء. وقلما أخطأ في المواضع الظاهرة جيداً. ولهذا فإن التفحص الأكثر دقة للمواضع التي كانت غير مرئية تماماً كشف عدداً كبيراً من الحروف الأخرى، في جميع السطور بالطبع؛ وإني لأفترض أن زائراً لاحقاً قد يخلص بنتائج أفضل.

أما في ما خص التمثالين المنحوتين في الكوتين، فقد توصلت إلى قناعة بأنهما يمثلان شخص الملك نبوخذنصر الثاني[14]، وذلك للأسباب الآتية:

1- في موضع واحد من النقش بالبابلية الحديثة (العمود 9، السطر 50) يقول نبوخذنصر بنفسه أنه وضع صورة جلالته، مباشرة بعد الاعلان عن حملته في لبنان. وهكذا من المعقول الافتراض أن الصورة نقشت هناك في حينه.

2- تمثال الكوة الشرقية يعلن ببساطة أن الرجل الواقف أمام الشجرة العارية، ربما كان أمام شجرة أرز. هنا نبوخذنصر يروي (النقش بالبابلية القديمة، العمود 4، السطر 4؛ النقش بالبابلية الحديثة، العمود 2، السطر 20) أنه احتل لبنان وقطع شجرة الأرز "بيديه الطاهرتين".

إذا كان التمثال المنحوت في الكوة الشرقية يمثل نبوخذنصر فالأمر كذلك في الكوة الغربية، لأن تمثال الرجل هو ذاته في الكوتين. المعركة مع الأسد غير واردة في النقوش، ولكن ذلك لا ينفي احتمالاً بأنها كانت موجودة، وربما كتتمة للكلام حول نحت صورة الملك. من المعروف أن اصطياد الأسود عند الأشوريين كان رياضة ملكية. يفتخر تغلاتفلاصر الأول بأنه اصطاد أكثر من 920 أسداً (Prisme VI, p. 76). وأشورناصربال قتل 370 أسداً وأمسك 15 أحياء، ووضع في حديقة الحيوانات 50 شبلاً (Annals of  kings f Assyria, ed. By Budge & King, vol. 1, p. 202 ). وأشوربانيبال عمل على نحت نقش له يمثل مشهد صيد الأسود (Delitzsch, Assyrische Lesestücke 4. Aufl. S. 74). وهذا المشهد يشبه مشهد وادي بريصا ويختلف عنه بوضعية الأسد الهارب، بينما هو في وادي بريصا بمواجهة الخصم ويهم بالهجوم. وفي التمثالين يمسك الصياد الحيوان بيده اليسرى،  بينما بيده اليمنى سلاح موجه إلى الحيوان. في النقش الأشوري السلاح كناية عن هراوة سحقت رأس الأسد، بينما في النقش البابلي السلاح بالأحرى سيف محني[15].

إذا صح التقدير بأن تمثالي وادي بريصا يعودان إلى التجارب الشخصية لنبوخذنصر، فإنهما يصبحان على قيمة كبيرة، لأنه لا يوجد حتى الآن أي رسم لهذا الملك البابلي.

9- اكتشاف نقوش نهر الكلب

يشكل مصب نهر الكلب الواقع على ثلاث ساعات شمالي شرقي بيروت موضعاً على أهمية تاريخية كبيرة. فما فيه من نقوش، أشورية وبابلية ومصرية ويونانية ولاتينية وعربية وفرنسية، يعطينا صورة عن المصير المتقلب على مدى آلاف السنين الذي شهده هذا المصب. توجد أكبر النقوش على صخور الضفة الجنوبية للنهر، وهي معروفة منذ زمن طويل، وغالباً ما سبق وزارها الرحالة ووصفوها. ثمة نقوش أخرى موجودة على الضفة الشمالية تعرف إليها في ربيع 1878، مارتن هارتمان Martin Hartmann، المترجم حينها في القنصلية الألمانية العامة في بيروت. لاحظ العاملون في بناء قناة على وجه صخرة مغطاة بالعليق والشجيرات الكثيفة علامات مرسومة غريبة فانتزعوا منها قطعة بطول وعرض 38سنتم. تم الاحتفاظ بهذه القطعة في مقهى مجاور ثم اخذها صاحب العقار المجاور لمنزله في سبناي. ولكن المستشرق هارتمن حصل عليها بعد جهد. نقل المستشرق هذا النموذج الأول إلى ألمانيا حيث تفحصه في برلين إ. شرايدر E. Schrader الذي قرر (1881)، استناداً لتقرير هارتمن، أن لا قيمة له لأن أي سطر فيه لا يحوي على كلمة كاملة.

في شهر آب من تلك السنة وضع هارتمن السيد هـ. غوت H. Guth بصورة هذه اللقية، لدى وصوله إلى بيروت آتياً من فلسطين. قرر غوت معاينة كامل النقش على الصخرة بعد إزالة العليق والشجيرات عنها. ولكن الفرصة لم تواتيه لزيارة نهر الكلب. فصنع نموذجاً عن القطعة المأخوذة من سبناي وأخذها إلى ألمانيا حيث تركها إلى دليتزش F. Delitzsch. لقد تقرر صدور تقرير حول هذه القطعة في مجلة الجمعية الفلسطينية الألمانية، وهذا ما لم يحصل.

وفي شهر أيلول قصد هارتمن بصحبة نائب قنصل الدنمارك، جول لويتفدJulius Loytved ، نهر الكلب، بعد أن تم تنظيف الصخرة قليلاً في غضون ذلك. عمل لويتفد مع خادمه على تنظيف مجال أوسع في الموضع، وقام بتصوير شتى مواقع النقوش (vgl. Abb. 5 S. II).

كان الإعلان الأول في أوساط العلماء عن هذه اللقية على يد أ. هـ. سايس[16] A. H. Sayce الذي التقى هارتمن في بيروت، في ربيع 1881. أرسل لويتفد، بعد أن أنهى عمله، إلى صديقه هـ. ب. كريسترام تقريراً قصيراً وصوراً، وبعد فترة أتبع ذلك بنماذج، قام الأخير بارسال الصور إلى سايس. اعتبر العالم بالأشورية أن النقوش بابلية، وصاحبها نبوخذنصر، وبعد بضعة أسابيع نشر معظم محتويات العمود الأول، على أن ينشر الباقي قريباً.

أرسل السيد لوتفيد صوره والنماذج التي أعدها إلى أكاديمية النقوش الباريسية، وعنها تحدث السيد ف. لينورمان، في جلسة الأكاديمة، في نهاية 1881 أو بداية 1882. وبما أن هذا التقرير لم يُنشر سابقاً، ونظراً لأهميته، أنشره هنا.

"سيدي العزيز

إليكم نسخة عن المطالعة التي قدمها السيد ف. لينورمان حول موضوع عرضكم أمام الأكاديمية (Académie des Inscriptions et Belles-lettres).

يشرفني أن أعرض أمام الأكاديمية، باسم السيد جول لويتفد Jules Loytved، قنصل الدنمارك في بيروت، أرشم النقوش المسمارية الجديدة التي اكتشفها مؤخراً على صخور الضفة الشمالية لنهر الكلب.

بالإضافة إلى الرشم، هناك صورة فوتوغرافية للصخرة الحاملة للنقوش، ومخطط مع كل الملاحظات الضرورية يعين وضع النقوش؛ وأخيراً صورتان أكثر توسيعاً لهذه النصوص التي تضم أربعة أعمدة. يسهل، من النظرة الأولى على الأرشم والصور، التعرف إلى أن الوثيقة التي أمامنا هي كتابة بابلية، وبالتحديد من النوع المستعمل في معظم نقوش نبوخذنصر. وفي الحقيقة فإن اسم هذا الملك متبوعاً بقسم من ألقابه المعتادة يُقرأ بيقين في النقش وفي الأرشم والصور.

إن النصب الجديد المكتشف عند نهر الكلب يضيف اسماً جديداً، اسماً مشهوراً للفاتح الرهيب الذي أسقط صور والقدس، إلى لائحة الفاتحين المصريين والأشوريين الذين خلدوا ذكرى فتوحاتهم بالنصب التي نقشوها على معبر هذا النهر القريب من بيروت.

إن لقية نصب من النوع العائد لنبوخذنصر في فينيقيا تشكل للعلم حدثاً فعلياً: هذه أول وثيقة نقشية عن الحروب الكبرى لهذا الملك الذي تحتل فتوحاته مساحة واسعة في أسفار التوراة؛ لا سيما وأنه من المعروف كظاهرة فريدة أن جميع نقوش نبوخذنصر المعروفة حتى اليوم (باستثناء نبذة قصيرة من حولياته المحفوظة على لويحة في المتحف البريطاني) تمجد بفخامة الأبنية الكبرى التي أقامها على شرف الآلهة، ولكنها لا تذكر بشيء حروبه وانتصاراته. هذا الاهتمام بمجد بنّاءٍ لا مثيل له يتجلى أيضاً في نقش نهر الكلب. ففيه على الأقل عمود يعالج بكليته أعمال البناء التي يُشار إلى أنها واقعة في جوار مدينة سيبارا. بيد أني أتبين في سياق النص بعض مقاطع الجمل التي يبدو أنها تعود إلى رواية حملة عسكرية. ولكن النقش مع الأسف صعب القراءة بفعل سوء حالته البينة في الأرشم والصور على حد سواء.

لم أنجح في تحليلي لهذا النقش بفك رموزه أكثر بكثير مما قاله السيد سايس في العديد من الدوريات الإنكليزية. ولكن يبدو لي أن الدراسة المطولة يمكنها أن تقدم نتائج أفضل، خصوصاً الآن، بعد أن أصبحت الأرشم الورقية للنقش التي لم تكن بحوزتنا في مكتبتنا وهي بتصرف العلماء. لقد اختار السيد لويتفد معهد فرنسا (Institut de France) ليضع لديه ما جمعه من أرشم، ليوجه التحية من خلاله إلى المجموعة العلمية الأولى في أوروبا، وليثير خصوصاً على النص المسماري الأول اهتمام الآثاريين الفرنسيين.

تقدر الأكاديمية مراعاتها هذه، النابعة من مسؤول في أمة كان لها على الدوام صلاة تعاطف وثيقة وصداقة؛ وتهنئ القنصل الدنماركي في بيروت على لقيته التي، وإن لم نتمكن من الاستفادة منها كثيراً كوثيقة أثقلتها عاديات الزمن بالتخريب، تبقى دوماً، لمجرد ملاحظة وجود نصب مسماري لنبوخذنصر في فينيقيا، على أهمية من الدرجة الأولى بالنسبة للتاريخ.

تقبل سيدي العزيز التأكيد على أفضل مشاعري.

المخلص ج. شلومبرجر G. Schlumberger".

أرسل لويتفد لاحقاً نموذجاً لهذه النقوش إلى رستم باشا، متصرف لبنان. وفي جلسة الأكاديمية[17] في أيار 1882، أعلن لينورمان أن مضمون النقش عبارة عن تعداد القرابين التي قررها نبوخذنصر لبعض معابد بابل.

10- زيارتي إلى نهر الكلب

عندما عدت إلى بيروت قررت زيارة نهر الكلب. جمعتني الصدفة مساء وصولي (22 نيسان 1903) مع هوغو وينكلر Hugo Winckler الموجود في بيروت حينذاك آتياً من صيدا. وقررنا نحن الاثنين القيام بزيارة إلى جبيل، والمرور بنهر الكلب في السيارة. وهكذا قصدنا في اليوم التالي نهر الكلب حيث تمت المعاينة بإشراف وينكلر. استعان الزائر بسلم استعمله كجسر ليبلغ نقوش نبوخذنصر وذلك لاجتياز الحقل الفاصل بين الصخور والنهر. ليس من السهل الوصول مباشرة إلى النقوش، لأن هناك قناة ماء بعمق من 50 إلى 60سنتم داخل الصخرة بالذات. هذا فضلاً عن أن أرض الحقل تكون كالمستنقع طيلة فترة طويلة من العام، وحافة النقوش يتدفق عليها الماء الذي يصب في الحقل.

ولأنه استحال عليّ تجاوز العقبات التي حالت دون حصولي على نسخ جديدة قبل رحيلي (25 نيسان)، تراجعت بفعل قوة الأمور. ولكني قمت في اليوم التالي بزيارة شقة السيد لويتفد حيث توجد نسخه وقمت بتصويرها.

 

الصخور الحاملة لنقوش نبوخذنصر على الضفة الشمالية لنهر الكلب

11- وصف مقاطع النقوش

لأنني لم أستطع الشروع بأخذ القياسات والقراءة ميدانياً في الموضع، سأقدم الوصف استناداً إلى التقرير المذكور للسيد هارتمان. إن الرسم 5 المعد استناداً إلى الصورة يشير إلى أن تقريره صحيح في كل الأمور الأساسية. وبالنتيجة، يجب التمييز بين 5 مقاطع من النقوش؛ الرقم واحد منها، وهو الأوسع، والأبعد إلى الغرب. الباقي ينطوي على أربعة أعمدة. وعلى مسافة متر تقريباً إلى الشرق، وحتى سطح الماء في القناة، يبدأ المقطع الثاني، ومنه بقيت فقط بضعة رموز عند حافته.

وعلى مسافة متر تقريباً، من جديد، وعلى متر عن سطح الماء، المقطع رقم 3، رموزه متلوفة كلياً تقريباً.

وكذلك المقطع رقم 4، يقع على متر أيضاً إلى الشرق، وعلى ارتفاع أربعة أمتار.

المقطع الخامس، يقع بعيداً إلى اليمين، على صخرة نافرة تمت تسوية وجهها بالنحت. وهنا أيضاً كل شيء تالف. لم تنجح محاولة أخذ رشم له نظراً لاستمرار تدفق الماء.

12- المادة التي جمعها لويتفد

بما أني كنت أغذي الرغبة بأن نقوش نهر الكلب بعد عقدين على اكتشافها، يجب إعلانها للعلماء الذين ليسوا في وضع يسمح لهم بزيارة الموضع، فاقترحت لدى عودتي إلى ألمانيا على السيد الأستاذ د. دوليتزش شراء المادة التي جمعها لويتفد. وفي الحقيقة، بعد بضعة أشهر أصبحت المادة متوفرة في المتاحف الملكية في برلين، وزودني بها السيد دوليتزش لمعالجتها.

وكانت تضم الآتي:

أولاً، ثلاث صور، وهي: (أ)، لقطة عامة لمجمل الموضع على أساس الرسم رقم (5)؛ (ب)، لقطة للنقش الأكبر (الرقم 1)؛ (ج)، لقطة جزئية للعمود 1، والعمود 2(12-38)، من هذا النقش.

ثانياً، نسخ عن النقوش من 1 إلى 4.

ثالثاً، مخطوط من 6 صفحات يتضمن نسخاً من الصفحة 9 من تقرير شلومبرغر وصفحة من تقرير لينورمان المذكور.

رابعاً، نموذج على طريقة بوسكوينز Boscawens، "خريطة تخطيط لمعبر نهر الكلب" (Transactions of the Society of bibl. Archaeology Bd. 7)، رُسم عليها موضع نقوش نبوخذنصر كتابة .

وبالنتيجة ينقصنا نماذج النقش 2 و3 و5. ولكن استناداً لرأي هارتمن فإن النقشين 3 و5 غير مقروءين، والنقش 2 معروف وصفه من قبل لونورمان. لقد تم إعداد النسختين بعناية، ولكنهما تعانيان من قدمهما ومن فراغات عند الأطراف. بيد إننا توصلنا بفضل المقارنة المستمرة والتفصيلية بين الصور (ب) و(ج) من تفكيك أكيد لكل صف السطور والرموز المبعثرة.

13- النتائج

النقش الكبير (الرقم 1) أكثر اقتراباً في مضمونه مع نص نقش وادي بريصا. وذلك كالآتي:

نهر الكلب، العمود 1 يقابله في نقش وادي بريصا (البابلية الحديثة) العمود 4(49-70).

نهر الكلب، العمود 2 يقابله في نقش وادي بريصا (البابلية الحديثة) العمود 7(15...-50).

نهر الكلب، العمود 3 يقابله في نقش وادي بريصا (البابلية الحديثة) العمود 7(67)-8(25).

لا استطيع ادراج العمود رقم 4. ولا أستبعد توافقه مع نهاية العمود 8 وبداية العمود 9 في نقش البابلية الحديثة في وادي بريصا. لعل كل نقش نهر الكلب كان في السابق نسخة أخرى لنقش وادي بريصا، مع فروقات طفيفة، كما في الأعمدة الثلاثة الأولى.

النقش الكبير في نهر الكلب مكتوب باللغة البابلية القديمة، هذا ما نتعرف إليه من قطعة الرقم 4. ولكن البعض يميل إلى اعتباره من بقايا نقش بالبابلية الحديثة. وفي نفس الآن، ففي السطر الأول، كما سبق ولاحظ هارتمن، وهو أعلى سطر في العمود نقرأ فيه بوضوح كلمة şi-i-ri من البابلية الحديثة.

إن التشابه مع وادي بريصا مكتمل حتى نقطة تخليد الملك اسمه في الكتابة باللغة القديمة وباللغة الحديثة معاً. ولعله مما يستحق المحاولة البحث في صخور نهر الكلب عن بقايا نحت للتماثيل.

 

 

 

نقوش وادي بريصا من خلال الصور الجزئية

التي جاء بها ويسباخ

 

قسم اليسار من النقش بالبابلية القديمة

 

قسم الوسط من النقش بالبابلية القديمة

 

 

قسم اليمين من النقش بالبابلية القديمة

 

 

 

قسم اليسار من النقش بالبابلية الحديثة

 

 

 

قسم الوسط من النقش بالبابلية الحديثة

 

 

 

قسم اليمين من النقش بالبابلية الحديثة



[1] WEISSBACH (F. H.): Die Inschriften Nebukadnezar’s II im Wadi Bisa und am Nahr El-Kelb, Leipzig, 1906.

ملاحظة على سبيل التنبيه: لم يكن من السهل علينا التعاطي مع نص ألماني. ولم نتمكن من الاستعانة بمتطوع متمكن لترجمة نصوص ويسباخ. فانطلقنا من تجاوب مشكور لبعض الطلاب اللبنانيين الحديثي العهد باللغة الألمانية، والذين لا يتقنونها في غير مجالات العلوم الصحيحة، فقدموا لنا بعض المساهمات الجزئية والمتقطعة وغير الواثقة. فاستعنا مع ذلك ببعض مواقع الترجمة الفورية على الإنترنت. ومنها انطلقنا في ترجمة النص الألماني إلى الفرنسية، وأحياناً إلى الإنكليزية، ومن ذلك إلى العربية. ومن كل ذلك تمكنا من إخراج ترجمة نظنها مقبولة، ولا ندعي خلوها من الخطأ.

وهنا نكرر النداء لمتقني الألمانية بالمساهمة معنا والمساعدة في تعريب العديد من النصوص الألمانية المتعلقة ببلادنا، خصوصاً وأن الاستشراق الألماني لعله من أهم أنماط الاستشراق في مجالات لنا منها فائدة كبيرة. ونتوجه من الذين يطالعون نصنا هذا الإسراع في كشف عيوبه وسد ثغراته فنكون لهم على امتنان كبير (المترجم).

[2]  مع الاستعانة الجزئية بوصف كل من بونيون وهيلبرشت. vgl. §§ 3 und 4. D.O.-G. Inschriften vom Wadi Brisa.

[3] العبارة واردة بالعربية في النص الأصلي: ()، (المترجم).

[4] نفس الملاحظة السابقة: ()، (المترجم).

[5] نفس الملاحظة السابقة: ()، (المترجم).

[6]  E. RENAN, Mission de Phénicie, p. 117

[7]  أرسل رينان لوكروا، عنصراً من بعثته، إلى جوار الهرمل لمعاينة قاموع الهرمل، ولقد صعد في الجبل وسلك وادياً آخر (المترجم).

[8]  أول تقرير عن نقوش وادي بريصا وضعه مكتشفها في رسالته المقدمة إلى السيد باربييه مينار Barbier Maynard في كانون الأول 1883، راجع: Comtes rendus de l’Acad. Des inscr.,  IV, ser. II, 412

[9]  لم ينشر تقريره إلى الحكومة الفرنسية قبل العام 1888، في: Archives des missions scientifiqhes, III, ser. 14, 345

[10]  مجلة: Zeistschrift fur kirchliche Wissenschaft und, kirchliche leben, 1889, vol. X, pp, 490-497؛ وكذلك: The Sunday School Times, VOL. 31, P. 547. لم يتسنّ لي الحصول على هذه المجلة (المترجم).

 

[11] العبارة واردة بالعربية في النص الأصلي: ، (المترجم).

[12]  هو الأحد الذي يحتفل به المسيحيون بدخول المسيح إلى القدس حيث سيحكم عليه بالموت.

[13]  مساحة كل من النقشين التي التقطها بالصور السيد فون لوك، بناءً لطلبي، هي: 5.45م طول بارتفاع 2.20م للنقش بالبابلية القديمة، و5.40 طول بارتفاع 2.80م للنقش بالبابلية الحديثة.

[14]  لم يتردد ماسبيرو (Maspéro: Histoire ancienne des peuples de l’orient classique, t. 3, 1899, p. 543) في تفسير تمثال الكوة الغربية بأنه يمثل مشهد قتال بين نبوخذنصر والأسد، كما لاحظت لاحقاً.

[15]  أثناء إقامتي في وادي بريصا أخبرني سكان المنطقة أن تمثالاً لأسد موجود في جبال أكروم. ولأن المعلومات بدت على مبالغة كبيرة، لجهة القول أن التمثال يترافق مع نقوش كتابية، امتنعت عن القيام بزيارة لتلك المحلة. من الواضح أن المقصود هو صورة المشهد الذي زاره لامنس عام 1899 ومن بعده رونزفال عام 1902 والمنشورة في: Musée belge, 6, 37, 1902، وفي: Revue biblique, 12, 601, 1903. ولكن هذا النصب بالشخص الممثل في المشهد بقلنسوته الحادة وثوبه الطويل، والأسد يتقدم نحوه، لا يبدو لي أشورياً أو بابلياً، بل هو بالأحرى فينيقي محلي.

[16]  راجع: Brief vom 16. V 188I, Acadermy, 1881, I, 373.

[17]  Comptes rendus de l’Académie des inscriptions, IV. Série 10, 86.

 

د. جوزف عبدالله

back to Book