back to Book |
الفصل الرابع: الآثار البابلية
1- على سبيل المقدمة، حوار مع نبوخذنصر
2- من هو هنري بونيون Henri Pognon؟ تعريف بالكاتب والكتاب
3- تقرير بونيون
4- السياق التاريخي العام لوضع النقوش البابلية في وادي بريصا
5- النقوش البابلية في وادي بريصا: هنري بونيون
6- نصب السبع (وادي السبع، أكروم): هنري لامنس
7- ملاحظات في الأركيولوجيا الشرقية: سيباستْيّنْ رونزفال Sébastien Ronzevalle
8- شير الصنم، نصب بابلي جديد في عكار: موريس تالّون Maurice Tallon
9- النقوش البابلية في وادي بريصا: ستيفان لاندون Stephen Langdon
10- الترجمة الصوتية لنقوش وادي بريصا: ستيفان لاندون
11- نقوش نبوخذنصر الثاني في وادي بريصا ونهر الكلب: ويزباخ Weissbach (F. H.)
على سبيل المقدمة: حوار مع نبوخذنصر
- مَنْ؟ زائرٌ جديد؟
لا تبدو عليك سمات سائق شاحنة لنقل الرمل أو جرافة لاقتلاع الصخور. ولا أنت عامل "كسارة" لطحن هذه الصخور. لا تبدو عليك إمارات تاجر يبيع تاريخه المكتوب على صخور جباله. ولا أنت ممن أتقن الزراعة التقليدية الممنوعة والموعود بأوهام زراعة بديلة لا طائل خلفها. لا ولستَ مزارعاً، ولا أنت من الرعاة الذين يشقون لتحصيل لقمة العيش. فمن أنت؟ وماذا تفعل هنا؟ ألا تعرف أنك هنا في نطاق مثلث العظمة البابلية بين "وادي بريصا" و"وادي السبع" و"شير الصنم"؟ هنا أنت على مقربة من "ربلة" حيث مقر القيادة العامة لقوات نبوخنصر التي وحدت الشرق والغرب في العالم القديم؟
- فركت عيني جيداً، وبدأت أحدق حولي عَلّني أتبين مصدر الكلام الذي يأتيني كالهمس. لم أرَ أحداً. ولكن الصوت استمر يصلني حاملاً نفس الأسئلة.
- لن تُدركني مهما "بحلقت" بعينيك. أجِبْ على ما تسمعه. أرى بين يديك دفتراً، هو غير دفتر حسابات أصحاب المرامل والكسارات. فلماذا لا تفصح عن هويتك وغرضك؟ قد أفيدك بعض الشيء.
- قلت في سري: أنا باحث في التاريخ، في تاريخ المنطقة، تاريخ عكار وجوارها. وكأنه سمع ما قلته لنفسي بدون نطق، فشعرت به يقول:
- من أنت؟ عرفت. عرفتك. أنت باحث؟ ماذا قلت: باحث؟ لا، لا. أنت مجرد "متطفل" على العلوم التاريخية. ألم تسمع عن ابن خلدون كيف وصّف "التطفل على العلوم"؟
- يا سيدي أنا أحاول البحث في التاريخ. ولكن قُلْ لي مَن أنت؟ وكيف تُكلمني ولا أراكَ؟ ولا شأن لك بي وبكفاءتي في البحث.
- لا شأن لي بك؟ وما شأنك أنت بي حتى تهتم لأمري وتتحرى عني؟ أنا نبوخذنصر أيها الغبي. أنت تزعم البحث عن تاريخي، ومآثري، وتلاحق ما تركت لكم من آثار هنا وهناك. كنت مرتاحاً في قبري. وروحي تتنقل من مشارق الأرض إلى مغاربها داخل مملكتي. أنت الآن في أرضي. وتسألني ما شأني بكَ. ألا يكفيني ضجيج الجرافات والشاحنات والكسارات وتهديدكم الدائم لكل ما أورثتكم أياه من عظمة وخلود؟ ألا يكفيني هذا السعي المجنون لمحو روحي من الوجود التاريخي؟ ألا يكفيني أراكم أعجز عن فهم قيمة ما تركته لكم من ثروة تاريخية وأثرية يندر وجودها؟ ألا يكفيني... حتى تأتيني "متطفلاً" باسم باحث في التاريخ؟
لقد اكتشفني قبلك الفرنسي هنري بونيون. سُررت به يوم جاءني. صحيح أنه فرنسي غريب. ولكني سررت به. صحيح أنه جاء إلى "بلادنا"، إلى "بلادكم" مستعمراً لعيناً. ولكني سررت به في جانب من شخصيته: هو على معرفة من أمره، ومتعمق بلسانه وبلسان الآخرين. هو يفهم ما كتبته لكم هنا وهناك. وهو يُقِّدره أكثر منكم بكثير.
أنت باحث في التاريخ؟ كم لغة تعرف؟ هؤلاء المؤرخون الحاملون لما تسمونه شهادة الدكتوراه ماذا يفهمون من التاريخ؟ هل يتقنون المسمارية والهيروغليفية ولغات أجدادكم القدماء، ولغة اليونان والرومان وغيرها من لغات الشعوب التي عمّرت أو استعمرت هنا؟
أنتم مؤرخون حاملون لشهادة في التأريخ؟ ماذا تعلمتم؟ بوسع بونيون أن يزعم أنه مؤرخ. هل تعرف لماذا؟ المسمارية يعرفها، والسريانية والعبرية والتركية والفارسية واليونانية واللاتينية والعربية... أنتم حملة الشهادات الجامعية والعليا في التاريخ ماذا تعرفون؟ وأنت، أنت بالتحديد، ماذا تعرف من كل هذه اللغات؟ قل لي ماذا تعرف؟
- يا سيدي، أنت تقمعني بقسوة. لو تسمح لي بشيء من الهدوء وبقليل من صبرك عليّ. صحيح، أنا لست مؤرخاً. أنا أبحث عن حقيقة شعبي من خلال التاريخ. أنا أسأل من نحن بالأمس القديم والوسيط والقريب لأدرك حاضرنا وأتصور مستقبلنا.
نعم أنا لست على قامة بونيون ولاندون وويسباخ وغيرهم الكثير. ولكن ذلك لا يحرمني حقي بالسعي والاجتهاد. أنا أسعى إلى اكتساب معرفتهم بنا وتعميمها على أبناء شعبي. فهل في ذلك جرم وافتئات؟ لا أظنك ستمنعني عن المحاولة. أنا ارغب بحماية الإرث الذي تركته لنا. لا إرثك الأثري المادي في نقوشك ونصبك وعظمة ما خلفته فحسب. وهو عظيم. وإني أدرك أسفك وأنت تقول: ويل لشعب لا يحمي تراثه، بئس أمة "تطحن" ماضيها وتفتته بالكسارات لتبيعه مقابل حفنة من المال. هذا بينما محافظتها عليه تعود عليها بالوفير منه. وتعود بذلك على غالبيتها لا على مجرد قلة قليلة. نعم يا نبوخذنصر ويل لأمة دولتها وقادتها لا يعلمونها كيف تحافظ على عظمتها. نعم يا نبوخذنصر. أنت على حق. ولكننا لا نرى فيك مجرد إرث مادي تاريخي أثري. بل نراك أكثر من ذلك. نراك موحداً لشعوب منطقة أذلها تفتتها، وأذلها صهاينة أنت عرفتَ كيف تبدد شملهم. بينما لم يعرف قادة المنطقة اليوم غير الحفاظ على التفتت، وغير الخضوع بذل أمام "صدقيا" العصور الحديثة يمثله حكام الكيان الصهيوني الغاصب.
- كفى، كفى. إن كنتم تجهلون ماضيكم لهذه الدرجة، فلا بأس بالمحاولة. ولكن قل لي: هل أنت متمكن لنقل ما أنتجه من زارني سابقاً من أبناء "الغرب" الجائر. هل تتقن الفرنسية والإنكليزية والألمانية على الأقل؟ ولا تنسى ضرورة إتقانك اليونانية واللاتينية، وهل تتقن لغات أجدادك، كالسريانية مثلاً. أجِبْ.
- في الحقيقة، هذا الذي عدّدته كثير عليّ جداً. أنا أعرف من الفرنسية الراهنة ما يسعفني، ومن الإنكليزية "تلطيش"، ومن الألمانية وغيرها مما عدّدت لا شيء البتة. ولكني مصر على محاولة التعريف بتراثك الكبير بنقل ثمرة أبحاث الآخرين تعريباً "على قد الحال". وأخذت على نفسي التعريف بك من خلال التعريف بما خلفه لنا عنك بونيون ولاندون وويزباخ ولامنس ورونزفال وتالون. وأسأل أصحاب الكفاءة تصويب ما أخطأت فيه، والمساهمة بما لم أستطع الاقتراب منه. وأستميحك المعذرة والغفران على الإساءة إليك والتقصير بحقك.
- من ذكرت من الأسماء مدعاة ارتياح في درجة تكوينهم وكفاءتهم، ومدعاة قلق كبير في أدوارهم السياسية أو أدوار من يمثلون. ولكن، إذا كانت حالتكم لهذه الدرجة "بالويل"، كما تقولون، فلا بأس بالمحاولة. أما أنا فمن حقي النوم مجدداً رحمة بكبريائي، على أمل أن يستيقظ نبوخذنصر فيشهد مقاومين اعتبروا بماضيهم، فبنوا حاضرهم وأمنوا مستقبلهم.
جوزف عبدالله