back to Book

رحلة القس تومسن

من بيروت إلى حلب[1] في العام 1845

على سبيل التقديم: لعل هذا النص من أكثر ما قدمه الرحالة الغربيون من معطيات حول عكار التي تجول فيها القس تومسون (مبشر بروتستنتي في بيروت) من نهر البارد حيث عاين موقعه وجواره. ثم بلغ مدينة عرقا التاريخية ووصفها بشيء من التفصيل، وصعد من هناك ليقضي ليلته الأولى في بلدة جبرايل. ومن هناك مرّ في بيت ملات والعيون وبينو وقبولا، ليستضيفه بعد ذلك محمد بك (المرعبي) في بلدة البرج التي يسميها برج القريعيه. وبعد ذلك ينتقل إلى عيات حيث عاين موقعاً أثرياً فيه عجول نحاسية، ومنها إلى بلدة عكار فيصفها مستخلصاً مدى الدمار الذي لحق بها وبأهلها جراء إحراقها وتدميرها من قبل فخرالدين. وتابع رحلته شمالاً إلى بلدة القبيات التي اعتبرها بلدة متناثرة، فبات فيها ليلته على الرغم من موقف أهلها غير المرحِّب به، لكونه إنكليزياً وبروتستنتياً. ومنها انتقل إلى بلدة البيرة ليستضيفه هناك عبود بك (المرعبي)، الذي أرشده إلى موقع أثري تحت قصره فيه عجول نحاسية كالتي شاهدها في عيات، وليزوده بخيال ليرشده إلى الطريق ويقدم له الحماية كما فعل قريبه في البرج. ثم اجتاز عمار البيكات، فبلدة الشيخ عياش على النهر الكبير، ليتابع رحلته داخل سورية وصولاً إلى حلب.

تعود قيمة نص تومسون لكونه يقدم صورة عن التقسيم الإداري في عكار، والتنوع الديني، والتعايش بين الطوائف، وانعدام الأمن في الجرود العكارية، وطبيعة الاقطاع السائد في عكار، وعدد السكان التقريبي موزعين على الطوائف؛ فضلاً عما في المنطقة من حيوانات كالفهد والدب والضبع، تسرح في غاباتها الكثيفة والرائعة والتي يشهد بأنه لم يرَ مثيلها في رحلاته كلها.

لهذا النص قيمة أخرى في الجدل الذي دار قديماً وحديثاً حول "القليعات" (وصلتها بالقبيات) لجهة موقعها وطبيعتها (قرية أم قلعة)، سأستكمله في ثنايا الهوامش في هذا النص.

نُشر النص في مكانين وبلغتين. أولاً في العام 1848، باللغة الإنكليزية في: W. M. THOMSON: Bibliotheca sacra, VOL., 5, NO XVII, 1848,؛ ثانياً في العام 1854، باللغة الألمانية، بحرفها القديم في: Carl Ritter: Die Erdkunde von Asien, Band VIII Zweite Abcheilung, Die Sinai- Halbinsel, Palästina und Syrien, Dritter Abschnitt Syrien, Berlin, 1854.. تعتري النص الثاني أخطاء طباعية في بعض أسماء العلم، سنشير إلى ما يعنينا منها في حينه. وهو عبارة عن عرض مفصل للنص الأول. ولكن اعتماده من قبل البعض شكل مصدر تأويل والتباس من شأنه تحوير بعض الوقائع والمعطيات، لذلك من الضروري العودة إلى النص الأول، فهو أكثر أصالة ووضوحاً ومصداقية.

ترجمة نص القسّ و. م. تومسن W. M. Thomson

في السنوات القليلة الماضية تجول الرحالة الأوروبيون والأميركيون في شتى أنحاء فلسطين؛ ولقد نشرت بطرق متنوعة نتيجة اكتشافاتهم. ولكن شمالي سورية نادراً ما كان موضع اهتمام الرحالة، وبالتالي فمعرفتها محدودة نسبياً. لعل هذه الحقيقة تبرر أمام طلابنا المستشرقين نشر هذا المختصر لنتيجة تجوالنا هناك.

16 تشرين الأول 1845: غادرت بيروت في الثالثة من هذا اليوم في رحلة إلى حلب، برفقة نيوبولد Newbold، النقيب في "جهاز الهند الشرقية" East India service. بعد مسير نصف ساعة في البساتين الغنية بالتوت وصلنا إلى نهر بيروت- ماغوراس Magoras عند سترابون Strabo وبلين Pliny– واجتزناه على جسر حجري من سبعة قناطر...

18 تشرين الأول: غادرت البترون في الثالثة والنصف... ... بعد مسير خمس ساعات توقفنا لتناول الفطور في القلمون التي سماها سترابون كالوميس Kalumis. إنها الآن مدينة حديثة وصغيرة، ماؤها عذب وتحيطها البساتين الرائعة... استلزمنا بلوغ طرابلس من القلمون أكثر من ساعة بقليل... تضم طرابلس حوالي 13 ألف نسمة، ثلاثة أرباعهم من المسلمين والبقية من المسيحيين الأرثوذكس.

توجد، بالقرب من السفيرة في قضاء الضنية شرقي طرابلس، بقايا معبد يوناني. منها في جانب واحد ثلاثة أبواب، ارتفاع الوسطي منها يبلغ على الأقل خمسة وعشرون قدماً وعرضه ثمانية...

استناداً لسجلات دافعي الضريبة التي وضعها إبراهيم باشا يوجد في طرابلس والميناء 2167 من المسلمين، 925 من الأرثوذكس، 88 من الموارنة، 18 من اليهود. وإذا ما ضربنا مجموع دافعي الضرائب بخمسة يكون عدد سكان طرابلس 15963. لقد سبق وقدر بوركارد Burckhardt عدد سكان طرابلس بحوالي 15 ألف نسمة في العام 1812.

22 تشرين الأول: تركنا طرابلس في السابعة والثلث صباحاً، وتوقفنا في الثامنة لتفحص "ولي الدراويش" Wely of Dervîshes المعروف باسم "قبة البداوي" Kubet el-Bedawy؛ لم أكن قادراً على التحقق من مصدر الاسم إن كان مشتقاً من اسم "البدوي" الكاتب العربي المشهور في التشريع، أَو من اسم قدّيسِ مسلمِ عظيم. أبنية مقام الدراويش هذا البالية والمهدمة تقوم بجانب نبع تتجمع مياهه في حوض فيه الآلاف من نوع سمك أردوازي اللون، هو سمك مقدس يقوم الدراويش بإطعامه. لا يسمح بقتل هذا السمك، حتى الدراميش لا يحق لهم ذلك، والرويات الرائعة عنه واسعة الانتشار في كل البلد...

نصل بساعتين وربع من طرابلس إلى نهر البارد، هذا النهر الكبير الذي يهبط من المنحدر الشمالي للبنان. السهل مروي جيداً وهو خصب. ولكن السواقي التي تخترقه والقرى التي تزين المنحدرات الأولى للجبل لا تنطوي على أي قيمة تاريخية. بعد بضع دقائق جنوبي الجسر على النهر، ثمة أكمة ملفتة بآثارها القديمة للغاية على القمة. يسمونها برج حكمون اليهودي Burj Hakmone el-Yehûdy. لا أستطيع التحقق الآن من هوية حكمون اليهودي هذا. ولكن الآثار تبدو على الأرجح فينيقية أو يهودية، ومن بين المؤشرات التي تساعد في توضيح الأمر أن المملكة اليهودية تمددت في زمن قديم إلى هذا السهل وإلى قسم على الأقل من جبال النصيرية. بالقرب من هذا التل قبور تعود بشكلها إلى أزمنة قديمة جداً؛ وشمالي النهر، فوق الخان، توجد بقايا مدينة شاسعة. انتزعت حجارتها الكبيرة بمجملها ربما لبناء مدينة طرابلس وقلاعها. فالبقايا والفخاريات والآبار وتقطيع الصخور تشير إلى وجود هذه المدينة الكبيرة. ولعل اسمها – كل ما له علاقة بالاسم- مدفون في ظلمة العصور القديمة جداً[2]. البناء الوحيد الموجود هنا هو الخان القديم الذي يحمل اسم النهر، ولقد بناه السلطان مراد. وهو ككل الخانات العامة في سورية في حال من التقهقر التدريجي. يتحدث الجغرافيون العرب عن ثلاث قلاع قديمة في هذه الأنحاء، ولكنا لا نرى أثراً لها، أللهم إلا إذا كان الموضع المثير المعروف باسم بحنين هو أحدها، لأنه الوحيد القائم في السهل تحت بلدة المنية. لربما كان المقصود وجود قلعة حكمون، وأخرى القليعات Kulâât التي كانت قائمة في وسط جون عكار.

بعد 25 دقيقة من نهر البارد اتجهنا من شاطئ البحر إلى الشرق لزيارة آثار عرقة، عاصمة العرقيين، التي تبعد عن البحر مسافة خمسة أميال تقريباً. لاحظنا في الكثير من المواضع آثار الطريق الرومانية القديمة، حيث على طول هذه الطريق قاد تيتوس، منذ حوالي 18 قرناً فيالقه المظفرة بعد تدمير القدس، وهي تجر خلفها الأسرى اليهود؛ وفي معبد الزهرة Venus Achites الرائع (في عرقا) قدم هذا القائد المظفر تشكراته لدى عودته أمام الأعمدة المحطمة التي نوشك على رؤيتها. تعبر الطريق سهلاً جميلاً يصعد متدرجاً نحو الجبال الشرقية. وفي منتصف الطريق بين البحر والمدينة ثمة موقع مدافن قديمة يُسمى براجيَف[3] أو بوراجيَف B’ragief or Buragief، السهل خالٍ تماماً لا سكن فيه على مرآنا، باستثناء مخيم مؤقت للعرب. كم من التقلبات الهائلة شهدها هذا السهل!

عرقة Arca

كل شيء هنا مثير للأهتمام. النهر (الذي يجب أن يكون موضوعاً على خرائطنا بين نهر البارد ونهر عكار) ينحدر من التلال الشرقية قافزاً فوق الصخور وغائراً في الوهاد المظلمة بأسلوب فريد. أعمدة دعم الجسر عميقة تستند عليها قنطرة لا يقل عرضها عن عشرة أقدام. يقوم الجسر على قاعدة تل مرتفع تشكلت عليه القلعة، وعلى قمة التل يقوم معبد الزهرة المشهور. يبلغ إطار التل حوالي الميل، ويرتفع كالمخروط بعلو حوالي 200 قدم انطلاقاً من مجرى النهر. نصفه العلوي اصطناعي، أما النصف الآخر فهو من الصخر الصلب. يقوم المعبد في الجهة الجنوبية الشرقية حيث ينحدر الصخر عمودياً. الأعمدة مرمية على الأرض؛ أحصيت منها أربعة وستين عند أسفل الصخور، معظمها مكسور. وحوالي ثلثها من الغرانيت المصري، بينما الباقي رمادي اللون. لاحظت بين الأعمدة أحجاراً كبيرة وقديمة (فينيقية؟) مقطوعة بشكل منحرف ما يشكل العلامة الوحيدة على أصلها العرقي. كانت المدينة مبنية إلى الشرق والشمال والجهة الغربية من التل. الدمار شامل، والكثير من أعمدة الغرانيت مختلط بالركام والكلس. معظم حجارة البناء الكبيرة المعروفة بأنها من عرقة نُقلت منها، ما جعلها عبر العصور كمقلع لطرابلس. ولعل هذا هو مصدر الحجر المقطوع منحنياً الذي عُثر عليه في بعض قلاع طرابلس. وثمة تقليد يروي عن وجود ممر من قمة التل إلى النهر بالقرب من الجسر.

رأينا باب هذا الممر مقفلاً بحائط ضخم غير متقن، في المطحنة عند الجسر. وفي الأعلى مقابل الصخرة العمودية التي بني عليها المعبد، ثمة نفق أفقي يؤدي إلى تحت المعبد. ومن الواضح أن مجرى ماءٍ كان يجري في هذا النفق ويهبط على الأرجح عبر مركز التل حيث المعبد. كما أن القناة التي كانت تمد المعبد بالمياه من الجبال على مسافة ثلاث ساعات كان تمر بنفق محفور في الصخور أو على قناطر قائمة فوق الوديان، وذلك تبعاً لطبيعة المكان. مجرى الماء إلى الطاحونة على الجسر يمر عبر نفق في الصخر. وهو على الأرجح قديم ولم يكن في الأصل مخصصاً للطاحونة. ولقد أكد لي الكثير من الناس، ومنهم كاهن مسن جليل، أن النفق الذي يغذي القناة بالماء يستمر في الجبل لمسير نصف ساعة. لم أتمكن من زيارة هذا النبع الفريد، لأنه يقع خارج طريقنا.

تفحصت بعض الجرف الصخري على الجانب الجنوبي للنهر، فكان من الرمل الكلسي الأبيض يتكدس فيه الصدف الحديث المحفوظ تماماً كذلك الذي نراه على شاطئ البحر. جمعت الكثير من نماذجه...

تضم القرية الراهنة 21 عائلة أرثوذكسية وسبع عائلات مسلمة؛ إنها مزرعة بائسة تقوم بين أعمدة مدينة كانت ذات مرة رائعة.

قمنا بجولة لساعتين ونصف في الجبال انتهت بنا في جبرايل حيث قضينا ليلتنا. وبينما السهل خالٍ من القرى، فالجبال عامرة بها حيث يختلط السكان من المسلمين Moslems (يقصد السنة) والمتاولة Mettawalies والروم Greeks والموارنة Maronites. الطريق التي سلكناها بترابها الصلصالي تشرف على رؤية جميلة تضم الجبل والوادي والسهل والبحر. وفي الساعة الأخيرة اجتزنا العديد من الحواجز (الطبيعية) والوديان والطبقات الكلسية والصلصالية، وتعرجات متنوعة.

28 تشرين الأول: غادرنا جبرايل Jibraîl مع شروق الشمس. نجتاز الآن منطقة بنوعية جديدة من التربة. لم يسبق لأهل هذه البلدة أن شاهدواً فرنجياً من قبل، وكانوا فضوليين جداً ووقحين لدرجة ألزمتنا على استعمال الكرباج corbej لإبعادهم عن خيمتنا، حتى نتمكن من الخلود إلى النوم. بعد نصف ساعة من جبرايل وصلنا إلى قرية بيت ملات Beit Millat- موارنة؛ بعد 10 دقائق أخرى دخلنا العيون el-Aiyune، حيث توجد مطحنة؛ وبالقرب منها بلدة أرثوذكسية اسمها بينو Bainow. ومنها بسبع دقائق وصلنا إلى قبولا Cubbûla المظللة بالأشجار، فضلاً عن سحر منظرها العام. بلغنا برج القريعيه Burj el-Kuraiyeh بعد 12 دقيقة، حيث يوجد قصر محمد بك Muhammed Beg، الحاكم، المتولي على هذا القضاء. وهو من عائلة مرعب Miriab، العائلة الاقطاعية العريقة والقوية. جده علي باشا المشهور في كل هذه المناطق بحروبه وأعماله وحكمته. عبرنا القصر بدون أي مراسم؛ ولكن لحق بنا خيال مع أمر بالعودة للتعبير عن احترامنا إلى زعيمه البك. شكل ذلك إثارة كبيرة، ولكن بعد مجادلة لوقت ما قبلنا الدعوة، وما كان لنا في النهاية ما نأسف عليه. لقد استقبلنا البك بكل احترام، وقاموا بلعب الجريد لتسليتنا، وقدموا لنا الفطور، وبعد إلحاحه علينا، بلا جدوى، لقضاء اليوم بضيافته، أرسل معنا خيالاً ليرشدنا ويقدم الحماية لنا حتى عكار. ولولا ذلك لكنا ضللنا طريقنا عشرين مرة، وربما تعرضنا للسرقة. ثمة فكرة غير متناسبة مع البلد، وهي أننا كنا سنلج إلى السكان الأكثر وحشية.

بعد 10 دقائق من القريعيه وصلنا إلى عيات Aiyât حيث توجد آثار معبد من الطراز القديم، يُعرف باسم مار مانوس[4] Mar Manos، أعمدته مربعة ومجهولة العصر والطراز. لقد أكد لنا مرشدنا (وهو ضابط محترم عند البك) أنه كثيراً ما وُجدت العجول النحاسية بين هذه الخرائب. وفي شبابه شاهدها لعدة مرات، ومن وصفه لها كانت شبيهة تماماً بالعجول التي عُثر عليها في لبنان، والتي تفحصت شخصياً واحداً منها. هذا يُثبت بأن هذه العجول ليست أصناماً للدروز. من عيات صعدنا، خلال ساعة، جبلاً اجتيازه صعب، وعند قمته المعروفة باسم الضهر Dahar وتل القوس Tel el-Kous، أخذنا الصلات الآتية: طرابلس النقطة 842، جزيرة النخل 92، أرواد 145. وإلى الشمال الشرقي يتبين لنا بصعوبة في البعيد تلة مبهمة اعتبرها دليلنا حماة، إنها تحتل النقطة 48. المنظر من موقعنا رائع وشاسع، يبدأ من لبنان الشمالي فطرابلس، وبعيداً إلى الجنوب- ساحل أرواد وطرطوس، وقبرص في الأفق- وجبال النصيرية والتلال نحو حمص وحماة. عكار، وهي موضوع بحثنا تقبع في أسفل الممر إلى الشرق مباشرة منا، وعلى مسافة ساعة. الانحدار نحو عكار مشهد جميل بالصنوبر وغيره من الأشجار. ولكن المكاري وبّخنا بأننا أتينا به إلى مكان لا يمكنه العودة منه وبغاله حية، ونحن بدورنا ذكّرناه بأنه خدعنا من قبل عندما أعلمنا أنه يعرف المكان جيداً، ويمكنه أن يقودنا إليه.

تُعرف آثار (عكار) باسم المدينة el-Medîneh، على سبيل التقدير لها. تقع هذه الآثار على المنحدر الشمالي الغربي لتل حاد، وهي في حال من عدم الوضوح، لأن الأشواك والورد البري والأشجار تغطيه. إنها آثار حديثة. وجدت التأريخ 720 على مسجد قديم هو على أي حال قد كان كنيسة قبل تحويله إلى جامع منذ 542 سنة. حيطان العديد من القصور والقلاع المتينة البنية ما تزال قائمة؛ ولكن الأحجار، على أية حال، لَيست كبيرةَ، وليس هناك أعمدة. أبرز ما فيها القصر المعروف باسم التكية et-Tekîyeh. عالي المدخل، ومبني من الحجر المنحوت والكلس. بعض هذه القصور مغطى بعباءة من نبات اللبلاب الذي لم أرَ مثله أبداً. إن أشجار الجوز الكبيرة والسنديان وغيرها، مع شبكة لا يمكن اختراقها من العليق والشجيرات والعنب البري تحجب هذه الآثار عن الملاحظ البعيد، وتجعل الزائر مندهشاً وحائراً في معرفة طريقه كأنه في دهليز متعرج وضيق من الممرات الذاهبة في كل الاتجاهات في هذه التلة البرية.

تنتصب القلعة على صخرة وعرة الانحدار جنوبي المدينة، بحيث تنفصل عنها بوادٍ سحيق. ترتفع الصخرة عمودياً إلى مستوى عالٍ، وتشكل الأبراج وحائط مكمل لدائرة الموقع دفاعات القلعة. وهي تشكل مشهداً رائعاً؛ والوصول إليها كأنه دخول في بطن الجبال عبر هذا الوادي المظلم والمخيف. وإذا أخذنا المشهد بمجمله – جرد عكار بغاباته المعتمة، والمجرى المخيف لنهر عكار الذي تغذيه ماءة من الجداول التي تأتيه عبر دهاليز الصخور وعبر نباتات كثيفة وغضة، والوحشة التامة لهذه الآثار، الملاذ المناسب للبوم والمخلوقات الحزينة- نعم ، إذا أخذنا المشهد بمجمله، فإني لم أرى ما يعادل عكار في جميع حالات تجوالي في هذا العالم الغريب. ولكنها برية جداً، وقاسية للغاية، هي جنة اللصوص وقطاع الطرق، ولعلي أول من قام بزيارتها.

لطالما كانت عكار محكومة من أمراء بيت سيفا، هذه العائلة المنقرضة الآن. ويشير التقليد في كل لبنان إلى أن فخر الدين المشهور هو الذي قضى على هذه المدينة وهذه العائلة. ولكن مجد هذا الزعيم الدرزي الذي ذاع صيته لا يطابق أمير عكار الذي تزوج بأخت فخر الدين...

غادر فخر الدين عكار غاضباً وأقسم اليمين بأنه سيبني قصره في دير القمر من أفضل حجارة عكار[5]. ولقد تم، كما يُقال، تنفيذ هذا التهديد جزئياً بتدمير المدينة. والبعض من أحجار التكية موجود في أحد قصور دير القمر. ولقد أخبرنا مرشدنا بأن أمير عكار تمرد على الحكومة، فسار إليه جيشان، واحد آتياً من بعلبك عبر الجبل، والآخر صعد إليه من طرابلس. وهكذا تم شن الهجوم، فذبح السكان واحترقت المدينة. ولربما كان الأمير فخر الدين مع أحد الجيشين المهاجمين. الناجون هربوا إلى طرابلس، ولقد التقيت بتاجر مسلم عاش أجداده في عكار وما يزال محتفظاً بأوراق ملكية عائلته منذ مئات السنين. وفي الوقت الحالي ليس هناك مالك لهذه الأراضي؛ ومن يرغب باستثمارها يقوم بذلك مقابل دفع الضرائب إلى محمد بك في القريعيه. تقتصر القرية اليوم على حوالي ثلاثين بيتاً متواضعاً (أكواخ). والسكان غير مستقرين. فيها الآن ثلاث عوائل من الروم، إثنان من الموارنة، وحوالي العشرين من المسلمين (السنة) والمتاولة. وخلال سنة قادمة ربما لا يبقى فيها أحد، أو لربما ازداد عدد ساكنيها[6].

إن العديد من الجداول التي تنحدر مسرعة من سفوح الجرد المتقطع تتوحد تحت القلعة في نهر عكار الذي يحفر بصعوبة مجراه حتى السهل باتجاه الشمال الغربي وصولاً إلى البحر. إن طبقات الأرض على طول مجرى النهر اختلطت ببعضها بشكل كبير، لسبب واضح يكمن في اندفاع المياه بطاقة هائلة لا تقاس... الجبال المجاورة وتلك إلى الجنوب تعرف باسم جرد عكارJeord Akkar. وهي ترتفع متعرجة، وصعبة المسك للغاية، حتى القمم المكللة بالثلوج فوق الأرز، وتكسوها الغابات حيث تكثر الخنازير البرية والضباع والدببة والفهود.

في القبيات[7]

تركنا عكار باتجاه الشمال تقريباً لنصل بعد ساعتين إلى قرية مبعثرة، قليعات Cûlaiât (أي القبيات)، وقد تهشمت وجوهنا وأيدينا بالأشواك، وثيابنا ممزقة، وكنّا منهكين من التسلق على الصخور وعلى الخرائب[8]. يوجد هنا الكثير من خرائب الكنائس، بعضها تاريخه عريق يعود إلى عصور المسيحية الأولى. فاجأنا أهل هذا الموضع المنعزل بقولهم لنا: نحن كلنا فرنسيون، وبما أننا إنكليز وبروتستانت رفضوا بيعنا الطعام لنا أو لدوابنا. ولكن لغز المفاجأة زال بظهور كاهن يسوعي استقر مؤخراً بينهم[9]. بيد أن هذا الرجل المحترم قد لا يكون المسؤول لوحده عن فظاظتهم، فهم كفلاحين موارنة فقراء لديهم الكفاية من القساوة تجاه البروتستانت بدون أي أيعاز خارجي[10].

24 تشرين الأول: تركنا مخيمنا مع شروق الشمس، وبعد 45 دقيقة وصلنا إلى قليعات العتيقة old Culaiyat (أي القبيات العتيقة)، المبنية بالبازلت الأسود، وهي في الغالب خراب[11]. الساقية في وادي القليعات[12] Culaiyat (أي القبيات) تصب في نهر عكار. صعدنا من القرية القديمة تلاً عالياً حاداً باتجاه شمالي- غربي، والماء على شمالي هذا التل يمر في النهر الكبير N. Kebeer. سلكنا منحدراً قاسياً على الصخور البركانية فأدى بنا في 25 دقيقة إلى البيره Beri. هذه القرية هي عاصمة الناحية المسماة دريب Draib، والحاكم فيها عبود بك Abood Beg من عائلة مرعب Miriab. أخبرني البك بأن القصر يقع في موضع آثار قد تكون لدير قديم. وفي محاولة لرفع بعض الأنقاض في المكان عُثر على قنطرة فيها بقايا متنوعة ومنها عجول من النحاس كتلك التي عُثر عليها في مار مانوس[13] Mar Manos قرب عيات Aiyât. لقد حصلنا على هذه المعلومات صدفة وليس بنتيجة تحقيقنا، وبالتالي تستحق التصديق. ويظهر أن عبادة العجل سادت في جميع أنحاء هذه الجبال.

زودنا البك بخيال ليرشدنا ويحمينا في رحلتنا إلى صافيتا. ولكنه فاجأنا بان جعلنا نسير ساعتين ونصف باتجاه الغرب تقريباً، بينما قلعة صافيتا تبدو للعين المجردة إلى الشمال. وكان طريقنا نزولاً مستمراً بين أكوام الحجارة المتراكمة على مدّ النظر، وفي كل الاتجاهات. وفيها ينمو بلوط مغضن قصير وسميك. هذه الأراضي الواسعة الغنية بالبلوط تشكل الميزة الرئيسية للمنظر الطبيعي، وهي تمتد من الاتجاه الجنوبي الغربي إلى الاتجاه الشمالي الشرقي على مدى عشرين أو ثلاثين ميلاً. في عمار البيكات Amar Beg-kat التي وصلناها بعد مسير ساعة ونصف، شاهدت عدة مقابر من البازلت تستعمل اليوم كآنية للشرب عند النبع. هبطنا من هذا الموضع تلة قاسية الانحداربين الصخور، ثم أعقبها نزلتين مماثلتين فبلغنا النهر الكبير عند الجسر المدعو جسر الشيخ عياش Sheikh Aiyash أو الجسر الجديد Jedeed. وكان قد بناه علي باشا من بيت مرعب، المتوفي قبل 17 عاماً. إنه بناء ممتاز بقنطرة كبيرة، وعليه تمر الطريق الكبرى من حماة إلى طرابلس. لقد كنا ملزمين على اتباع الوجهة الغربية كل هذه المسافة لتفادي الوديان السحيقة الهابطة عمودياً التي تقطع البلاد من الشرق إلى الغرب، وحيث لا يمكن عبورها. وعبر هذه الوديان السحيقة يشق النهر طريقه إلى السهل. يشكل النهر الكبير (إلوتيروس Eleutherus عند اليونان) الحدود الشمالية لناحية الدريب. وجنوبيه تقع ناحية جونيا Junia أو جومه Jumeh، التي يحكمها محمد بك، وثمة ناحية ثالثة أبعد إلى الجنوب باسم قيطع Kaîteh and Kaitah، وهي أيضاً تحت حكم مصطفى بك- الجميع من عائلة مرعب. تشكل هذه النواحي الثلاث عكار، وفيها على العموم 141 قرية، 1415 دافع ضريبة من المسلمين Moslems (Mettawalies)، و710 من النصيرية، 1775 من الروم، و910 من الموارنة. وإذا ضربنا مجموعهم أي 4810 بخمسة نحصل على عدد السكان 24050. الحكام جميعهم الملتزمون Mettawallies، أما الشعب فهو أقنانهم، والكل يقدم صورة كاملة عن الاقطاع القديم الذي نراه في البلاد بكل رونقها الذي يشكل واجهة للفقر.

اتجهنا من الجسر الجديد نحو الشرق والشمال، فدخلنا سهلاً خصباً، وبعد نصف ساعة عبرنا جدولاً كبيراً اسمه مشاهير Mshahîr، في قرية باسم مديليه Medhĕleh، حيث رأينا مخيماً للعرب من غير الرحل، وبقربه تلة عريضة باسم الجاموس Jamûs. تشير مديليه إلى الحد الغربي لناحية الشعره es-Shaarah الممتدة شرقاً إلى تلة الحصن. بعد نصف ساعة أخرى عبرنا رافداً آخر للنهر الكبير باسم نهر تل الخليفة Nahr Tel el-Khalîfeh، على مقربة منه تقح القرية النصيرية أرزونه Arzuneh. ومن هناك إلى الشمال وصلنا في 25 دقيقة إلى نهر العروس N. Arûs. الرافد الأخير للنهر الكبير هو الذي سماه جوزيفوس النهر السبتي Sabbatic river of Josephus، والذي ينبع تحت دير مار جرجس، من نبع عظيم ينقطع، والمعروف باسم نبع الفوار[14] Nebâ el-Fuâr. كل هذه الجداول هي روافد للنهر الكبير، وكلها موضوعة بشكل خاطئ على الخريطة التي بمتناولي...

 

قليعات أم قبيات؟

كيف ورد اسم قليعات في النصين المنسوبين إلى القس تومسون؟

ورد اسم القليعات (القبيات) في النص الإنكليزي (الأصلي) لتومسون، في مرجعه: Bibliotheca sacra, vol., 5, NO XVII, 1848 ثلاث مرات في صفحة واحدة (ص 21)، وذلك على الشكل الآتي: 1- قليعات Cûlaiât، 2- قليعات العتيقة old Culaiyat، 3- وقليعات Culaiyat. يختلف الشكل الأول عن الشكلين الأخيرين بأن الأول يشدد في حركة الحرف (û) والحرف (â) الأخير. بينما يغيب التشديد في الشكلين الأخيرين.

في النص الألماني[15] الذي وضعه كارل ريتر في: Carl Ritter: Die Erdkunde von Asien, Band VIII Zweite Abcheilung, Die Sinai- Halbinsel, Palästina und Syrien, Dritter Abschnitt Syrien, Berlin, 1854 ورد اسم قليعات أربع مرات، واحدة في الصفحة 816، وثلاثة في الصفحة 817، وذلك على الشكل الآتي مع صورته المنقولة عن الأصل الألماني: 1- قليعات Kûlaiât (816) ، 2- قليعات Kulaiât (817) ، 3- قليعات العتيقة Alt- Kulaiât (817) ، 4- قليعات Kuleiât (817) . هنا تختلف صيغة المرة الأولى بتشديدها حركة الحرف (û) علاوة على الحرف (â) الأخير الوارد في الضيغ الثلاث الأخيرة، بعكس الحرف (û) غير المشدد في الصيغ الثلاث الباقية؛ ولكن الصيغة الأخيرة استبدلت أول حرف (a) بالحرف (e). قليعات في النص الإنكليزي تبدأ بالحرف (C) بينما تبدأ في النص الألماني بالحرف (K). نستطيع القول أن جملة هذه الفوارق تعود لأخطاء مطبعية، خصوصاً في النص الألماني، بما فيها استبدال الحرف الإنكليزي الأول (C) بالحرف (K) في النص الألماني، مع ان الألمانية لا يعوزها هذا الحرف الذي يبدأ به اسم كارل ريتر ، إلاّ إذا كان الناشر استنسب التغيير لسبب يروقه ولم يُفصح عنه.

ولكن جميع حالات كتابة الاسم هنا تجمع على الحرف (L) في وسط الكلمة. ما يعني أن تومسون هو الذي كتب اسم قليعات عندما وصل إلى القبيات، واسم قليعات العتيقة عندما غادرها. هل سمع تومسون الاسم من الناس، من اهل البلدة أو الجوار؟ أمر مثل هذا مستبعد بالمطلق. فلو أن الناس كانت تسمي بلدتها القبيات باسم القليعات لبقي هذا الاسم حياً إلى اليوم. فالعام 1845، تاريخ زيارة تومسون إلى البلدة وقضاؤه ليلة في ربوعها ليس من "عمر الملح". والذاكرة الجماعية كفيلة بالحفاظ عليه واستحضاره عند الضرورة. لا شك عندنا أن تومسون أخطأ في كتابة اسم قبيات فوضع مكانها قليعات، ولربما حصل الخطأ أثناء الطباعة. ولو أن موضع القبيات سُمي له باسم قليعات لكان ذلك لفت نظره لأنه دون اسم موضع القليعات Kulâât في سهل عكار قبل يومين من وصوله إلى البلدة. لا شك عندنا في خطأ كتابي ارتكبه تومسون أو في الخطأ المطبعي.

كما أن قرية قليعات واردة بجانب موقع قلعة القليعات في مسرد المواضع العكارية الذي وضعه إيلي سميث، في العام 1845، حيث جاء فيه: القليعات el-Kulei’at، وخربة القليعات Khirbet el- Kulei’at يقيم فيها عرب، في سهل عكار. بالإضافة إلى ورود اسم القبيات في سياق ذكر مواضع جوارها[16].

ولكن الذاكرة المكتوبة أيضاً تؤكد ان الموضع الذي سماه تومسون قليعات هو قبيات. ففي عريضة مقدمة قبل أكثر من خمس سنوات على زيارة تومسون، في 25 تشرين الثاني 1840، رفع أهالي القبيات عريضة إلى "البادري اغناطيوس وكيل عام المرسلين الكرملتانيين" في روما يرجونه فيها إبقاء "البادري اليشع كرملتاني" في القبيات، وكانت موقعة كالآتي: "راجين الدعا اهالي قريت القبيات في بلاد عكار"[17]. ولقد اعتمد الآباء الكرمليون اسم البلدة القبيات في العام 1836، ففي النبذة التاريخية الموضوعة من قبلهم حول تاريخ إرساليتهم إلى المنطقة يرد بوضوح أنهم أسسوا ديراً في القبيات[18]. هذا فضلاً عن أن اسم القبيات وارد قبل ذلك التاريخ بكثير في السجلات العثمانية[19] منذ إحصاء العام 1519.

ماكس فان برشم Max van Berchem وإسم وموقع القليعات Villa Coliath؟

كان ماكس فان برشم أول من أثار إشكالاً حول هذا الموضع، وربط بين اسم القبيات والقليعات. فخصص في الجزء الأول من مؤلفه Voyage en Syrie لحصن القليعات الصفحات من رقم 131 حتى 135. وأشار إلى الصعوبات في وضع تاريخ هذا الحصن. من هذه الصعوبات يعتبر أن إسم الحصن بالذات، القليعات، لا يسهل البحث. لماذا؟ لأنه توجد في سورية عدة حصون من الدرجة الثانية، جاءت تحت اسم الجنس (لا اسم العلم) "قلعة" "qal´a" (حصن) أو "قليعة" "qulai´a"، حصن صغير، "petite forteresse, fortin". صحيح أنه في حالتنا هنا يأتي الاسم بصيغة الجمع al-qulai´āt  الحصون الصغيرة les fortins  ([20]). هنا يحيلنا برشم إلى حاشية رقم 3، يقول فيها: "هل تعكس هذه الصيغة وجود عدة مواقع هي، من الأصل، منفصلة عن بعضها؟ إن موقع الحصن المكون من تلة منخفضة، وبشكل موحّد، لا يتناسب مع هذه الفرضية. ولعله ليس لصيغة الجمع من غرض غير تمييز هذا الحصن عن غيره من الحصون التي تحمل نفس الاسم بصيغة المفرد"([21]).

ويضيف برشم: "يرد اسم Coliat(h)، كموضع، في الهبات التي قدمها كونت طرابلس، بونز Pons، إلى فرسان الاسبتارية، في 8 شباط 1128، وفيها، هذا الموضع عبارة عن قرية أو مزرعة Villa، لا كحصن. وفي العام 1153 نجده أيضاً في الممتلكات التي يثبتها البابا لهؤلاء الفرسان. وفي هذين المصدرين يظهر السياق العام أن المقصود هو القليعات el-Qlē´āt. ولكننا لسنا واثقين من ذلك تماماً. فعلى مسافة ساعتين إلى الشمال من بلدة عكار… هناك بلدة مزدوجة اسمها قبيات Qubai´at ([22]). ورد هذا الاسم مكتوباً Koubayat  وVieux Koubayat في خارطة جليس Gelis، و Kubajat و Alt Kubajat في خارطة بلانكنورن Blanekenhorn، وkoubaiyat في رحلة دوسو Dussaud الذي مرَّ فيها آتياً من عكار. ويتابع برشم: "أما في رحلة تومسون Thomson، فإن هذا الإسم يرد بشكل Qulai´at؛ وفضلا عن ذلك ثمة تفصيل مثير للغرابة، إذ يقدم السكان أنفسهم للرحالة الأميركي بانهم من أحفاد الفرنجة، وهذا ما يدل على أن القرية قد لعبت دوراً ما في زمن الصليبيين"([23]).

مع نص برشم هذا بدأ الالتباس منطلقاً مما جاء عند تومسون، أي من هذا الخطا الكتابي أو الطباعي، بكل بساطة. وهنا أخطأ برشم في تفسير ما قاله تومسون، فأهل القبيات قالوا بوضوح أنهم فرنسيون لا فرنجة (فالإنكليز فرنجة)؛ وأوضح تومسون أن موقفهم جاء رداً على كونه بروتستنتياً وإنكليزياً، وربطه جزئياً بوجود كاهن يسوعي (هو في تقديرنا كرملي على الأرجح). يعني ذلك أن موقفهم لا علاقة له أو لدورهم في الحروب الصليبية، بل هو مرتبط في الصراع بين القناصل الأوروبيين، وفي التعبئة المتسعة بوجه البروتستنتية.

أمر آخر كان على برشم تجاوزه، كان عليه العودة إلى النص الإنكليزي لطومسون، لا الاكتفاء بما جاء عند كارل ريتر في: Die Erdkunde, XVII, p. 816 et 817.

انطلاقاً من تركيز برشم على ما جاء عند تومسون، طرح د. سيزار موراني إشكالية العلاقة بين قلعة القليعات، وقرية القليعات، وزعم أن هناك إصراراً على المماثلة بينهما من قبل الباحثين. واقترح أن قرية القليعات قائمة في موقع بلدة القبيات ولكن الناسخ الغربي أخطأ في كتابة حرف (b) فكتب مكانه حرف (l)، ما جعل اسم قبيات يبدو قليعات. نظرية خرقاء. ننصحه بقراءة إيلي سميث في المرجع المذكور، وبالعودة إلى جان مسكي Jean Mesqui: Forteresses Médiévales au Proche-Orient، حيث يقول أن القليعات كانت في زمن الهبة (1125-1127) قرية تحولت مع الاسبتارية إلى قلعة: “village de Qûleiî’at/ Coliath, qui fut plus tard le site d’un château Hospitalier”. ومن ناحية أخرى، من المعروف أن قليعات واردة في سجل الضرائب العثمانية منذ العام 1571، كقرية في ناحية عرقا[24].

  



[1] المرجع: W. M. THOMSON: Bibliotheca sacra, VOL., 5, NO XVII, 1848, “Tour from Beirût to Aleppo”, pp. 1- 23; NO XVIII, pp. 243-262.  – سبق للقس تومسون أن نشر خلاصة رحلة مماثلة قام بها في العام 1840 في: Missionary Herald, 1841, p. 28 et suiv.. ولكنها اقتصرت جداً حول عكار بمجرد ذكرها وتوسعت في الساحل السوري، أرواد، طرطوس... ندين للصديق الأستاذ خالد أبو حيط بشكر عميق على تطوعه بترجة هذا النص (المترجم).

[2] ألا تشير هذه الآثار إلى موقع أرطوسية Orthosia القديم؟ يضع جدول بتنجر هذه المدينة على مسافة 12 ميلاً رومانياً من مدينة طرابلس، وعلى مسافة ثلاثين من أنتارادوس (طرطوس)، وهذا ما يتفق تماماً تقريباً مع هذا الموضع. ولغة سترابون في هذا الموضوع غير محددة. ويجعلها Synecdemus of Hierocles شمالي عرقة، ولكن مصداقيته لا تجاري دقة الجداول. (ناشرو النص الأصلي).

[3] لم استطع التحقق من هذا الموقع؛ ربما يستلزم الأمر مزيداً من البحث عنه، هل من صلة مع برقايل؟ (المترجم).

[4] راجع لاحقاً حاشية حول الخطأ المطبعي في كتابة اسم هذا الموقع، في النص الألماني.

[5] يقول فخر الدين في ردة شهيرة حول هذه المناسبة : نحنا كبار وبعيون الأعادي زغار، انتو خشب حور ونحنا للخشب منشار، وحق طيبة وزمزم والنبي المختار، ما بعمّر الدير إلاّ من حجر عكّار. (المترجم).

[6] يطرح ما يرويه طومسون عن حال بلدة عكار بعد مرور أكثر من قرنين على قيام فخر الدين بتدميرها وتشتيت أهلها، في معرض قضائه على سلطة آل سيفا، سؤالاً حول جذرية التدمير وهوله. كما يطرح سؤالاً آخر حول قصور السلطات العكارية في حينه في إعادة إعمار المنطقة التي بعد أن كانت بلدة عكار، عاصمتها، عامرة هي وجوارها بالطبع، أصبحت يقتصر ساكنوها بعد قرنين على تدميرها على حوالي ثلاثين عائلة فقط. ويعني ذلك من ضمن ما يعنيه أن مجتمع عكار العتيقة وجوارها (ومن ضمنه القبيات) مجتمع حديث نسبياً، أي مجتمع تجدد بعيد العام 1845. ولربما هنا نجد تفسير صفة "العتيقة" الملازمة لبلدتي عكار والقبيات.

[7] هذا العنوان الفرعي من وضعنا (المترجم).

[8] من الواضح أن تومسون سلك ممراً غير معتمد، أو هو على الأقل هو ممر غير صالح للانتقال من بلدة عكار إلى القبيات. أم لعل تدمير وحرق عكار على يد فخر الدين أدى إلى تدمير القبيات أيضاً، وبالتالي اندثرت مع الزمن الطريق الواصلة بين الموضعين، وضاعت معالمها. أو أن الأمر أكثر بساطة: ضل الأب تومسون الطريق فسار خبط عشواء في مناطق صعبة المرور.

[9] منذ منتصف الثلاثينيات والآباء الكرمليون مستقرون في القبيات. فمن أين أتى هذا الأب اليسوعي؟ هل صدفت زيارة هذا الأب اليسوعي في لحظة وصول القس تومسون؟ أم أن هذا القس خلط بين الأب اليسوعي والأب الكرملي؟ أم هي لحظة في محاولة من اليسوعيين للإقامة في القبيات؟

[10] لطالما كان التنافس بين قناصل الدول وإرسالياتها التبشيرية على أشده في لبنان خصوصاً وفي سورية عموماً، ومن أخص أشكاله التنافس بين الكاثوليك والبروتستانت، كانعكاس للمنافسة بين إنكلترا وفرنسا. يذكر ما قاله تومسون هنا بما قاله بعده بأكثر من نصف قرن رفيق التميمي ومحمد بهجت، مؤلفا كتاب "ولاية بيروت" الصادر عام 1916، عن مطبعة الولاية، في جزئه الثاني: "يُعثر في "منياره" و"القبيات" على بضعة أشخاص يتذرعون بمصاهرة بعض الأجنبيين ويتأكون على قدرتهم..." (ص 282)، أو ما هو أهم: "أما السكان المسيحيون في عكار، فقد أضلتهم تلقينات الرهبان..." (ص 285). (المترجم).

[11] لربما لحقها الدمار إثر تهديم بلدة عكار على يد فخر الدين.

[12] من الملاحظ أن اسم قليعات يرد ثلاث مرات بصيغتين مختلفتين، وفي الألمانية يرد بصيغ ثلاث مختلفة. سنعالج اسم قليعات في نهاية نص تومسون، محاولين معرفة السبب في عدم استعماله اسم القبيات. (المترجم).

[13] في حاشية سابقة عند ورود اسم مار مانوس، قلنا أننا سنعود إلى هذا الاسم. في النص الألماني يرد الاسم مرتين: أولاً، ص 814، فيأتي على صيغة Mar Maros، وهذه صورته من النص الألماني ، وفي الصفحة 817 عل صيغة Mar Marôn،  وهذه صيغته بالألمانية مع اسم بلدة عيات . من الواضح أن الاسم مكتوب بشكلين مختلفين. بينما يرد الاسم مرتين باللغة الإنكليزية في ص 18 و20 وبصيغة واحدة  Mar Manos، . ما يعني أن الاسم الفعلي هو مار مانوس. (المترجم).

[14] تقدم السيد تومسون Thomson بتقرير حول هذا النبع في: Silliman’s Journal of Science, nov. 1846. EDS..

[15] تجدر الإشارة إلى ما قاله رينيه دوسو: "نحن لا نعرف (تومسون) إلاّ من خلال المقاطع التي نشرها عنه ك. ريتر في Erdkunde"، في مقدمة مؤلفه: Histoire et religion des Nosairîs, paris, 1900, p. XXIX

[16] راجع: E. Robinson and E. Smith: Biblical Researches…, vol. III, 1841. راجع أيضاً على موقع القبيات على الإنترنت، تحت عنوان منتخبات التواريخ والآثار...: "عكار منذ حوالي القرنين".

[17] زودنا بنسخة مصورة عن هذه الوثيقة الأب الكرملي أوغسطين شدياق، من القبيات.

[18] "بناءً لالتماس من البطريرطية المارونية افتتح آباؤنا مقراً في منطقة عكار، في القبيات. كانت القبيات في حينه قرية صغيرة من 800 نسمة، وكان عموم أهلها تقريباً من المسيحيين المنشقين، فاستطاع آباؤنا في قلة من السنين إعادتهم جميعاُ إلى الإيمان الكاثوليكي؛ ولم تتوقف هذه العملية على سنوات التأسيس الأولى بل استمرت لفترة أطول تعيد إلى حضن الكنيسة العائلات المنشقة التي كانت تأتي إلى عكار لزراعة التوت...". المرجع: La missione Carmelitana in Siria، المصدر موقع القبيات على الإنترنت، الرابط: http://www.kobayat.org/data/religious_life/ex_religious/benedetto/benedetto.htm. ننصح د. فؤاد سلوم بقراءة هذه الوثيقة على ضوء مقولته: "القبيات مارونية أصلاً واستمراراً"، اللهم إلاً إذا كان أكثر مصداقية، كيلا نقول صدقاً، من وثائق ومراجع الرهبنة الكرملية بالذات!

[19] عبدالله، جوزف: تحقيقات في تاريخ عكار والقبيات، مكتبة السائح، طرابلس، 200، ص 141-145.

[20]-  راجع:  Berchem et Fatio, Voyage en Syrie, Mémoires publiés par les menbres de I.F.A.O. du Caire, t.1, 1914, p. 132

[21] -  المرجع السابق، ص  132، حاشية 3.

[22] -  المرجع السابق، ص 133.

[23] -  يحيلنا برشم هنا في الحاشية 5 ص 133 إلى مرجعه: RITTER, Erdkunde, XVII, p. 816 et suiv.  وفيه كُتب الاسم Kulaiât  و Alt Kulaiât . إن وجود القبيات العتيقة Vieux Qubai΄āt   (أو Qubai´āt )، التي سجل تومسون آثارها البازلتية، يؤدي إلى نفس الاستنتاج.

[24] خليفة، عصام: الضرائب العثمانية في القرن السادس عشر، بيروت، 2000، ص 93.

 

د. جوزف عبدالله

 

back to Book