back to Book |
رحلة ريشارد بوكوك
الكاتب والكتاب
ريشار بوكوك Richard Pockocke (1704- 1765) أسقف إنكليزي من مدينة ساوثمتون Southampton. بعد أن تلقى تعليماً تقليدياً وحصّل إلماماً بعدة لغات شرقية، حصل على شهادة الدكتوراه عام 1733.
أمضى الكثير من حياته في الرحلات. ففي العام 1733- 1734 زار فرنسا وإيطاليا. وفي العام 1736 ذهب في بعثة إلى الشرق. ووصل إلى الإسكندرية في أيلول من العام 1737، وفي 11 ت2 وصل إلى القاهرة. ثم انتقل إلى فلسطين فوصل إلى يافا في 14 آذار 1738، ومن هناك انتقل إلى القدس، ثم قام بزيارة معظم مناطق فلسطين. وانتقل بعدها بحراً إلى صور وصيدا وجبل لبنان، وقام باستكشاف بعلبك، وبعدها زار دمشق وحلب. وزار أنطاكية ومنها اتجه بمحازاة الساحل حتى طرابلس. وفي 25 ت1 أبحر إلى قبرص، ومن هناك قام بزيارة أهم المدن اليونانية، ليعود إلى إنكلترا عام 1741. نشر بعد سنتين بالإنكليزية مجلداً ضمنه خلاصة مشاهداته مع جملة من الخرائط واللوحات، بعنوان وصف الشرق وبعض البلاد الأخرى، وأتبعه بمجلدين شبيهين. وفي العام 1772-1773 نشرت معطياته عن رحلاته بالفرنسية مترجمة عن الإنكليزية في سبعة مجلدات بعنوان "رحلات ريشار بوكوك في الشرق: مصر والعربية وفلسطين وسورية واليونان وتراقيا وغيرها، وما تضمنته من وصف دقيق للشرق وعدة بلدان أخرى، كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبولونيا وهنغاريا وغيرها؛ بالإضافة إلى ملاحظات هامة عن كل بلد في ما خص التقاليد والعادات والأديان والقوانين والحكم والفنون والعلوم والتجارة والجغرافية والتاريخ الطبيعي والحضاري، وبالتالي حول كل ما هو مثير في الطبيعة والفنون". والنصوص المترجمة أدناه مأخوذة من الجزء الرابع من هذه الترجمة الفرنسية[1].
الفصل الخامس والعشرون
حول اللاذقية Latichée (المسماة قديماً Laodicée)
وجبلة Jébilée (المسماة قديماً Gabala)
(ص 88) بنى اللاذقية Laodicée، المسماة اليوم Latichée، سلوقوس الأول Seleucus I، ملك سورية، الذي بنى أيضاً أنطاكية وسلوقيا Seleucie وأفاميا Apamée. وسماها اللاذقية Laodicée على اسم أمه. وهي تقع على شاطئ البحر في سهل لم يفقد شيئاً من خصوبته التاريخية. كانت هذه المنطقة مشهورة بخمورها التي تصدرها إلى (ص 89) الإسكندرية في مصر، وكانت الكروم تغطي كل الجبال الواقعة غربيها[2]. وفيها نجد نوعاً من الخراف بأربعة قرون، اثنان يتجهان إلى الأعلى واثنان إلى الأسفل. ونرى جنوبي المدينة الحديثة على بعض التلال الأسوار التي كانت على الأرجح قائمة هناك؛ واستناداً لما نعثر عليه في الحقول والبساتين من القرميد والرخام، واستناداً لقرب المرفأ، من السهل الحكم بأن أحياءها الأساسية كانت هناك...
(ص 94) انطلقنا في 15 ت1 باتجاه الجنوب، لنسير بالقرب من البحر، وعندما ابتعدنا حوالي ميلين عن المدينة وصلنا إلى نهر باسم النهر الكبير Nahr-Gibere، كان ضيق المجرى ولكنه عميق. يبعد الجسر حوالي ميلين عن البحر، ولكن بدا لي أن الطريق القديمة والجسر القديم كانا أقرب إلى البحر في السابق. ولقد عملت على تفحص آثار الجسر حيث عثرت نقش غير كامل. ويُقال أن هذا النهر يخرج منبعه من جبال الشغل Shogle، ولعله من المرجح أن المياه كانت تصل إلى اللاذقية عبر قناة ما تزال بقاياها ظاهرة، ولقد بناها هيرودس Herode على الأرجح[3]. ورأيت في البعيد على الطريق إلى حلب قرية باسم يوحنا Johan، وآثار كنيسة رائعة كانت مكرسة لمار يوحنا. وصلنا إلى نهر اسمه نهر شوبر (جوبر) Nahr-Shobar، ومعناه نهر الصنوبر؛ وهناك قدم لي ألإنكليز (ص 95) الذي رافقوني من اللاذقية طعام الغداء. وبعد أن استأذنتهم تابعت سيري، وما أن وصلت إلى جبلة Jebilée، المسماة قديماً Gabala، حتى عملت على الإقامة عند الآغا Aga...
(ص 97)
الفصل السادس والعشرون
حول بانياس Balanea القديمة وقلعة المرقب Merkab
وطرطوس Tortosa وجزيرة أرواد Aradus
غادرنا جبلة في 17 (ت1) واجتزنا النهر المسمى باسمها، وقطعنا نهراً آخر بعد قليل من الوقت، وبعد نصف ساعة خيَّمنا عند نهر ثالث باسم كانيرك Kanierck. ونرى على شاطئ البحر مرتفعاً كان عليه على الأرجح مدينة صغيرة. يبعد نهر السن Sin الصغير مسير حوالي ساعتين عن جبلة؛ وهو يدير مطحنة كبيرة تُعرف باسم طاحونة الملك Tahouna-el-Melec... ورأيت على الجهة المقابلة بعض الآثار جعلتني (ص 98) افترض أن پالتوس Paltos كانت في هذا الموضع؛ وعلمت في حينه أن موضعها يُسمى بولدو Boldo، وان المدينة القديمة كانت مدمرة تماماً، وأنه لم يبقَ منها غير مطحنة قديمة، ما جعلني أعتقد أنه نفس الموضع الذي ذكرته للتو. كما أن سولوقيا بيلوم Seleucia ad Belum كانت بالضبط على نفس المستوى ولا بد بالتالي أنها كانت إلى الشرق. وعلى بعد بضعة أميال إلى الشرق من نهر السن تبدأ سلسلة من الجبال تتجه إلى الشرق ومن ثم إلى الجنوب. تقع قرية سارّ Sarr إلى الغرب على شاطئ البحر. وفيها رأيت بعض الأبنية القائمة، ولكني لم أتمكن من معرفة ما إذا كان يوجد في جوارها قدر من الدواثر لأقتنع أنها هي سلوقيا القديمة؛ ولكني علمت فقط أن مترجماُ إنكليزياً قد عثر في هذه الجبال، على مسير يومين من طرابلس، على بقايا معبد وعلى نقش يوناني؛ وبما أن المسافة هي نفسها بالتمام، فمن المحتمل جداً أن سلوقيا بيلوم قد كانت في هذا الموضع.
بلغنا بمدى (ص 99) نهر حنشون Henshoun، وبعد نصف ساعة نهر جوبا Joba، ومن هناك بانياس Baneas البعيدة عنه مسير ساعة؛ وهي على الأرجح بالانيا القديمة Balanea ولكنها اليوم خاوية. وكانت في العصور القديمة الوسطى معروفة باسم فالانيا Valania. وهي تقع على مرتفع في سفح جبل ينتهي في البحر، ويحيطها شمالاً وجنوباً خندق يفصلها عن الجبل؛ كما كانت محصنة بسور بسماكة ثلاثة أقدام ما زالت بعض بقاياه صامدة في ثلاثة مواضع منه. وبدا لي أن المدينة كانت قليلة الأهمية؛ وما نزال نرى إلى الشرق منها بقايا كنيسة صغيرة لعلها كانت كاتدرائية الأسقف المقيم فيها؛ وفي أسفل الجبل إلى الجنوب، ثمة خليج صغير وحصن لتحصيل المكوس؛ وفي الوادي جنوبي المدينة القديمة يجري نهر يُسمى نهر بانياس، وهو على الأرجح المُسمى نهر فالانيا في العصور الوسطى. وفي شرقي المدينة نحو قمة الجبل هناك آثار قلعة (ص 100) أسوارها صلبة للغاية؛ وقيل لي أنها كانت سابقاً مقر حكام هذه المناطق قبل استقرارهم في قلعة المرقب Merkab. وهذه القلعة تقع جنوبي بانياس، والوصول إليها وعر للغاية واستلزم منّا مسير ساعة ونصف.
يبلغ محيط قلعة المرقب حوالي ميل ونصف، بما في ذلك قمة الجبل. وهي على هيئة مثلث ومتينة للغاية. وتبلغ سماكة أسوارها الداخلية خمسة عشرة قدماً؛ بالإضافة إلى سور خارجي يحيطها بمجملها تقريباً... ويروي السكان أن التقليد يخبرهم أن الفرنجة هم الذين بنوها... أن أجدادكم هم الذين بنوها- هكذا أخبرنا الحاكم- ونحن انتزعناها منهم (ص 101) بحد السيف؛ ولعمري هذا صحيح- أجبته- ولكن لماذا تتركونها تقع خراباً؟...
نزلنا من قلعة المرقب وتابعنا طرقنا، وبعد مسير سبعة أو ثمانية أميال صادفنا نهراً باسم مرقية Merkeia، وبقربه تل يُسمى تل الحيّات Telchiate (ضفة الحيّات rive des serpents): ما يدعو للظن أنه هنا كان موضع (ص 102) موتاتيو ماراكياس Mutatio Maraceas التي تجعلها الرحلة إلى القدس itinéraire de Jérusalem على مسافة ميلين من بانياس. وثمة قرية في الجبال تُدعى مرقية Merakea. ومن المحتمل أن هذا اسم الجبال وأنه استناداً إليها استمدت قلعة المرقب اسمها. ومعظم الجبال هذه يقطنه موارنة. رأينا قرية باسم بزاق Bezac، وعلى الشاطئ برجاً قديماً يُدعى برج ناصب Bourge Nasib. وبعد ساعة اجتزنا نهر حَصَيْن Hassein، ولما استلمنا الطريق الأساسية وصلنا في مدى ساعة إلى طرطوس Tortosa التي يسميها البعض أرطوسية Orthosia: ولكنه من بالغ الصعوبة تعيين موضع هذه المدينة.
يبدو أن هذه المدينة بُنيت حوالي القرن الخامس أو السادس. وهي على شاطئ البحر، ويبلغ محيطها حوالي ثلاثة أرباع الميل...
(ص 103) يقع الموضع الذي ترسو فيه السفن الآتية من جزيرة أرواد على حوالي نصف ميل شمالي طرطوس. وما تزال مرئية فيه آثار رصيف: ولكن من الجلي أن مرفأ رسو السفن كان بين الجزيرة واليابسة، كما هي حاله اليوم. وسواء صَحّ الأمر أم لا، فمن المؤكد أن كارانوس Caranus (ص 104) مرفأ أرواد كانت متصلة اليابسة[4].
ومن هناك انتقلت إلى أرواد (رواد Ruad) المسماة قديما أرادوس Aradus، وهي مجرد جزيرة تغطيها الصخور.
يقول اسطرابون أنها كانت واقعة بين ماراتوس Marathus ومرفأ كارانوس. وهي على مسافة ميلين جنوبي هذا المرفأ، ويُقدّر محيطها بحوالي سبع مراحل[5]. ثمة من يزعم أن بعض الصيدونيين المنفيين من بلادهم بنوا هذه المدينة. وبدأ يحكمها أمراؤهم، ليخضعوا لاحقاً إلى نفس مصير سورية. ولقد تدبر ملوك سورية أمرهم فحصلوا على امتياز حماية من يلجأ إليهم، ما جذب إليهم الكثير من السكان. ولقد ازداد عدد سكان الجزيرة (ص 105) كثيراً ما اضطرهم إلى بناء منازلهم من عدة طوابق، وإلى التوسع على اليابسة من جبلة حتى أرطوسية[6] Orthosie ونهر إلوتيروس Eleutherus...
الفصل السابع والعشرون
من طرطوس إلى ماراتوس
وغيرها من المواضع التي نصادفها على الطريق إلى طرابلس
(ص 107) غادرنا طرطوس، ولما وصلنا على مسافة ميل منها إلى الجنوب، بلغنا مجرى نهر جاف. ثمة جسر فوق المجرى بثلاث أو أربع قناطر، وهو على مرحلة غربي الطريق. في جنوبه ربوة أعتقد أنها تضم آثار أبنية ما جعلني أعتقد أنها كانت أنتارادوس (طرطوس) القديمة، مع أنها أبعد من الجزيرة إلى الشمال. ولكن وضع النهر وبجواره مرفأ صغير أقنعني بأنها في هذا الموضع. وعلى بعد منها غربي غابة مقابل طرطوس يوجد بالقرب من الشاطئ تلة صغيرة مبحصة تؤدي إلى وادٍ ضيق بين الصخور، وحيث تمر الطريق هناك قناة صغيرة كانت (ص 108) جافة؛ تحت التلة نبع يُسمى عين الحية Ein-el-Hye تجري مياهها في قناة مغطاة من الجانبين؛ لعلها إنيدرا Enydra التي وضعها سترابون شمالي ماراتوس، وحيث كان أهل أرواد Aradus يتزودون بالمياه التي يحتاجونها. تحت النبع مطحنة، وجنوب الوادي يوجد فناء محفور في الصخر، مع أريكة في وسط كل جانب منه. الفناء مقفل باستثناء جانب الشمال حيث يوجد مدخلان؛ وتتكون الأريكة من أربعة أحجار بدون القاعدة، ويشكل مسندها واحد من الحجارة الأربعة، وحجر آخر المقعد، والحجران الباقيان يشكلان الجوانب. المقعد مزين بإفريز شبيه بما نراه في مصر العليا. ويبدو أنه كان يوجد في زاويتي الفناء منزل صغير أبوابه منحوتة في الصخر، وهي ما تزال قائمة. ومن المرجح أن الأريكة كانت مخصصة للصنم الذي كان معبوداً في هذا المعبد. وإني لأظن أنه من الصعب العثور على نصب أقدم منه وعلى هذه الدرجة من الروعة. في الجانب الآخر من الوادي (ص 109) باتجاه الشرق يوجد نوع من الخندق المحفور في الصخر بطول يبلغ حوالي المرحلة، وله سبع درجات من كل جهة لا تبلغ القعر، ويبدو أنها تنتهي لجهة الشرق بشكل نصف دائرة. الصخرة القائمة على الطرف الغربي منحوتة بشكل يوحي أنه كان هناك في ما مضى بعض المنازل في ذلك الموضع؛ وقسم منها يشكل نوعاً من فناء مربع؛ ولقد تم شق طريق للانتقال بين هذا الفناء والمعبد الذي تحدثت عنه. كان هذا الموضع على الأرجح مدرجاً اعتاد سكان أرواد وطرطوس وماراتوس الاجتماع فيه لإحياء احتفالات الأعياد. ومباشرة جنوبي الفناء أو المعبد تمت تسوية الصخر المشرف عليه وتم حفره في بعض المواضع لجعله نوعاً من الخزانات؛ كما نرى أيضاً العديد من الأسوار المحفورة في الصخر، ومن بينها منزل كامل حُفرت فيه كوات وأبواب ونوافذ، وحائط يقسمه في وسطه. وعلى مسافة ميل إلى الجنوب توجد الأضرحة التي ترك لنا موندريل (ص 110) مخططها. عدنا من هناك إلى الطريق الأساسي الذي يبعد حوالي مرحلة إلى الغرب؛ وبعد أن سرنا ما يعادل نصف ميل عثرت وسط غابة على نصب استحال عليّ الاقتراب منه بسبب كثافة الدغل والعليق المحيط به. وإلى الشرق من هناك صخرة تم تحويلها إلى قاعدة من تسعة أقدام ارتفاعها ومن حوالي 28 قدماً مساحتها، مع ثقب في واجهتها الشرقية بعلو خمسة أقدام، وحيث نصعد إليه بثلاث أو أربع درجات؛ من المرجح أن تكون قاعدة قبر ما. ومن المعتاد إقامة مثل هذه النصب على المغاور التي يُدفن فيها الموتى. قد يكون الموقع الذي أتحدث عنه مقبرة لأهل أرواد، مع العلم أن هذه المدينة هي جنوبي الجزيرة. ولكن من الممكن أنهم كانوا ينقلون موتاهم إلى اليابسة، كما كان أهل ديلوس Delos ينقلون موتاهم إلى جزيرة مخصصة لهذا الغرض.
دخلنا سهلاً فسيحاً يسميه الفرنجة سهل جونيه، وهو يمتد حتى النهر البارد القريب من طرابلس. (ص 111) تحده من الشرق جبال أظنها جبل برجيلوس Bargylus الذي اعتبره بلين[7] Pline يبدأ مباشرة حيث ينتهي جبل لبنان، مضيفاً أن السهول تفصل بينهما؛ ولاحظت أني أرى من موضعي كل البلاد في شمال لبنان والممتدة حتى بحيرة العاصي قرب حمص Hems، وكذلك تلك الممتدة حتى تدمر. وعندما أصبحت شمالي السهل قيل لي أنها صافيتا، لأن الجبال الكائنة في الشرق لا تسمح للنظر بتجاوز هذه الحدود. ولا حظت عندما دخلت السهل من الشرق، بالقرب من الجبال بناءً ضخماً وإلى الأبعد بعض الآثار على تل، وبقايا برج. قد تكون تلك هي ماراتوس Marathus لأن هذا الموضع على مسافة 7 أميال من طرطوس، وليست بالأحرى موتاتيو سبيكلين Mutatio-Spiclin التي يجعلها خط سير الرحلة إلى القدس Itinéraire de Jerusalem على مسافة 12 ميلاً من طرطوس. صادفنا على مسافة فرسخين إلى الجنوب نهراً يُسمى نهر الأبش Nar-Abash، الذي لا يعدو (ص 112) كونه جدولاً صغيراً. وقيل لي أن ثمة جسراً إلى الغرب. وبما أن الجبال هنا أدنى ارتفاعاً من غيرها فلقد اكتشفنا بعدها سلسلة من الجبال تمتد جنوباً حتى لبنان تقريباً. وبعد أن مشينا حوالي الساعة تركنا الطريق الأساسية، ووصلنا في نفس الفترة الزمنية إلى مخيم للعرب يُسمى سيموهيا Simohea، خيمه بمعظمها من القصب.
وصلنا في 20 إلى الطريق الأساسية، النهر الكبير Nar-Gibere الذي اعتبرته هو إلوتيروس Eleutherus الذي يشكل الحدود بين فينيقيا وكاسيوتيس دو سلوقيا Cassiotis de Seleucie. ليس من السهل تعيين موضع إلوتيروس الذي يشكل حدود فينيقيا من الشمال، لأن خط سير الرحلة إلى القدس، بعد أن يتحدث عن بانياس، يذكر حدود سورية المجوفة (البقاع) وفينيقيا، قبل أن يقول شيئاً عن ماراكاس Marraccas وطرطوس، ما يسمح بالظن أن إلوتيروس كان شمالي كارانوس Caranus. يضع بطليموس Ptolomée، بالعكس، طرطوس في كازيوتيد فينيقيا Casiotide de Phœnicie، وسيميرا Simyra وأرطوسية Arthosia (ص 113) بين طرطوس وطرابلس، مع تعيين ارتفاعات مغلوطة. ليست أرطوسية في الجداول على غير مسافة 12 ميلاً من طرابلس، وهذه هي المسافة التي ينسبها خط سير الرحلة إلى القدس إلى بروتوس Brutus. أما استرابون Strabon الآتي من الشمال إلى الجنوب فإنه وضع إلوتيروس تحت أرطوسية، وخط سير الرحلة جعل فينيقيا تبدأ جنوبي عرقة Arcas. بينما جعل بطليموس أرطوسية وسيميرا (التي هي شمالي أرطوسية) في فينيقيا؛ وبالتالي ليس هناك غير خط سير الرحلة إلى القدس الذي يخالف الثلاثة الآخرين. وعلى العموم، بما أن خط سير الرحلة واسترابون يضعان إلوتيروس جنوبي عرقة وأرطوسية، فإننا نميل إلى اعتباره النهر البارد، لولا أن بطليموس لا يقول العكس. لذلك أعتبر أن النهر الكبير هو إلوتيروس القديم، وهو نهر عميق يصلح لأن يشكل الحدود بين المنطقتين. وبما أن السيد موندريل Maundrel لا يتفق معي حول ما قلته في موضوع النهرين الكائنين بين طرطوس وطرابلس، وجدت لزاماً عليّ الاستعلام بعناية حول اسمهما ووضعهما. وإذا صرفت النظر عن أخطاء بطليموس بتعيين الارتفاعات، فإني اعتبر أن سيميرا[8] (ص 114) كانت على هذا النهر لجهة الجنوب، بل بالقرب من مصبه، ومن المحتمل أن سيموهيا احتفظت بشيء من اسمها. ويُظن أنها تاكسيميرا Taxymira سترابون التي يضعها قبل أرطوسية وإلوتيروس، لأن طريقته كانت بالمجيء من الشمال إلى الجنوب؛ ولكني أفضل العودة إلى بطليموس. وقد يكون من المرجح أن موتاتيو بازيليكوم الوادرة في خط سير الرحلة إلى القدس واقعة على هذا النهر، وفي موضع الطريق.
يقع نهر عكار Accar على مسافة فرسخ إلى الجنوب. وهنا يُمكن أن تكون أرطوسية، المدينة الفينيقية الساحلية. علمت أن ثمة اسم يشبهها في سجلات الضرائب العائدة للسلطنة، ولكني لم أتمكن من معرفة موقعها. كانت عرقة Arcas تقع على نهر عرقة Arka، وعلى الأرجح على مسافة نصف فرسخ جنوبي نهر عكار. وكانت مجرد خان، لا عرقة Arca المدينة الفينيقية، الواقعة في الجبال حيث يمر هذا النهر. يجعل خط سير الرحلة فينيقيا تبدأ تحت عرقة[9] Arcas، أو بين عرقة وطرابلس. نجد على مسافة فرسخين من هناك، في زاوية (ص 115) الخليج جدولاً يمر مجراه في وادٍ مزروع بأشجار التوت. لعل بروتوس Bruttus هناك، أو على النهر البارد الواقع على مسافة فرسخ إلى الشمال، مع أن هذا الكلام لا يطابق أبداً المسافات التي تقدم بها المؤلفون القدماء[10].
الفصل الثامن والعشرون
التاريخ الطبيعي، الحكم، تقليد سكان سورية
... ...
(ص 118) الحيوانات المفترسة اليوم (في سورية) أقل مما كانت عليه في الماضي، فلم يعد فيها أسود، والقليل من النمور الموجودة في البلاد تقبع في الجبال. ولكن تكثر فيها الضباع والثعالب[11] والغزلان[12] والخنازير البرية. يربي السكان فصيلة حسنة من الخيول المنقرضة. وعندهم نوعان من الجال، جمل الصحراء العربية الواسع الانتشار، ونوع آخر يستخدمه التركمان. هذا الأخير أقوى ولكنه كريه المنظر. رأيت الحباري بين حلب والفرات،. وهي طيور ضخمة للغاية. قيل لي أنها تحط (ص 119) في الربيع على الأشجار، وتغرق بالتغريد بحيث يُمكن اصطيادها بلا أدنى عناء. نجد في نواحي حلب نوعاً جميلاً للغاية من طائر الكركي الذي يسميه الأوروبيون الطائر الراقص. كما نجد البجع حول الأنهار والينابيع.
سورية، خصوصاً الشمالية، مسكونة بأقوام متعددة. وهذا البلد الذي استمر بأيدي خلفاء (النبي) محمد لا يعرف لغة غير العربية، باستثناء مناطق شمالي حلب حيث يهيمن التركمان والأكراد، وحيث يتحدثون التركية. الأكراد يتحدثون التركية أيضاً، مع أن لهم لغتهم الخاصة. لا نجد العرب أبداً في هذه النواحي، بل الكرد فقط الذين أتوا من كردستان على بحر قزوين. وهم أسوأ من العرب، ولكنهم جبناء بطبعهم؛ ولهذا لا يهاجمون السواح إلاّ متى شعروا أن لهم الغلبة. وهم أسياد قسم كبير من جبل طوروس... (ص 120) ينتمي التركمان إلى نفس أرومة العثمانيين، وهم مثلهم أتوا من تركمانستان على بحر قزوين. وهم فرعان بعضهم حضر يعيشون تحت الخيام أو في القرى، يمارسون الزراعة وتربية الحيوان. وخيامهم كروية عادة ومصنوعة من القصب مع غطاء خفيف صيفاً. وفي الشتاء يغطونها بنوع من اللباد للحماية من المطر. ويعملون في حياكة السجاد غير المتقن. التركمان الآخرون، يُسمونهم بغدلية Begdelis، يركبون الخيل ويعيشون تحت الخيام، ولا يتعاطون لا الزراعة ولا تربية الحيوان. وبينهم نوع من التحالف ويعيشون من اللصوصية، وأحياناً يحتشدون بعدد يتجاوز الألف، فيفرضون الخوة على القرى بذريعة حمايتها. وحيث يكون هؤلاء أسياد الموقف (ص 121) فأفضل ما يفعله الرحالة أن يضع نفسه بحماية أحد من هؤلاء اللصوص، لأنهم يقيمون بين بعضهم نوعاً من المحالفة؛ وجميعهم يحترمون حق الضيافة. يشكل الرشوانية Rushowans صنف آخر من التركمان الذين ينتقلون شتاءً مع حيواناتهم من أرضروم عند منابع الفرات ويخيمون جنوبي دمشق، ويعودون صيفاً مع قافة حلب. ولقد سافرت مع بعضهم، فبدوا لي قوماً من الشرفاء. يعيش الشنغاني Chingani المنتشرون في كل مكان، خصوصاً شمالي حلب، والذن يبدون مسلمين، تحت الخيام، وفي مغاور تحت الأرض أحياناً. يشتغلون بحياكة السجاد المخصص لتغطية السرج، ويتاجرون بالحيوانات عندما يكونون بجوار المدن...
(ص 122) ثمة فرق متعددة بين المسلمين، منهم من سأتحدث عنهم الآن. النصيرية Noceres الذين يقيمون خصوصاً شمالي اللاذقية، يبدو دينهم من بقايا الوثنية. يحتقرهم الأتراك كثيراً، ما جعلهم يفضلون العيش مع المسيحيين... ربما أنهم يتحدرون من قوم نازِريني Nazerini الذي ذكره بلين[13] Pline، وقال أن نهر مرسياس Marsyas يفصلهم عن إقليم أفاميا. أما قوم جاسادس Jasades فكل ما يمكننا (ص 123) قوله أنه يبدو أنهم يعبدون الشيطان، ويرون أن أكبر تحد يوجه إليهم عندما يتم الحديث عن الشيطان باحتقار؛ ويبدون الكثير من الصداقة تجاه الإفرنجي الذي إذا شاء بلوغ مراده مدح الشيطان. وهم يقيمون في مناطق في شمالي سورية...
مسيحيو سورية هم من الروم على العموم ويرتبطون ببطريرك أنطاكية المقيم في دمشق. كنيستهم في حال بائسة ناجمة عن سوء سلوكهم. وبما ان كهنتهم يمارسون التجارة، ويحبون الرفاهية فهم يبلصون الرعية قدر استطاعتهم، كما أن الأغنياء من جهتهم يستغلون الفقراء؛ باختصار يمتازون بكل عيوب الأتراك، وهم قليلو التمسك بإيمانهم فيزعمون أنهم مسلمون للخلاص من القرع بالعصا، او للانتقام من خصومهم. الموارنة المقيمون في جبل لبنان وفي المرافئ محترمون على العموم. ثمة بعض الأرمن جنوبي حلب؛ ولكن كل مسيحيي شمالي سورية هم من هذه الجماعة. جميعهم تقريباً يمارسون التجارة. وهم شجعان ومثابرون ومحنكون وفي غاية التهذيب؛ ولكنهم يشتركون في عيب مع الشرقيين هو الكذب والبخل. بين المسيحيين بعض السريان أو اليعاقبة، غالبيتهم يتركون قراهم في الصيف ويعيشون تحت الخيام...
[1] المرجع: Voyages de Richard Pockocke en Orient…, Chapitre XXV, XXVI, XXVII et XXVIII: traduit de l’anglais sur la seconde édition, tome quatrième, Paris, 1772; (Chapitres XXV, XXVI, XXVII et XXVIII: pp. 88-125).
[2] Stabo, XVI, p. 751.
[3] Josephus, de bello Jud. I, 21.
[4] Strabo, XVI, 753.
[5] Strabo, ibid. Oppida, Simyra, Marathus, contraque Arados, septem stadiorum oppidum, et insula, ducentos passus a continente distans. Plin. Hist. V. 17.- يُخطئ بلين في تقدير المسافة التي يعتبرها 200 قدم، بينما يؤكد اسطرابون أنها كانت بعيدة عشرين مرحلة عن اليابسة.
[6] لعل المقصود طرطوس Tortosa، لا أرطوسية Orthosie قرب النهر البارد (المترجم)
[7] Pline, Hist. nat. V. 17..
[8] يكتب بوكوك هذا الاسم بطريقتين مختلفتين: Simyra و Symira، (المترجم).
[9] يكتب بوكوك اسم عرقة بثلاث صيغ: Arcas, Arka, Arca؛ فما الحكمة؟ يبدو أنه لم يزرها. كيف ميز بين عرقة المدينة وعرقة الخان؟ وما يتقدم به حول سهل عكار (جون) لا يوحي بأنه زار المنطقة، وتنقل في ربوعها. (المترجم).
[10] يجعل خط سير الرحلة إلى القدس بروتوس على مسافة أربعة فراسخ من عرقة و21 فرسخاً من طرابلس .(من الغريب أن بوكوك يتقدم بأمر يخالف منطق القدماء، ولا يتحقق مما يقول! المترجم).
[11] ثعلب جاكال Jackall الذي يسميه اللاتين Canis aureus، والأتراك Chical، هو نوع من الثعالب التي تكثر أكثر من غيره في أنحاء يافا وغزة والجليل. أترك لغيري تقدير أي منها هو من نوع سامفون Samfon.
[12] ثمة نوعان من الغزلان: منها نوع يعيش في الجبال، والآخر في السهول. الأول أضخم وأكثر وحشية وأسرع في الجري من الغزال العادي، ولا يمكن اصطياده دون الاستعانة بالصقر. يسميه اللاتين: capracervicapra.
back to Book |