back to Maghani - Dr. Fouad Salloum

"كان في تلك المغاني الجميلة"، أقاصيص في عمق التراث - حزيران 2003 - الدكتور فؤاد سـلوم 

شحّاد تريزيا


الفضيلة لا ترويها الأخبار. وأفاضل الناس لا تاريخ لهم، شأنهم هذا شأن الأمم الهنيئة السعيدة. "ويل ديورنت"
قد يخيّل إلى القارئ أنّ هذه الأقصوصة ترمز، في منحاها العام، إلى حدث سياسي بارز في تاريخ لبنان المعاصر. إنّ هذا الرمز ليس مقصوداً. "المؤلّف"

 
عائلة سعيدة لا تاريخ لها؟ كيف؟
هل يجب أن تكون مأساة ليكون تاريخ؟
هل يجب أن يموت البطل ليُكتب الخلود؟
لماذا يجب أن يحفل الزمان بالأحزان والدماء، بالنار والدمار، ليكتب التاريخ؟ أليس هذا ظلماً للتاريخ؟

أما أنا فأزعم أنّ عائلة سعيدة عاشت في بلدتي وتركت تاريخاً مجيداً - بالنسبة لعائلة -، وخلد فيه اسم ربّة العائلة! هذه الربّة الفاضلة كان اسمها تريزيا.

كانت تريزيا فتاةً رقيقة جدّاً! خطب ودّها معظم شبّان البلدة، لكنّ عينها كانت على طنّوس، وعين طنّوس عليها. هي ابنة خاله وَتِرْبهُ. تربّيا معاً منذ درجا طفلين إلى ان اقترنا عروسين... بيتاهما يقعان في حيّين متباعدين من بلدتنا «أمّ الينابيع» لكنّهما كانا، في طفولتهما، يُودَعان، معاً، في عهدة جدّتهما، لتتحرّر الوالدتان في تدبير شؤون العائلة؛ فكلتاهما فلاحتان تسعيان في النهوض بأعباء الحياة اليوميّة، تارةً مفترقتين، وغالباً مترافقتين، انْ في طلب الحشيش للبقرات، وإن في تأمين الحطب للتنّور؛ إن في جلب الماء من الساقية، وإن في احضار السليق للطعام. والسليق أعشاب برّية تصلح لطبخ أصناف من الأكل، يقوم بها أوْد العائلة.
كانت العائلتان تجتمعان في المواسم، وهي كثيرة: في الحصاد والقطاف، في سلق القمح وفرك الكشك، في عصر الدبس وسحب العرق، وفي الأعياد والمآتم... طنّوس مع تريزيا، تريزيا مع طنّوس: يتخاصمان، وسرعان ما يتصافيان. تبكي، فيمسح دمعتها بسبّابته، فتبتسم! يغضب، يدير ظهره، فتهمس: طنوس! فيلتفت إليها ويرضى...
ما كان أطيبهما معاً!

كبر الطفلان قليلاً... صارا يجدان نفسيهما، كلّ يوم، تقريباً، على التلال المعشبة، وأمامهما بقرات وعجول يتنقّلان بها على ضفاف المجاري، وعند أطراف الغابات، في الوهاد، وعلى البيادر وحوافي الحقول...
لم يكونا يذهبان إلى المدرسة. المدارس لم تكن زيّاً مرغوباً في تلك الأيام! الصبيّ الفلاح، قلمه معوله، ودفتره حقول، وكتابه فصول في دورة الزمان... والإبنة الفلاحة، لماذا تَلْزمها المدرسة؟ ألتكتب رسائل الحبّ من وراء ظهر أهلها؟ فيصيرون، وتصير، لواك الألسنة؟!...
ما همّهما من غير مدرسة؟
هل أجمل من الحرّية؟...
يستقبلان الشمس، صبحاً، تنهض ناعسة، متثائبة، من وراء الجبل؛ فيسوقان البقرات إلى المراعي... إذا ما انتصف النهار واحرورى، مالا بالرعية إلى الظلال لترتاح وتجترّ هانئة... ويتغذّى الراعيان الصغيران ممّا تيسّر في جرابيهما من زاد قشف حملاه معهما، على صداح الأطيار، وهينمة الأنسام، وانسراح النظر... فكأنّهما يتنعّمان بمائدة ملوكيّة!... إذ يشبعان، ينصرفان ليلهوا، تحت جنح البراءة، بألعاب الأولاد المسلّية، القريبة المتناول، من حصى الأرض ونباتها: يضجران من لعبة «اللاقوط» فينسج لها من القشّ اللامع إسوارة ذهبيّة! وتبرم له منه عقالاً، تتوّج به رأسه؛ وقد تزيّنه بزهرة لاحت في الحافّة القريبة، أو بعشبة خضراء عطرة من كعب صخرة. وقد يقطع بسكّينه الحادّ بضعة من قضبان «العيرون»، يشقّقها، ويركّب لها منها دولاب هواء، يدور غازلاً، عند الهبوب، كمروحة. وقد تعصب عينيه بمنديلها، العابق بفوح شعرها، وتنقف جبينه بأحد أصابعها سائلة: مين نقفك «يا قادوس»؟ فيلتقط الإصبع الذي ظنّه ناقفاً، فإذا حزر تركت له إصبعها ويدها، قليلاً، في يده؛ وإلا سحبته بسرعة لتعاود النقف!...
هكذا حتّى تميل الشمس إلى الغروب، ويعتدل الحَرّ، فيقودان الأبقار، ترتعي وهي في طريق العودة.

في مواسم الحصاد والجنى يغزر نشاط الراعيين الصغيرين: الأبقار ترعى في الحقول المحصودة. تريزيا تلحق «بالعفّارات»، وراء الحصّادين، بعد الرجاد، تلتقط الساقط من السنبل، تجمعه باقات باقات، وتحمله، عند العودة، ليخصّص حبّه مؤونة الشتاء من القمحيّة... امّا طنّوس، «نقّيفته» في عنقه، فيمضي إلى البيادر، أو يتسلّل إلى حقول الدُخْن، يصلي «الطوافيح» وينقف العصافير...
ويتفقّد الأبقار بين الحين والحين... يطلّ قبالة تريزيا يريها ما اصطاد، أو يجلس تحت ظلال سنديانة وارفة، يتمرّن على العزف بالمِجْوِز، أو يقدّم خدمات للعملة في الحقل، من تأمين الماء، ونقل الزواويد، وردع القطعان عن اقتحام الأكداس...
في الأيام العاصفة، الماطرة، تقفر المراعي والحقول من روّادها، بشراً وماشية؛ فسهام المُزْن ترشق، وسياط الريح تلسع؛ والنبت والبذور، كلاهما مُعاقِر، مدمن، يريد أن يترع كؤوسه حتى ينتشي... عندئذ يصير «الرك»، في المعالف، على التبن، وعلى الشعير إذا تيسَّر؛ فتنقطع الماشية إلى معالفها، ويصير الفلاحون إلى مواقدهم، يحلمون هانئين بالزرع والمراعي... هكذا تجتمع الأسر والجيران حول المواقد، يستدفئون ويتحدّثون مرتاحين...

يزور طنّوس بيت عمته، يمضي جلّ نهاره. أو تأتي تريزيا، مع بعض أهلها، تمضي ردحاً من نهار، في بيت خالها... يجلس الولدان مع الأهل والأنسباء، قرب النار، صامتين، هادئين إلا من بعض نظرات وبسمات وأحلام كثيرة...
لقتل الضجر، أحياناً، يُخرج طنّوس من جيوبه ما يكون قد التقط، في الطريق، من بَلّوط العفص والسنديان، يدسّه في جمر الموقد لينضج على مهل، فيستطيبه، على مرارته، الجالسون؛ يستعينون، بقضمه ساخناً، يحرق الألسنة، على تقطيع أوقات البطالة! وقد «تفقع» واحدة منه تحت الجمار، فتنسحب الأقدام مسرعة من حول النار، وتنفض الشظايا من الأحضان، وعن «الحصيرة»، فيتضاحك الأولاد، وتنفرج أسارير الكبار، وتنكسر الرتابة... وإذا لم يكن في جيوب طنّوس بلّوط، فعينة الحمّص، في الحاصل، ملأى؛ تَحفُن منها تريزيا، وتوزّع ضمّات، برؤوس أصابعها، في «الحوّاش»، تضع عليها الجمر بالملقط، وتبدّل الجمر، وتقلّب الحمّص حتّى يقمارّ، ويصير طريئاً طيّباً، ترغّب به نكهة لذيذة... وإذا حانت الظهر، وكانت ربّة العائلة قد انشغلت عن تحضير طبخة الغداء، فقد تغني مطمورة البطاطا، تحت «الملمول» الحارّ، عن وجبة كاملة. وحتى لو نقص الخبز، فإنّ «دريكات» مشويّات على الجمر، تعوّض، مع الزعتر والزيت، عن غداء فاخر...
وتستمرّ السعادة ترفرف على العائلات الهانئة! أفليست الحياة السعيدة نسيجاً تحوكه الأيام، على الرضى، سدىً ولحمة، من اللذائذ الصغيرة، البسيطة، التي تحبّبنا بالحياة، وتخلق، بيننا وبين شركائنا في تلك اللذائذ الصغيرة، حميميّة دافئة، لتنمو الألفة بنمو النسيج، وتتقارب القلوب، وتتعانق؟

كبر الولدان...
صارا شابيّن!
تريزيا جاءها الشباب قبل طنّوس!... نهدت، بقدّها النحيل، واعتلّ خصرها بما ثقل فوقه، فهو مضنى... استدار الردفان تحت الفستان الطويل الواسع، فلا تغوي استدارتهما الا إذا عصف الهواء، أو إذا التفّ الذيل في رقصة، يغزل فيها الجسد الرشيق، حوله، الأشعة في عيون المعجبين...
... وجهها بيضوي صغير، ناعم البشرة، بلون الزهر، يشيع فيه الرضى. حوله تتدلّى، إلى الصدر، جديلتان كستنائيتان؛ و«الترائك» الذهبية تثقل الأذنين قليلاً... عيناها السوداوان لوزيتان، واسعتان، تلمعان بوهج دافئ...
وتريزيا دائمة الابتسام، قلّما تلتقي شفتاها الرقيقتان على استياء، وقلّما يلتقي حاجباها على عبوس... إنّها فاتنة فاتنة، قامتها الضئيلة تنطق بالأنوثة، تقول: «لا تشدّ عليّ، اتكسّر بين ذراعيك» ... إنّه سحرها الخاصّ الذي يجعل أشرس المحاربين، يلقي بسلاحه تحت قدميها.
أمّا طنّوس فراهق. احمومر منخراه، وانتفخا. طرّ شارباه، واسودّ صدغاه، أمام الأذنين المتنبّهتين. صارت نظرتاه حادّتين، «وجرش» صوته. جسمه نحل، واستطال على غير ليان.

شبّ الولدان!
خلّفا الماضي وراءهما...
حملا من الماضي الحُبّ والذكريات...
لم يعد الناموس يسمح بأن يسرح الشابّان وحيدين في البراري، أو أن يختليا منفردين؛ وإن كانا نسيبين ربيبين...
صارت تريزيا برسم الزواج.
شرف الصَبيّة سترتها في بيت عريسها.
الحائمون حولها كثيرون...
وتريزيا متريّثة. تقول: «بعد بكير، هلّق ماني مفكّرة». وفي نفسها تقول: «ما في غير طنّوس، إذا تقدّم تزوّجت. طنّوس، ما في غيره، ومهما طال الانتظار...»
العائلتان لا تكادان تشكّان في أنّ الولدين لبعضهما، واحدهما للآخر!
لكن في فكر أهل تريزيا: «شو ناطر بو طنّوس؟ أيمتى هالصبي بدّو يتْبَيْتَتْ؟ لو ما إيدو طايلي كنّا قلنا...»
وفي فكر بو طنوس: «شو صاير بعدن زغار عَالْهمّ، لاحقين...»

طنّوس بكر اخوته.
والده، بو طنّوس سلطان مخفي، لأنه فلاّح مكفي. يحسده الفلاحون في البلدة، وحتّى الوجهاء... أراضي سلطنته، في الجُرْد، تغطّي تلّة وسفحها، فوق الساقية، وتحتها. مزرعة كبيرة. فيها المرويّ وفيها البعل. فيها السليخ وفيها المشجّر، وفيها البور المعدّ مرعىً ومحتطباً. إسمها «عين الشنبوق»، على اسم العين، خاصّتها، التي تروي بمحقنها، الجلول المتدرّجة على السفح.
لكن طنّوس لم يجهز، بعد، ليتأهّل. أبوه لا يزال في عزّ عطائه، في كامل قوّته!... في رقبته عائلة كبيرة. بكره طنّوس رجله الصاعد، مُعْتَمَده في تدبير المزرعة، وموضوع اعتزازه. سيصير أوّل شركائه، وسينضمّ إليه الباقون، من إخوته، واحد بعد الآخر، حالما يتأهّل... وعندما يشيخ بو طنّوس، رأس الشركة وعميدها، يلتفّ حوله الأبناء والأحفاد، يجلّونه، ويؤدّون له واجب الطاعة والاحترام. إنه الحلم في نفس بو طنوس، حلم الأحلام...

وكي يتأهّل طنّوس، يجب أن يكون لديه بيته المستقلّ. الزمن تغيّر! لم تعد العروس ترضى أن تنزل في بيت حميّها، إلا عند الضرورة القصوى. حال الضرورة، هذه، لا تنطبق على طنّوس، لأنّ حالة أبيه طيّبة. ولا على تريزيا، التي ليست غريبة، ولا مستعجلة. وهي على كل حال، تستحقّ أن تتدلّل في بيت مستقلّ!
أيضاً تنقص طنّوس عدّة الفلوحيّة: فدّان ومحراث وبقرة حلوب ودابّة ودجاج و...
مشروع البيت الجديد جاهز في فكر بو طنّوس: مدّ سطح البيت الوالدي على غرفتين متلاصقتين شرقيّ البيت.
لكن، على الأرض، لا يزال المشروع «مجالاً» شرقيّاً، ومقصلاً أمامه، ومزبلة!

متى يبدأ البناء؟
أبو طنّوس لم يقرّر بعد... إذا سئل «طنّش»! «شو صاير؟»
«كيف شو صاير؟»
«بعد بكير؟»
لأيمتى بكير؟
«لاحقين...»
«هنّي شو ع بالهم؟ ... البنت غير الشبّ!»
حوار...
لكنه لم يجر بين العائلتين! كان يدور في الضمائر... وفي الضمائر يدور ما يشبه الرحى. يدور ويطحن...

لم يعد الشابّان يلتقيان مختليين! إنّه مبدأ عام. يسهران مع الأهل والجيران والأصحاب في المناسبات والأعياد. يتبادلان النظرات، والابتسامات ذات المغزى، والكلمات اللمّاحة... لكنّ طنّوس لم يكن يعدم حجّة لزيارة بيت خاله. يدّعي انّ له حاجة هناك، فيجعل طريقه إليهم. غالباً لا يجد إلاها، فتطول الجلسات الحرّة، إلى أن يدهم عائد من الحقل أو فضوليّ غليظ.
ولم تكن تريزيا، أيضاً، تعدم حجّة لزيارة بيت خالها، فيدعو الواجب طنّوس إلى مرافقتها حتّى منزلها.
... هكذا، وتريزيا تصدّ الخطّاب!
وطنّوس لا يقدم ولا يحجم!
ويكبر حرج تريزيا، ولا سيّما أمْ تريزيا، التي تبلع بريقها كلّما دار الحديث حول مستقبل ابنتها. تحتفظ بالبحصة في فمها، تحت لسانها، تغرز، تعقر، لكنّها تحاذر أن تبقّها، لأنّ الخوف من النكايات آلم.
وتكثر الأحاديث حول علاقة الشابّين... وأكثر ما تزدهر مواسم الكلام إثر الأعراس! بعد كلّ عرس قرص يدور، يُمضغ في الأفواه، ولا سيّما في أفواه العذّال.
آخر الأعراس كان عرس مغترب عائد في ربيع ذلك العام. كان عرساً باذخاً. وكان طنّوس نجمه، وكانت تريزيا قمره. وكان ذلك العرس حاسماً في قرار بو طنّوس؟!
... سهرة العرس طالت حتّى الصباح: شباب وصبايا. مازة وعرق. فرح وصخب. غناء ورقص ودبكة... وخلع للحذر.
نجم العرس طنّوس!
تريزيا قمره!
... ينوس صوت القصب. تأخذ الرتابة أقدام الدابكين، فالاحتفال في فتور!... يتغامز الحضور والراقصون، فيدفع هؤلاء تريزيا إلى رأس الحلقة... ما أن ترفع تريزيا يدها بالمنديل، وبرأسها تنفض الجديلتين إلى الوراء، وبكعبيها تنقر الأرض نقرات معلومات، حتّى تسري في السلسلة حرارة جديدة، فاشتعال! يشتدّ عزم النافخ بالقصب، فإذا عزفه أقوى، وإيقاعه أغنى، وأعطافه في انتشاء... ويثور الراقصون، فإذا الخصور ألين، وخبط الأقدام أرنّ، وارتجاج النهود في توتّر... يبلغ الاشتعال ذروة عندما تنفلت تريزيا من الحلقة، فتجري وحيدة في الميدان، كفارس الحكاية، جمح عن لسان راوية بارع، فهي الزهرة والعبير، والوتر والنغم، والقدّ والارتعاشة... فيدوّي حداء الرجال في ترويد، وتنطلق زغاريد النساء في هزيج، ويخلع طنّوس سترته يكنس بها الأرض أمام أقدام تريزيا... فكلّ يد تصفّق، وكل جذع يميل... وإذا الأبدان الشابّة في فوح مثير!... ساعتئذ يرمي طنّوس بالسترة بعيداً، ويندفع إلى الحلبة، فإذا هو المبارز الثائر في كرّ وفرّ مُوقَّعين: يتحدّى مُقدِماً، ويتراجع مُتحفِّزاً. يثب متطاولاً، وينحني مناوراً وهو يقرع الأرض بقدمين نزقتين. وينتصب، يد خلف الظهر، وأخرى تهزّ بالمنديل فوق الرأس الشامخ بكبر، بينما العينان «تشر قطان» بالتحدّي... ساعتئذ يطمئنّ رقص تريزيا.
فهي كالنسمة المنسابة تروح وتجيء مائسة. تدور غير عابئة بالتحدّي، أو تواجه المبارز، عيناها في عينيه، جسدها في ارتعاش، نهداها في اهتزاز؛ وكلّ حاسّة في تناد... ينهزم طنّوس خارجاً من الحلبة، وتبقى تريزيا، في مكانها، على اختلاج، مُغْمِضة العينين، سكرى، ذاهلة، تَعْبَى، مستسلمة...
لم يمض أسبوع على سهرة العرس، ذاك، حتّى بدأت ورشة البناء في المجال، شرقيّ بيت بو طنّوس، على وقع القيل والقال والحثّ والاستعجال!...

بلا طول سيرة!
انتهى البناء خلال شهرين، في بداية الصيف... كانت المواسم مقبلة، فتأثّث البيت الجديد بكلّ ما تحتاجه أسرة جديدة، وما يلزم لفلا]ح جديد...
وبارك اللّه في البيت الذي يخرج منه بيت!
العرس في أيلول.
وفي أيلول كان عرس ما له مثيل، ولا حتّى في الحكايات!... أدَبَ بو طنّوس وسخا.
أكلت البلدة وشربت.
رقصت وهزجت، وزغردت نساؤها.
والعروس تريزيا. والعريس طنّوس.
دبك طنّوس ورقصت تريزيا حتّى «الفنك!»
استقرّ العروسان في بيت الزوجية...

جاءت تريزيا إلى الحيّ، فكأنْ حلّت فيه البركة. كانت كنّة الخير وجار الرضى. عرفها الجميع هادئة الطبع، سهلة التعاطي، نظيفة اللسان، محبّة، خدوم! يدها مفتوحة لقاصد محتاج، وعطفها مبذول لمحروم... عابرو السبيل يجدون في خبزها شبعاً، وفي مائها بلّة. حتى الشحّاذون الدوّارون لا يخيب لهم سُؤْل عندها. ان لم تجد لهم بقروش، فإنّ عطاءها حفنات من طحين وحبوب أو أرغفة وقنّينة زيت، أحياناً... فصار بيتها مقصداً ومطمعاً، يعود إليه من مرّ به، أو من لم يمرّ، فيمرّ...

هجم الشتاء عنيفاً هذا العام! لكن الأسرة الجديدة كانت قد تحصّنت في بيتها الجديد، لا تخشى فوران الطقس واجتياح العاصفة. لقد تجهّزت وحسبت كل الحسابات...
في منتصف كانون، كان نهار صاح، لكنّه مصقع. تظهر شمسه وتختفي خلف «قواميع» الغيوم السوداء، المتدافعة. عاصفة تقترب!... وصلت ظهراً، فأظلم النهار، نصفه الثاني. نفخ الهواء واشتدّ. ما إنْ حلّ المساء حتّى انهمر المطر كاسحاً بزنود الريح القوية.
أضرم طنّوس ناراً متأجّجة، وتهيّأ لعاصفة قويّة، وجلس قرب تريزيا، ما على بالهما همّ...
كانت العاصفة تصفر في الخارج، وأحلام طنّوس ترفرف حول الموقد، أو تطير، عبر الليل الحالك، في سماوات مشرقة، فوق الحقول والبيادر والسواقي... تريزيا تحلم بسرير، وتحوك في خاطرها كنزة لطفل...
كانا مطمئنّين، غير خائفين من العتم والزمهرير. باب الخمّون الخارجي «مدربز»، معزّز بالنجر. باب غرفته متين، موصد. الأبقار على معالف ملأى... اللصوص يعجزون عن نقب الجدران العريضة، أو خلع الأبواب السميكة. الوحوش قد تقترب من الحي، لكن لا تقتحم، فالكلاب ساهرة!..

فكّر طنّوس!
لم يكد يذكر الوحوش والكلاب حتى علا نباح صاخب من كلّ الجهات!
ذئاب؟
ما هذا نباحاً تستثيره الذئاب!
لعلّ الليل يخبّئ...!
وارتمى جسم ثقيل على الباب! وقَرْعُ شخص مكروب!
خطف طنّوس عصاه وقفز إلى الباب صارخاً:
- «مين؟»
فتح الباب شاهراً عصاه:
- «دخلك يا معلّمي! غريب مقطوع. بلدي بعيد، مالي حدا غيركن يأويني. الدني متل منّك شايف!»
- «فُوْتْ...»
وإلى تريزيا:
- «عطيه تياب ناشفة يتعرّى فيها!»
لم تكن تريزيا بحاجة إلى إيعاز. جاءت بثوب قديم سميك... وأشار طنّوس إلى «الطارق المنتاب»، صوب باب «الخمون»، فدخل، أبدل ثيابه المبلّلة وعاد.
كانت تريزيا أعدّت للغريب عشاءً من بقايا العشاء، على طبق صغير من القشّ، فأكل وشرب... واقترب من النار يجفّف ثيابه.
سأله طنّوس عن شأنه، فقال:
- من الجنوب. أدور على أبواب المحسنين، أشحذ من مال اللّه، لأُعيل عائلة أبي الكسيح... دهمني الطقس الظالم، كما ترى، فلجأت إليكم... كثّر اللّه خيركم!
قال طنّوس:
- وأنت كما ترى! البيت صغير. الأثاث قليل، ولا نملك فراشاً إضافيّاً، نؤسّس...
قال الغريب:
- «أَتّكئ، هناك، عند «البرطاش». يطلع الصباح، ويفرجها اللّه... ممنون!... آجرك اللّه!»
ونظر إلى طنّوس بانكسار، وأَحنى رأسه! ونظر طنّوس إلى تريزيا، فرأى على وجهها التأثّر فقال:
- خير، إنْ شاء اللّه!
كان الغريب شاباً أسمر، في عمر طنّوس.
مفتول العضل، قويّ البنية، متّقد العينين.
يخيّل إلى ناظره أن به بعض عنجهيّة...
كان الليل يتقدّم، ولهب النار يتطامن شيئاً فشيئاً. وكان الغريب قد اطمأنّ وشبع واستدفأ... صار يختلس نظرات إلى تريزيا، فيراها، كطبعها، باسمة، وادعة النظرات؛ مما زاده أنساً على أنس...
وقام طنّوس إلى «اليوك»، فأتى بالفراش. وإلى القنديل، على «الكفتوره»، فنوّصه... نهض الغريب من قرب النار، وراح إلى «البرطاش» يتّكئ.
دخلت تريزيا تحت اللحاف، جنب طنّوس، إلى نصفها، تسند كتفيها إلى المخدّة، بين صاحية وغافية، مرتابة!
طنّوس نام وعلا شخيره... وكان وجه تريزيا المستنير على بصيص النار الخامدة، يشعّ بالجمال. وعلى شفتيها انفراجة غير طارئة، تزيد وجهها بهاءً!

... ظَلّ الغريب، في نومه، فقرص البرد الغريب! نهض بهدوء، اقترب قليلاً من النار الهامدة... ثمّ اقترب أكثر فأكثر... ظَلّ يختلس النظر إلى الوجه الجميل الذي لم تتحوّل فيه بارقة! ظنّ الظنّ!... اقترب من الفراش، ناحية تريزيا، حتّى لامسه... توجّست تريزيا، فطوت ركبتيها، وتجمّعت على نفسها! لكنها لم تحرّك ساكناً!...
وظنّ الغريب! تجرّأ، دسّ بقدميه تحت اللحاف، فصرخت:
- طنّوس، طنّوس، الشحّاد، الشحّاد...
هبّ طنّوس إلى عصاه، فصار الشحّاد إلى الباب يفتحه... كانت عصا طنّوس على ظهره، «فجعر»... وهمّ طنّوس بالثانية، فإذا الباب انصفق وراء الغريب... فتح الباب ونظر في الظلمة البرّانيّة، المطبقة بثقل الهواء الجليديّ والمطر المنهمر! لكنّ الشحّاد كان قد غرق في الليل البهيم، وابتلعته العاصفة.

 

  back to Maghani - Dr. Fouad Salloum

"كان في تلك المغاني الجميلة"، أقاصيص في عمق التراث - حزيران 2003 - الدكتور فؤاد سـلوم