back to Ashya Saghira

من كتاب "اشياء صغيرة"

للدكتور فؤاد سلوم

 

 

مقــامـــات :

أبو نايف وأمّ نايف

 

1- قامة أبو نايف

رجل أشقر، صارم قَسَمات الوجه. واسع الجبين، عريض الحاجبين، كثّ الشاربين، أصفر العينين. مربوع القامة عريض المَنكبين، مفتول العضلات. يعتمر لبّادة عالية، قصعاء، كأجداده الجبليّين، ويلفّها حول رأسه، عند الجبين، بشملة صوفيّة صيفًا وشتاءً. وعلى زيّ الأجداد، أيضًا، يلبس الشروال الواسع النفق، ويلفّه بزنّار قماش عريض. في أيّام البرد القارس يرمي على كتفيه عباءة حثوية من صوف الجمل. ينتعل مداسًا ضخمًا في كلّ الفصول، فإذا مشى قلت : فرقة من الجُند تعبر.

ويتمتّع أبو نايف بطلعة مهيبة وفتّوة طاغية. يخشى جانبه أعتى فتيان البلدة، ويحترمه شبّانها. وطارت له شهرة في البأس، حتّى في ضِيَع الجوار. لا يفارق الخنجر زنّاره.

أمّا البندقية "الموزر" الألمانيّة فيضعها تحت جانب فراشه على السرير. كان يحبّ الفرنسيّين المنتدبين، لكنّه لم يكن يحبّ سلاحهم، ففضّل "الموزر" على البندقية الفرنسيّة التي جاءته هديّة، والتي كانت من طراز 1936، فبدّلها بـ"الموزر"، دافعًا علاوة فوقها.

يعمل أبو نايف مكاريًا على بغلة شهباء معروفة بعافيتها. يحتطب من الغابة القريبة للتدفئة شتاءً. يؤمّن مؤونة بيته من الحطب أوّلاً. بعد ذلك يبيع ما يتحطّب من زبائنه الكثيرين الذين يفضّلونه على غيره من المكارين بسبب حجم حمولة بغلته من الحطب الجزل المناسب. ومن الغابة البعيدة كان أبو نايف يقتطع الأخشاب الإسطوانيّة السميكة لسقوف السطوح الترابيّة، والضعيفة منها، للأكواخ الصيفيّة ولصمدات[1] دود الحرير، فيبيعها إمّا في البلدة والجوار وإمّا بعيدًا، في البادية، إلى العربان لبناء مضاربهم وأكواخهم. كان يتاجر، أيضًا، بالقطران، إضافةً إلى اهتمامه بتربية دود الحرير في مواسم التوت الذي حوز على الكثير من أشجاره العتيقة في بساتينه. وفوق كلّ هذا يقتني بقرة حَلوب يوفّر لها الأعلاف من حقوله التي يزرعها له فلاّحون شركاء. بفضل هذه الهمّة العالية، وبفضل قدرته على تحمّل المشاق عاش في بحبوحة وابتنى بيتًا لائقًا من الحجر الأبيض.

 

2- قامة أمّ نايف

قامتها عالية، تضاهي قامة أبو نايف. هي إبنة عمّه، وجارته حيطًا إلى حيط. تزوّجها بعد علاقة حبّ امتدّت منذ الطفولة حتّى سنّ الزواج.

كان حاميها في طفولتها، ووصيًّا عليها عندما قاربت البلوغ، وفارسها البهيّ زمان الصِبا... كان أطفال الحيّ يتجمّعون، بعد قضاء حاجات الأهل، في "الصار"[2]، عند "مفرق الكذب" وهذا كان بستانًا لمهاجر انقطعت أخباره، فتحوّل دربًا لأهل الحيّ، "قادوميّة"[3]، وملعبًا للأطفال، صبيانًا وبناتًا، لا يبارحونه إلاّ إذا ناداهم الأهل، أو عند دغش العتمة.

كان الأطفال الذين يرتادون المدرسة قلائل، أمّا البنات الطالبات فنادرات، ومَن إرتادها منهم ومنهنّ فليس قبل الثامنة من العمر. أبو نايف ارتادها قليلاً، ريثما فكّ الحرف وكتب إسمه وتعلّم "هندي"، كما كان يخبر، وهو يقصد "علم الحساب" الذي يفيد عند البيع والشراء.

أمّ نايف لم تذهب إلى المدرسة قطّ، فكانت دائمة الحضور في الملعب. كان أبو نايف، وهو طفل، إذا تعرّض أحد الأتراب لها يبطش به فيرعوي. إذا غاب فارسها تهدّد به، فيرعوي المعتدون... عندما قاربت البلوغ بدأ النكد يسود العلاقة بينهما، صار وصيًّا عليها لأنّها صارت أميل إلى مرافقة الصبيان، واللعب معهم، ممّا كان يثير غيرته فيمنعها. منذئذٍ بدأ يظهر طبعها المشاكس على ما هو عليه، فلم تكن تطيع بسهولة إلاّ إذا أجبرها. كان يأخذ، أحيانًا، شعرها، بقبضته الحديدية فتنصاع باكية وتنقاد إلى البيت لتثور، هناك، أمام والديها وعمّها الذين يتبادلون النظرات والإبتسامات مهدّدين، مرائين، بقصف رقبته، لكن من غير أن يفعلوا شيئًا، مع علمها بأنّهم لن يفعلوا شيئًا، وحتّى إذا هدأ جيشانها يراضونها قائلين :

-      أما هو إبن عمّك ؟ يعني بيحبّك متل خيّك !

فتتمتم متوترة :

-      بكرهو...

عندما بلغت أمّ نايف صارت صبيّة جميلة. وجهها حنطي صبوح. عيناها واسعتان حوراوان. شعرها كستنائيّ غزير تجدله جدلتين على ظهرها. ولم تغيّر تسريحتها هذه حتّى في شيخوختها. ربّما لأنّ أبو نايف كان يحبّ تسريحتها هذه أيّام العزّ وكان يمتدحها. ولربّما لا تزال تضمر له في عمق أعماقها حبًّا لا تخبو جذوته، رغم النّكد الذي ساد علاقتهما في السنوات الأخيرة، ورغم دعواتها عليه صبح ومساء : الشيطان ياخدك. الشيطان ياخدك... وكانت إذا قالوا لها : حرام عليكِ، تجيب ضاحكة : ليش الشيطان بيقدر عليه ؟ وإذا سألوها: لماذا لا تغيّرين هذه التسريحة القديمة ؟ تجيب : أخذ وجهي عليها.

وبقي أبو نايف وأمّ نايف متحابّين عندما بلغا سنّ الشباب، بل صارا عاشقين. هدأ النكد بينهما ليس لأنّ أمّ نايف غيّرت طبعها، بل لأنّ أبو نايف صار يفهمها ويدرك مدى حبّها له في أعماقها. في طور الشباب صار أبو نايف فارسها، تزهو برفقته وتباهي رفيقاتها، لا سيّما في حلقات الدبكة في الأعراس والمناسبات. ولا سيّما، أيضًا، عندما يرافقها عصرًا، إلى الساقية لتملية الجرّة، كما تفعل كلّ بنات الحيّ مع عشّاقهن في استعراض شبابي مسائي.

وكان كلّ أهل الحيّ يعرفون أن إبنَيّ العمّ مخطوبان ولو من غير كلام رسميّ بين أهليهما... أخيرًا صار كلام مختصر وتوسّع حول شؤون السكن وتدبير الرياش وتحضيرات العرس الذي كان له طنين ورنين، وكان فيه سخاء من أكل وشرب. لكن، هنا، أثناء الاستعداد، بان في طبع أمّ نايف خلة لم تكن معروفة لديها قبلاً. إنّها البخل وحبّ الاقتصاد والتوفير اللذين عانى منهما أبو نايف طيلة عمره. كان يسخو في منحها ما تحتاج إليه لتتجهّز، فكانت تقتطع شيئًا ممّا يعطيها فتخبّئه وتشتري شيئًا أقلّ ثمنًا. لم يكن يأبه. كان يقول : إنّها المظاهر التي لا تقدّم ولا تؤخّر. لتفعل ما تشاء. الحبّ الكبير لا يحفل بصغائر الأمور !...

بعد أقلّ من عام أنجبا ولدًا، لم ينجبا غيره من بعد. أسمياه نايف، فسرق نايف اسميهما منهما فلم يعودا يُعرفان، منذ ذلك الحين، إلاّ بأبو نايف وأمّ نايف. ولأنّه الإبن الوحيد المُدلّل أرسلاه إلى مدرسة اليسوعيّين الإرساليّة التي تقع بعيدًا عن البلدة ببضعة كيلومترات. وضعاه في القسم الداخلي، فكان يذهب أبو نايف مساء كلّ نهار جمعة، على البغلة، ليأتي بِنايف في عطلة نهاية الأسبوع، وليردّه مساء الأحد إلى المدرسة.

تلقّى نايف تعليمًا جيّدًا وأتقن اللغة الفرنسيّة بصورة خاصة. عندما شبّ دخل في سلك الجنديّة وترقّى بفضل علومه، إلى مراتب عالية.

  

3- المقامة الأولى :

اكتسب أبو نايف من عيش النكاف مع أمّ نايف برودة أعصاب اشتهر بها، واكتسب من كيدها فنونًا جرّ بها بنجاح في اللعب والمزاح مع أقرانه من أهل الحيّ. كان حلو المعشر، مرنًا، خدومًا، يقبل على التحدّي في اللعب والمفاكهة بروح المرح، لكنّه، في الجدّ يجعله التحدّي وحشًا كاسرًا.

في فصل الشتاء يصبح أهل الحيّ، في معظمهم، بطّالين، فأكثرهم يعمل في الأرض. الليل طويل، والعتمة حالكة، والمطر والصقيع يحبسان الحركة، فكان يلتقي أهل الحيّ، ساهرين، عند من كان مضيافًا، واسع الصدر والدار، ناره مشبوبة وضوء قنديله ساطع. كانت التسلية المفضّلة لديهم لعب الورق، من "الباصرة" إلى "الطرنيب" إلى "الليخة"... أمّا أبو نايف فكان يفضّل لعبة "الطرنيب" التي يجد فيها براعة في المناورة والفوز. وكان جزاء الخاسر، في العادة، "الزفّة" التي تقوم على السخرية من الخاسرين بأشعار تلفّق كيفما كان، وبحركات ورقص أمام الخاسر، وملامسات، لكنّ هذه الأخيرة لم يكن يقبل بها أبو نايف. وكانت المشارطة، قبل اللعب، تزيد من الحماسة ومن رفع مستوى التحدّي مما يخلق جوًّا من الانبساط والحيويّة لدى الساهرين.

ذات سهرة رمى أضخم اللاعبين وأثقلهم وزنًا، أبو فهد، في معرض التحدّي، على خصمه في اللعبة، أبو نايف أن يركب على ظهره، إذا ربح، مقدار شرب سيكارة من الوقت، فقبل أبو نايف التحدّي وقام إلى الطاولة. خانه "زهره"، كما قال، فلم يحالفه الحظ فركب خصمه، أبو فهد، على ظهره مرّة وثانية وثالثة وهو يدخّن سيكارته. تقبّل أبو نايف القصاص بالرضا، فقد كان شعار الجميع "بعد الشرط ما في مرط". انفضّت السهرة فخرج أبو نايف مع الساهرين وغيظه مكظوم... مرّت ليالٍ إلى أن التمّ شملهم في سهرة، كالعادة، حول لعب الورق. قال الخصم الدائم :

-      اشرط يا أبو نايف.

-      بدنا نغيّر ؟ الشرط هو هو.

-      ركبة عَ الضهر ؟

-      ... وشرب سيكارة.

-      طيّب.

لعب أبو نايف بتركيز شديد وكأنّه يحلّ مشكلة حسابيّة أو معضلة فلسفيّة. كان "زهره"، هذه الليلة، مقبلاً. عندما آنس اقتراب الفوز أخذ علبة التدخين المعدنيّة، المحشيّة بالتتن[4] البلديّ المفروم، من جيبه ودسّها خلفه على الدشك تحت المسند. كذلك أخذ المشرب الخشبي ودسّه أيضًا، تحت الطرّاحة. إنتهى الدور بفوز أبو نايف، فوقف وخرج من وراء الطاولة إلى باحة البهو ووقف ينتظر من غير كلام ولا ينظر، حتّى إلى خصمه أو إلى يمين أو شمال. كان يحدّق أمامه والكلّ يبتسم وينتظر. أبو فهد بقي قاعدًا متلكّئًا بابتسام ينظر إلى أبو نايف الواقف وسط الساحة ليرى ردّة فعله. بقي أبو نايف ساكتًا صابرًا. قال له الساهرون :

-      يلاّ يا أبو فهد. قوم الزلمي ناطر

-      إيش ناطر ؟

-      تنفيذ الشرط

-      ما سمعتو طلب تنفيذ الشرط

-      بدّها حكي ؟ شايفو واقف ناطر !

-      يمكن بدّو يغنّي !

هنا، أشار له أبو نايف أن قم...

-      إي حقّ. "بعد الشرط ما في مرط"

وقام أبو فهد، إنحنى أمام أبو نايف الذي صعد على ظهره.

-      شعّل سيكارتك

قال أبو فهد :

-      يالله تنشيل العلبة

الكلّ يعرف برودة أبو نايف في الكلام والتصرّف، فصرخوا فيه :

-      روِّج روّج...

مدّ أبو نايف يده إلى جنب شرواله اليمين يتحسّس العلبة في جيبه. ليست هنا ! تحسّس جيب الشمال. ليست هنا ! تحسّس جيب السترة اليمين. ليست هنا. جيب الشمال، ليست هنا ! تحسّس بكفّه الجيب الأيمن في القميص عند الصدر. ليست هنا ! الشمال. ليست هنا. كان الجميع يضحك وأبو فهد يطحطح تحت أبو نايف المهموم الذي أضاع علبته. وعلّق أحد الساهرين : نسيها في البيت عن قصد ليبقى راكبًا ريثما يذهب أحدنا ويأتي بها. فانهمر الضحك من أفواه الجميع وصرخ أبو فهد : يا ماما. عندئذٍ نادى أبو نايف إبنة المضيف الصغيرة :

-      يا جدّو، شوفي العلبة على الدشك ؟

فذهبت الصغيرة وجاءته بالعلبة

-      يا جدّو شوفي المشرب على الطرّاحة ؟

فجاءته بالمشرب وأعطاها أحدهم قدّاحة "أبو فتيل" وهي تمرّ فسلّمتها إلى أبو نايف الذي فتح علبته على مهل وأخذ ورقة منها وراح يكبس عليها التتن المفروم وبدأ يلفّها، بتأنٍّ، سخينة، مكتنزة. ريّل على طرفها ومسحها وراح يقدح ويقدح إلى أن اشتعل الفتيل فأشعل السيكارة ومجّ منها على مهل وهو يتلذّذ بينما أبو فهد يطحّ تحته ويتمتم، وأبو نايف غير عابئ. ما أن انتهى من تدخين سيكارته حتّى كانت عروق أبو فهد قد انتفخت من انحباس الدم فيها وشعرَ بظهره ينكسر.

عاد الجميع إلى الطاولة بعد ساعة من المرح، ما عدا أبو فهد الذي جلس جانبًا على الدشك. فسأله أبو نايف :

-      ما بدّك تكفّي اللعب ؟

فرفع رأسه بالنفي

-      بطّلت لعب الورق ؟

فأحنى رأسه بالإيجاب

-      على طول ؟

-      لأ، لكن بعد جمعة رياحة...

كان الجميع مسرورين. أكثرهم سرورًا كان أبو نايف الذي أخذ بثأره مضاعفًا، فخرج راضيًا مودّعًا :

-      تصبحوا على خير.

 

4- المقامة الثانية

الزمن : قبيل الحرب العالميّة الأولى.

النار تحت الرماد، والريح تلعب، تنفحها رياح الشبّان الأتراك. وفي البلاد تنشط رياح أخرى تنفخها أفواه القناصل الأجانب، أيضًا، والذين لا يكفّون عن الحركة. العداء التركيّ يستفحل ضدّ كلّ ما هو أجنبيّ، لا سيّما ضدّ كلّ ما هو إيطالي بعد أن أنزلت إيطاليا، سنة 1911، قوّات لها في طرابلس الغرب. وفي أنحاء المنطقة، هنا، ظهرت عصابات أشقياء تنشر الفوضى وتقطع الطرق وتسطو على الضعفاء الآمنين في المزارع... في البلدة، حيث يقيم أبو نايف دير للراهبات الإيطاليّات، فيه عدد منهنّ شعرنَ أنّهنَّ مهدّدات، فرأت رئاستهنَّ أن يتركنَ الدير سريعًا إلى متصرفيّة جبل لبنان التي كانت لا تزال تتمتّع بالإمتيازات الأجنبيّة. أطلق رهبان الكرمل في ديرهم المجاور، نداء في البلدة فتطوّع عدد من الشبّان اختاروا منهم خمسة أشاوس لمرافقة الراهبات في هربهنَّ عبر مفاوز الجبال إلى دير لهنَّ في مدينة بشريّ. كان أبو نايف أحد الخمسة. بوصول القافلة إلى أعالي جبل الضنّية، قريبًا من جبل الأرز استروحتها عصابة أشقياء، فأسرعت تقطع عليها الطريق فتولّى أبو نايف، مع رفيقين، التصدّي للعصابة. تمترسوا بين الصخور وراحوا يمطرون العصابة بنار بنادقهم في عمليّة إلهاء، غير قاصدين القتل إنما تغطية رفيقيهما اللذين أسرعا بالراهبات متسلّلين بين الأدغال حتّى تجاوزوا المأزق، إلى برّ السلامة، بالوصول إلى جبل الأرز. بعد ثلاث ساعات من المناوشات، وبعدما اطمأن أبو نايف، مع رفيقيه إلى أنّ الراهبات قد صرنَ في مأمن، انسحبوا متسلّلين، هم أيضًا، تاركين بغلاً كان قد نفق في بداية المعركة. منذ ذلك الحين عرف أبو نايف ببأسه وصلابته.

مرّت شهور قليلة على الحادثة... ذات ليلة، بعد أن انتصف الليل، وكان نائمًا، سمع قرعًا عنيفًا على الباب. هبّ واقفًا وصرخ :

-      مين ؟

-      حبيب، إبن عمّك

-      خير ؟

-      أبونا الريّس عاوزك

-      ما حتّى يطلع الصبح ؟

-      لأ. حضّر الدواب. بدنا ننزل على طرابلس.

وحاول أبو نايف، من غير طائل، أن يثني الريّس عن النزول إلى طرابلس. لماذا ؟ ممَّ تخاف ؟ البلدة مملوءة بالرجال. بنادقنا جيّدة جاهزة ومجرّبة. رصاصنا كثير من خير الله وخيرك. لكنّ الريّس أصرّ : "أعرف. لكنّ الأوامر هي الأوامر. نحنا ما علينا إلاّ الطاعة. جهّز حالك".

وجهّز أبو نايف القافلة التي أجلت رهبان الدير إلى طرابلس، ومنها ركبوا البحر إلى إيطاليا... وانتهت الحرب فوصل إلى كلّ من الشبّان الخمسة نياشين بابويّة وقلائد، فصار أبو نايف يحمل في المناسبات قلاّدة إسم فارس روماني "Cavaliero Romano".

  

5- المقامة الثالثة

في السنوات الأولى للانتداب الفرنسي على لبنان (1926) نشأت حركة تمرّد ضد الانتداب في جرود عكّار والضنّية والهرمل عُرفت بـ"ثورة زين مرعي". وبحجة الإلتحاق بالثوّار نشطت عصابات مسلّحة في الجبال تسطو وتستفرد.

ذات نهار توغّل أبو نايف عميقًا في الغابة في مكان معروف بِبيادر "جورة الخيمة". انتهى من قطع أخشابه وجمعها في سهلة وسط الغابة. ما كاد ينتهي من تحميلها على ظهر البغلة حتّى سمع وقع أقدام مقتحمة وصوت تكسّر الأغصان اليابسة تحتها، فأسرع في إنجاز العمل. شكّ الفرّاعة في الحمل ووضع بندقيّته "الموزر" وسطه ملفوفة بعباءته وانتهر البغلة فانطلقت. ما أن سار خطوات حتى سمع صوتًا ينتهره : مطرحك، مطرحك.

التفت... ثلاثة أشقياء مسلّحين وصلوا على بُعد مئتي متر منه. إنفرد إثنان منهما، كلّ إلى جهة، وصوّبا بندقيتيهما إليه بينما هرول الثالث صوبه يمسك بندقيته بيده اليمين ويضع اليُسرى على خنجر شكّه في زنّاره. سحب أبو نايف "الموزر" من ظهر البغلة وصوّبها باتجاه الشقي الذي لم يخف باعتبار أنّ رفيقيه يساندانه، وتابع تقدّمه بثبات صوب أبو نايف الذي يسرع متقهقرًا ووجهه إلى الشقي وهو يتوسّله :

-      لا تقرّب... لا تقرّب... حلّفتك بالله، خلّيك بعيد... بحياة أهلك، برحمة موتاك، كفّ الشرّ.

ولم يكفّ المسلّح الشرّ بل ثابر على التقدّم، تحرسه بندقيتا رفيقيه اللذين، أمام تمنّع أبو نايف على الاستسلام أطلقا النار إرهابًا فوق رأسه، ولم يصوّبا على صدره خوفًا من إصابة رفيقهما. أطلقا ما في الحشوة من رصاص وعكفا يملآنها من جديد، فاستغلّ الوقفة أبو نايف وأطلق رصاصه فأردى الشقيّ، وأسرع إلى البغلة فقطع بخنجره حزامها وقلب الحِمل عنها، ورمى عباءته على ظهرها ووثب فوقه يخزّها بنصل الخنجر بأقصى سرعته بينما كان الرصاص يئزّ حواليه وفوقه في الشجر من غير أن يصيبه إلى أن فاز بالنجاة.

وصل أبو نايف البلدة وعبر زقاق الحيّ راكبًا بغلة جرداء بندقيّته منكّسة في كتفه، وبوجه متجهّم، على مرأى كثيرين من الأهالي، فطار الخبر في الحيّ. نزل أمام الباب فخرجت إليه أمّ نايف :

-      يه يه ! شو صاير معك يا رجّال ؟ وين حِمل الخشب ؟

-      ما صار شي. خِدِي البغلة اربطيها مطرحها.

رمى إليها بالرَسن ودخل ليخبّئ البارودة. فهمت عندئذٍ أمّ نايف أنّ أزمة، لم تكن في الحسبان، قد وقعت وراحت تنهش صدر أمّ نايف، جرّت البغلة إلى مربطها وعادت ودخلت وراءه.

-      شو صار معك ؟ ليش ما بتحكي ؟

-      قتلت قتيل.

أجابها بصوت خافت فصرخت بأعلى صوت :

-      يا ويلي ! يا دلّي ! يا شحّاري...

فوثب إليها كالنمر وكمَّ لها بيده فمها وانتهرها :

-      اسكتي يا...

فسكتت

عندما انتشر خبر عودة أبو نايف الغريبة هذه، بدأ الأهل يتقاطرون، يسألون ما الخبر !

وحكى أبو نايف الحكاية عدّة مرّات. كلّما جاء وفد جديد حكى. وكلّما حكى كان الشبّان من بين الحضور يحيّونه متحمّسين :

-      يعمر دينك يا بو نايف. عافاك، هيك تكون الرجال يمَّا بلا.

أمّا الشيوخ، فكانوا يستمعون واجمين. وكان أبو نايف يبرّر فعلته :

-      بهالحال كنت إمّا قاتل إمّا مقتول. لو كنتو مطرحي شو بتختارو ؟

-      طبعًا الدفاع عن النفس حقّ مشروع. لكن...

كان همّ الشيوخ والعقّال ما سيلي الحادث : خلاف مع الجوار الذي ينتسب إليه القتيل. "لا أحد يخرج من حيط" أي لكلّ إنسان عزوة وعشيرة. في العصبيات لا يبحت أحد عن الحقّ والعدالة. شريعة الثأر تسود. ثمّ هناك شكاوى واستنطاق وتضييق، وديَّة القتيل التي ستُغرّم بها البلدة بمجملها... كان أبو نايف يوافقهم الرأي لكنّه كان يعود ليبرّر فعلته بالقول :

-      ما كان في مهرب. إمّا قاتل وإمّا مقتول ! وحدها إمّ نايف كانت تغرّد خارج السرب، كان همّها في مكان آخر :

-      ضيعان التعب... ضيعان الفرّاعة، حقّها سبع فرنكات. ضيعان حمل الخشب. يا خسارة، تسع عشر فرنكات. كانت ضرورة ؟! ضيعان السَمَر[5]. ضيعان الحبل. شدّ السمر بدّو وقت أكتر من جمعتين... تعطّل أبو نايف عن الشغل. البغلة معلوفة موقوفة. خسارة فوق خسارة. دخيل الله لما يبعت المصايب بعضها فوق بعض.

هذا الخطاب كان يرد على لسان أمّ نايف نقًّا متقطّعًا... كان ينتهرها أبو نايف فتسكت. يتهدّدها بالعصا فتبتعد. يدفعها البخل المتأصّل في نفسها إلى النقّ ولا تحسب حسابًا إلاّ للربح والخسارة. أما أن يُسجن أبو نايف فأمر لا يخطر على بالها. أمّا أن تغرّم البلدة، وأن يضيّق عليها فلا يهمّها بشيء. تغنّي على ليلاها ولا تهمّها ليلى أخرى.

في اليوم التالي كان قد وصل الخبر إلى أعيان البلدة، ومن بينهم أبو سليم أفندي الذي استدعى أبو نايف :

-      شو صار معك يا أبو نايف ؟

-      كذا، على كذا، على كذا...

-      الواقعة وقعت. خلص. ما قصّرت. لا تخاف.

نزلت كلمة "لا تخاف" بردًا وسلامًا على قلب أبو نايف المجمّر، فسأله :

-      شو العمل ؟

-      بكرا تنزل معي على طرابلس، على السراي. وخيرًا إن شاء الله.

-      سلّم نفسي للحكومة ؟

-      نعم، تعترف بالواقعة. تشرح ما حصل، نحقّق معك ونرجع سوا.

-      معقول ؟ ما في حبس ؟

ابتسم أبو سليم

-      ما في حبس. واثق فيِّي أم لا ؟

-      بلى أفندينا. كلّ الثقة. اعتمادنا عليك دايمًا. لكن قتيل بدون حبس ؟

-      ما عليك. لا تخاف.

أبو سليم أفندي مستنطق يعمل في عدلية الانتداب ومُطّلع على الوضع المتأزّم بين ثورة زين مرعي والعسكر الفرنسي في جرود الهرمل وعكّار والضنّية فوجد بذكائه البصير أن عصابة الأشقياء هذه تشكّل فلولاً من عصابة زين مرعي التي يطاردها العسكر الفرنسيّ، ولربّما كان أبو نايف يستحقّ وسامًا لا عقابًا.

بالفعل نزل أبو نايف مع أبو سليم أفندي إلى السراي في طرابلس بعد أن لقّنه ماذا سيقول وكيف سيتصرّف، ثمّ أعاده معه مساءً إلى البلدة بريئًا من كلّ نقطة دمّ. 

 

6- المقامة الرابعة

ذات صباح ربيعيّ بكّر أبو نايف كعادته ليحتطب. على المقلب الثاني للتلّة التي قصدها وقع على صنوبرات كسّرها ثلج الشتاء الثقيل. حطبٌ جزلٌ فطير، جفّ نصف جفاف. سهل على القطع، خفيف على الحمل، إذا نقله ورماه في البستان وراء البيت، طوال الصيف يبس وصار وقودًا جيّدًا لنار الشتاء. أقبل عليه يحتطب بحماسة. أنهى الحمل الأول وانصرف إلى الثاني فأنهاه بعيد الظهيرة. ولمّا آنس في نفسه نشاطًا وفي النهار متّسعًا أقبل على احتطاب حمل ثالث فأنهاه قبيل المغيب. غطّى الحملين بأغصان الشجر مموّهًا حتّى لا يسبقه إليهما أحد ريثما يعود في اليوم التالي وينقلهما إلى البيت. حمّل الثالث على البغلة وعاد بها.

في أثناء ذلك الغياب الطويل قلقت أمّ نايف عليه أشدّ القلق، وباتت تطلّ على الدرب البعيد من فوق السطح ساعة بعد ساعة علّها ترى طيفًا مقبلاً وراء دابّة. كان فألها يخيب مرّة بعد مرّة، إلى أن هوّنها الله ووصل أبو نايف سليمًا مُعافى... أخبرها أبو نايف مزهوًّا، بما حصل فزغردت من الانبساط، لأنّ في ذلك كسب كبير في يوم واحد :

-      اسم الله عليك يا بو نايف، ثلاثة أحمال حطب بيوم واحد ؟ شي حلو. الله يعطيك العافية. والله إنت رجّال، رجّال.

-      آي. الله يعافيكي. الرجّال لازم ياكل قدّ التعب. شو عملتِ غدا ؟

-      ما شي أنا تغدّيت "طلماية" وقرص شنكليش، كنت ناطرتك حتّى إسألك شو حابب تتغدّى.

-      إنتِ تغدّيتِ، أنا ما تروّقت وما تغدّيت وصار وقت العشا.

-      آي لعيونك. يلاّ، رح إقلي بيضتين تلاتة مع رغيف خبز وكم حبّة زيتون. أكل كتير من خير الله وخيرك.

-      عال، يلاّ، عجّلي أنا جيعان.

أبو نايف يحبّ البيض مقليًّا أو مسلوقًا. لكنّ خصلة الشحّ عند أمّ نايف تُغيظه دائمًا. تعب كلّ النهار يساوي بيضتين أو ثلاث ؟...

عادت أمّ نايف تحمل أربع بيضات مقليّات وبرغيف خبز وصحن زيتون فيه حبّات، أكلها كلّها أبو نايف ودفع بالمقلاة على الأرض تزحف، وقال :

-      تروّقت، عجّلي بالغدا.

-      أي غدا ؟ هيدا غدا. أربع بيضات مقليّة بسمن.

انتهرها انتهار مَن لم يشبع :

-      هادي ترويقة عجّلي بالغدا.

راحت وعادت بأربع بيضات أخريات مقليّات وبرغيف آخر وبزيتون أيضًا وفي ظنّها أنّه سيعجز عن إكمال أكلها فتضع على عينه ما يكسرها. قدّمتها وقالت : كول حتّى تنفزر من الأكل. تمان بيضات بتقتل الغول. فأجاب : آي الغول. بو نايف لأ.

وتغدّى أبو نايف ومسح المقلاة بلقمة خبز، فلمع قعرها وحذفها أمام عينيها، وقال :

-      صار وقت العشا. جيبي العشا.

فصرخت :

-      من عقلك يا بو نايف ؟ بعد فيك تاكل ؟

-      لأ من بطني. نعم بعد فيّي آكل.

-      يا ما شاء الله ! أنت زلمي واحد أو جمهور ؟

-      بلا طول حكي. جيبي العشا.

-      العشا عَ النار. شوّي وبيطلع.

-      شو عاملي ؟

-      برغل على عدس.

-      قلّيتِ ؟

-      بعد.

-      قلّي واتركي دمعة زيت بالمقلايي مع بصل محمّص. واسكبي البرغل مع زيتون وفجل وبصل.

لم تنهض أمّ نايف لتُلبّي بل تباطأت وراحت تختلس النظر لترى عمّا إذا كانت عاصفة غضبه على وشك الهبوب.

... وتأكّدت من هبوب العاصفة عندما سحب العصا عن جانبه فوق الأرض :

-      سمعت أو ما سمعت ؟ أيش قلت ؟

فهبّت وأسرعت لتأتي له بما طلب، وهي تبرطم. وضعت الأكل أمامه وانسلّت من الباب.

-      وين رايحة ؟

-      راجعة. تعشّى وارتاح شوّي حتّى كنت رجعت.

فابتسم وهو يأكل، عارفًا أنّها راحت تخبر أهل الحيّ عن فعلة أبو نايف.

 

7- المقامة الخامسة

سنة 1960 تحدّد موعد الانتخابات النيابيّة، في لبنان، في الربيع. كان العهد الجمهوريّ الجديد راغبًا في أن يأتي بأكثرية نيابيّة واسعة كما هي العادة في كلّ عهود الحكم الجديدة في هذه البلاد. نشط "الدكتلو"[6] يصرّح ويستصرح.

يصرّح بإسم من لا يريد أن يكشف عن ميوله السياسية فيورّطه. ويستصرح من بات مكشوف الميول. هكذا كان يقوّي قلوب المتردّدين والمخلّفين عن الركب فيمشون... ارتجل أصحاب "الدكتلو" في الدائرة التي ينتمي إليها أبو نايف، مرشّحًا ما كان في بال أحد، بل ما كان في بال نفسه، وما هو من أهل السياسة، لكنّه مضمون الولاء، وصاروا يلمعون اسمه، فاتحين له أبواب الدولة، وموجّهين إليه أصحاب الحاجات طالبي الخدمات.

كان أبو نايف من أصحاب المبادئ المعروفين في البلدة. لا يتخلّى عن صديق مهما حصل. لا يحنث بوعد ولو كسرت ذراعه. لا يبيع قناعته بذهب الأرض... وكان يوالي مرشّح البلدة بينما كان مرشّح "للدكتيلو" من بلدة أخرى مجاورة. أكثر : مرشّح بلدته ينتسب إلى عائلة صديقة لعائلته أبًا عن جدّ، وإليها ينتمي أبو سليم الذي ردّ إليه، وإلى البلدة، الأمان الذي انسحب منهما إثر مقتل الشقي على يده في الحادثة المعروفة. كان من الطبيعي أن يتمسّك به ويعمل له، ويقف على الجبهة المضادّة للعهد الجديد والمرشّح الجديد.

ذات يوم، وبتوجيه من "الدكتيلو"، وصل إلى البيت، من بيروت، نايف ولد أبو نايف الوحيد، عند العصر سلّم وعانق الوالدة والوالد اللذين أسعدتهما المفاجأة، من غير أن يعرفا سبب الزيارة. بعد أن شربا القهوة، وتحادثا في كلّ شأن عائلي، وغير عائليّ، ما عدا السياسة، قامت أمّ نايف لتأتي بأفضل الديكة عندها فيذبحه أبو نايف وتعدّ منه عشاء لِنايف، فاستوقفها نايف : لا تعذّبي حالك يا أمّ نايف. أنا معزوم عَ العشا مع أصحاب وزملاء... عندئذٍ فهم أبو نايف الهدف من الزيارة. ظنّت أن تبكير حضور نايف إلى البلدة هو لتفقّد الأهل ونيل الرضى كما بلّغ، فانطلق لسان الوالدة بالدعاء، وأسرعت إلى غرفة نايف تعدّ السرير وتفرشه بالملاءات النظيفة ليكون جاهزًا متى عاد من العشاء والسهرة. أمّا أبو نايف فثابر على التحديق بوجه نايف مستفسرًا...

-      عند فلان

وذكر إسم المرشّح الجديد... هبّ واقفًا كمن لذعته عقرب

-      كيييييييييييف ؟

-      ةنعم، عشا عند فلان. إيش فيها ؟

-      فيها كتير

-      كتير ؟... كيف ؟

-      هادا ضدّنا

-      مين قال ؟

-      أنا... وإنت ما بتعرف وين نحنا ؟

-      بعرف وين كنّا، اليوم الموضوع تغيّر. المرشّح الجديد مرشّح الدولة. الدولة أم ونحنا ولاد الدولة.

-      لأ نحنا مع ربيعنا. مع إبن عترتنا. أنا ما بغيّر مبدئي.

-      لكن نحنا عتّرتنا الدولة. حليبنا منها ولحم كتافنا منها. الدولة مصدر عيشنا.

-      أنا مصدر معيشتي عرق جبيني. لحم كتافي من الله وتعب إيديّي.

ومسح أبو نايف جبينه بسبابته ليدلّل بالإشارة على ما قال، والذي، أي جبينه، تندّى من جرّاء شعوره بالاختناق بعد الذي سمع ورأى من وحيده. وقف وتابع الكلام وهو يدير ظهره ليخرج :

-      عرق جبيني الّلي سقاك لتكبر، وإيديّي اللي حملتك حتّى تقوى وتوصل لمطرح ما وصلت.

-      ما حدا ناكر فضلك. الله يطوّل بعمرك. لكن صار لازم تتطلّع للمستقبل.

-      يعني بدّك تتعشّى عند الجماعة ؟

-      نعم.

-      طيّب... من هونيك رجاع برّاني على بيروت.

وخرج أبو نايف ليسهر في منزل مرشّحه وليبلّغ عمّا هو حاصل. وخرج نايف إلى العشاء الموعود.

عاد أبو نايف عند منتصف الليل إلى البيت لينام. لم يأته نوم. هو قلق ممّا سيحصل. مستاء ممّا حصل. واقع في حرج... قالوا له في السهرة : ولو ؟ إيش قول الناس لمّا يعرفوا إنّو نايف إبن بو نايف غيّر مبدأ أبوه ؟ أبو نايف عضم من عضام رقبتنا. أقرب الناس لنا. أحبّ الناس عَ قلبنا، ما قدر يمشّي إبنو ؟ على مين العتب، عَ الغريب ؟ إنت شو رح تقول عن نفسك : من بيت إبني ضُربت ؟ يا حرام الشوم على هالزمن الخاين...

حقنوه فاحتقن أبو نايف حتّى الجمام. معنوياته في الأرض. هو الذي كان دائمًا عمدة الحزبيّة وركنها المتين. صار يعيّر بإبنه، وحيده ! وكان يتردّد في نفسه كلام : من بيت إبني ضُربت، من بيت إبني ضُربت.

مرّت ساعة، ساعتان بعد منتصف الليل، ولم يأتِ النوم. كيف يأتيه النوم ؟ جمرة في صميم فؤاده تنفخ فيها رياح الذكريات وهو يرى فيها طفله في قماطه، يناغيه ورياله يفور من ثغره ويسيل على جانبيه فوق مريلته. ويسمع دبيب يديه ورجليه وهو يحبو ويلغط. و... و... وإذ يصرّ المفتاح في الباب وينفتح. نهض مسرعًا فأدرك إبنه نايف يهمّ بأن يدخل إلى الحمّام فأمسك بزنده وجذبه إلى الوراء، فشعر نايف وكأنّ ملزمة عصرت زنده.

-      بيّي ليس ماسكني وشادد عليّ ؟

-      بيّك ؟ ما دام عارف إنّي أبوك ليش خالفت كلامي ورحت تتعشّى عند الجماعة ؟

-      ولو – شو أنا قاصر بنظرك ؟ رجّال مجّوز وعندو ولاد لازم يطلب إذن من أبوه حتّى يقبل عزيمة عند حدا ؟

-      إي معلوم. إنت غير ولد وأنا غير أب.

-      طيّب. اتركني فوت عَ الحمّام، وبعدين منحكي.

-      لأ. مطرح ما أكلت روح فضّي بحمّامهم.

فأدار نايف ظهره وخرج. استأجر سيّارة خاصة وعاد إلى بيروت وحرد على أبيه أعوامًا.

خسر أبو نايف الانتخابات، وخسر ابنه، إلى حين، لكنّه لم يتخلَّ عن مبدئه ! 

 

8- المقامة السادسة

موسم دود الحرير والطقس ربيع. اليرقات تتحرّك على أطباق الجلّ اليابس، تلتهم ورق التوت الأخضر بنهم يقوى يومًا بعد يوم، يسمع لحركتها أزيز خفيف. آن الأوان لتنتقل من الأطباق إلى الحشيش الذي يفرش على الصمدة، ومنه إلى الشيح عندما يحين زمن حياكة الفيالج. ضاق الوقت أمام أبو نايف الذي نهض مبكرًا ليجمع الأخشاب المطلوبة. أمّ نايف تدخل وتخرج وهي تنقّ، كعادتها، على مسمع أبو نايف، وبصيغة الغائب :

-      شو هالزلمة ! من يومين كان لازم تخلص الصمده. حشرنا الوقت. ما سمع منّي. غيرنا سبقنا. فطس الدود فوق بعضه بعض وأبو نايف يمطّها. لو كنت أرملة كنت لقيت رجّال يرفع الصمدة... كان أبو نايف يعيرها أذنًا طرشاء حتّى بلغ نقيقها مبلغًا نخر أذنيه وألهب أعصابه فانتهرها بقسوة وعلى مسمع من الجيران، فخرجت مُسرعة، وغابت عن ناظريه لساعة وبعض الساعة، ريثما تقدّم أبو نايف في إنجاز العمل، ضامرة في نفسها مكايدته عندما يقارب النهاية. عادت ودخلت عليه وهي تصفّق كفًّا بكفّ :

-      ياي ياي، شو هالصمدة العاملها موسى برام أنطون. حلوة حلوة.

لم يلتفت إليها لأنّه عارف بنيّتها. خرجت لدقائق بحجّة عمل ما وعادت :

-      يا عمّي، موسى برام أنطون رجّال مِذوق. شغلو حلو كتير.

ولم يأبه لها أبو نايف، فجلست صامتة تراقب العمل للحظات. ثمّ :

-      أنا ما شفت بحياتي شغل حلو متل شغل موسى برام أنطون !

... أبو نايف لا يسمع ولا ينظر. منهمك في عمله. ثمّ بعد حين، وبعد ان اغتاظت لأنّها لم تستطع إغاظته قالت :

-      غابت الشمس وانت بعدك مطرحك. موسى برام أنطون بساعتين تلات ساعات كان خلّص. يا عيني على هاك الصمدة القويّة الحلوة.

هذه المرّة التفت إليها التفاتة مهدّدة لكن من غير أن يتلفّظ بكلمة، فسرّها أنّ مشاكستها قد فعلت فعلها، فتشجّعت وغامرت بقولها :

-      ليش بتطّلع فيِّي هيك ؟ آي. صحيح وألف صحيح. موسى برام أنطون أذوق منّك بشغل الصمدات. الطابق التحتاني عندك خشباتو عوجا. إذا هزّيت الصمدة بأصبعي بتوقع.

هنا انتفخ أبو نايف. انتفخ وانتفخ فانفجر. قام إلى الفرّاعة، تناولها ونزل بالصمدة كسرًا وتحطيمًا، وصرخ بأمّ نايف :

-      روحي جيبي موسى برام أنطون يعمّلك صمدة أحلى. وترك الدمار يملأ الغرفة وراءه وخرج ولم يعد حتّى المساء.

انتشر الخبر في الحيّ انتشار الضباب فوق السطوح. أذاعته أمّ نايف، وهي راغبة في الصلح، ورجت الجيران والأنسباء أن يطرّوا الحكاية مع أبو نايف ليعود ويبني واحدة ثانية، لأنّ دود الحرير لم يعد يحتمل الإمهال، وقد يذهب موسم الحرير هباءً.

 

9- المقامة السابعة

انتهى موسم الحرير وكان مقبلاً. جاء الصيف وانتشر الدفء في الطبيعة فلم تعد البيوت بحاجة إلى المدافئ. مدفأة أبو نايف من ذوب الحديد المضروب بالرمل (Fonte)، ما يجعلها ثقيلة. تعاون على حملها مع أمّ نايف ونقلاها إلى القبو. نسي كلاهما وجود المدفأة – كلاهما ؟ - بانتظار حلول فصل الأمطار والصقيع.

ذات نهار احتاج أبو نايف إلى المنجل فلم يجدها مكانها. عجبًا ! ما أضاع منجله يومًا قطّ. لها مكانها المعروف ! فتّش عنها في كلّ مكان ولمّا لم يجدها ظنّ أنّ أمّ نايف وضعتها في مكان ما من القبو ونسيت مكانها فوضعت فوقها أغراضًا أخرى، فما كان منه إلاّ أن عمد إلى إخلاء القبو من الأمتعة واحدًا واحدًا حتّى إذا وجد المنجل عاد ورتّب الأشياء من جديد. كاد يأكله الغبار والأوساخ من غير أن يجدها، فكان يلعن ويتهم، وتروح به الظنون شرقًا وغربًا. وصل إلى المدفأة عتل همًّا في نقلها، وحده، من غير مساعدة أمّ نايف. أم نايف في الحيّ تصطبح مع النساء الفارغات الأشغال. من حنقه، شدّ عزمًا ونقلها إلى صدره فاتّكأت عليه...! شيء له خشيش تزحلق فيها! أنزلها إلى الأرض. وقف، عجبًا! ما كان ذلك ؟ فتح بابها ومدّ يده. كيس من نايلون. في قلبه كيس ورق. في داخل كيس الورق لفّة من قماش كبيرة. على أيّ شيء كلّ هذا الحرص ؟ فتح اللفافة القماشيّة : نقود ورقيّة ملفوفة. كنز ! لِمَن الكنز ؟ معروف. عدّ النقود : ألفان وخمسمئة ليرة لبنانية من كلّ فئات النقود حتّى الفرنكات الورقيّة. ألفان وخمسمئة ليرة لبنانية، يوم كانت الليرة "تحكي" ! أي ما يعادل ألف دولار أميركي. لا يحتاج الأمر إلى كثير تفكير. إنّها مدّخرات أمّ نايف، ومن وراء ظهره : آه يا أمّ نايف، يا قهرمانة. يا حفيدة الفينيقيّين، يا يهوديّة... وتابع يغدق عليها النعوت مما تيسّر في علمه عن البخل والبخلاء وذلك لأنّ أمّ نايف كما يظهر، كانت تقتطع ممّا يعطيها من خرج لشراء حاجيات البيت وتخبّئ لليوم "الأحمر" كما سيجيء، ولم تكن نفسها تسخو حتّى لفكّ ضيقة أبو نايف في بعض الظروف الصعبة، فتتركه يستدين، ويردّ الدين، بمضاعفة الجهد وبشف النفس، بينما هي تكنز المال وترصده بتكتّم صفيق. أعاد أبو نايف الصرة على ما كانت عليه وردّها إلى مكانها في المدفأة، وحملها إلى البستان. كم كانت خفيفة على الحمل هذه المرّة، فكأنّ الليرات تُخرج من الضعف قوّة. وضع المدفأة في طرف البستان، قبالة الطريق، لتراها أمّ نايف من حيث ستعود إلى البيت. ثمّ راح يحمل القش والقضبان اليابسة والحطب. من غريب الصدق، بل من مآثر الكنز في المدفأة أنّ أبو نايف وجد المنجل معلّقًا في عبّ[7] آخر توتة قطع قضبانها في الربيع، في موسم دود الحرير.

بعد أن جهّز الحطب ووضعه إلى جانب المدفأة، أخذ يتلهّى هنا وهناك متربّصًا لأمّ نايف عندما تعود. عندما رآها مقبلة من بعيد أخذ يرمي بالحطب على المدفأة بقوّة بحيث يلفت نظر أمّ نايف. وقفت فاتحة فمها. وضعت كفّها فوق عينيها وحدّقت لتتأكّد من حقيقة ما ترى. أغمضت عينيها وفتحتهما، هي هي في يقظة أم في منام ؟ هذه المدفأة، ما شأن أبو نايف بها ؟ أخرجها إلى البستان ؟ صرخت به :

-      إيش ما تعمل ؟

-      انت أيش شايفة ؟

-      شايفة بو نايف يجمع قش وحطب فوق الصوبيا (المدفأة)

-      هيئتك بتشوفي مليح.

إنطلقت راكضة كمن أُصيب بطلق ناري فهرول طلبًا للنجاة. وقفت قرب المدفأة متحفّزة للانقضاض، متريّثة علّها تنقذ الموقف من غير فضيحة !

-      شايفة بو نايف لكن ماني فاهمة !

-      أيش هوّي الما إنتِ فاهمتيه ؟

-      قش وحطب على "الصوبيا" (المدفأة)

-      آى. لشو قَولك ؟

-      ليش طلعتو عالبستان ومكدّس فوقو الحشيش والحطب ؟

-      بدّي إحرقو.

-      شو خرفت يا بو نايف نحنا بعزّ الصيف ! حتّى يرجع تشرين بترجع الصوبيا تصدّي.

-      لأ، لا تخافي عليها. ما بقى تصدّي مسحتيها بالزيت، وبعد الحريق راجع إمسحها بالزيت حتّى تصير جديدة.

-      طيّب كفّي شغلك واتركلي الصوبيا. هيدا شغلي أنا بكفّيها حرق.

-      ما عندي غير هالشغل.

-      يا عمّي اتركني أنا كفّي الشغل.

قالت هذا وانحنت على المدفأة تريد الاهتمام بها، فأزاحها بيده وأخرج القدّاحة من جيبه وقدح وأعطى النار الهشيم فهبّ. "وقعت الفأس في الرأس"، فجنّ جنون أمّ نايف، فنزعت بسرعة مئزرها عن وسطها وهجمت على النار تخبطها حتّى انطفأت. وراءها أبو نايف يضحك مغتبطًا بنجاح مكيدته، تاركًا إيّاها تطفئ النار منتظرًا نهاية الفصل الهزلي. لم تكد النار تنطفئ حتّى رمت بنفسها على المدفأة وأخرجت الصرّة، ضمّتها إلى صدرها وفرّت صوب البيت. كان أبو نايف أسرع، فأدركها بقفزتين وأمسك بزندها بكفّ فولاذ.

-      هاتي حتّى شوف أيش هادا ؟

حاولت أن تتمنّع لكنّه جذب الصرّة وراح يفتحها أمام عينيها حتى أفرج عن لفّة الليرات، وعرضها أمام عينيها :

-      آه يا أمّ نايف آه...

إحمرّ وجه أم نايف المجعّد فبدا كوجه مراهقة إبنة أربع عشرة سنة. ضُبطت أمّ نايف بالجرم المشهود، فقالت بصوت كسير :

-      أنا كنت رايحة خبّرك بأوّل فرصة !

-      تخبريني بعد كلّ هالسنين ؟...

وضع الرزمة في جيب شرواله وترك كلّ شيء في مكانه واتّجه صوب البيت، فقالت بصوت كسير :

-      أخدتن كلّن ؟

-      آي كلّن.

-      كلّن، كلّن ؟

-      آي، كلّن، كلّن

-      بدون ولا ليرة إلي ؟

-      بدون أي ليرة إلك

-      بدّك تحرمني من جنايي ؟

-      كلّ هاك السنين كنتِ سعيدة بالكنز المخبّأ عندك. بيكفّي، إجا دوري أصرفهن على كيفي.

فقالت وهي كسيرة، تستشعر، لأوّل مرّة، طعم الهزيمة المرّ.

-      ولو يا بو نايف ؟ أنا أمّ نايف ؟ نسيت كلّ هاك العِشرة بإيّامنا الحلوة ؟

-      لأ ما نسيت. بدّي أعرف لمين مخبّاية هالمصريات وإنتِ صرتِ على حفّة قبرك !

قال ذلك أبو نايف وهو يدخل إلى البيت متحسّسًا بيده جيبه التي كانت فارغة فصارت ملأى بفعل الانتصار الكبير الذي أتاحته له الصدفة المحض على إله اللدود.

 

10- المقامة الثامنة : أبو نايف ميكال أنجلو

أبو نايف مكاري أبًا عن جدّ، يعشق الدواب الحمري (الخيل والبغال والحمير)، ولا يقتني، منها، إلاّ العرائس، ولا يقبل أن يكون، في البلدة، دابّة أفضل من التي عنده، لذلك هو يبذل الغالي، مقابل أن يقتني الأفضل منها، وجميع الناس، في البلدة، يقرّون له بذلك، ويمتدحون ذوقه ومعرفته.

أفضل البغال ما كان بعمر الخمس سنوات، إذ يكون قد قسا عوده، وتعيش الدابة، بين الخمس وعشرين سنة والثلاثين، بعد السنّ الخامسة عشرة، تبدأ الدابّة تفقد عزمها، لذلك يقتنيها أبو نايف إبنة خمس، يروِّضها على ذوقه، وعندما تقترب، من الخامسة عشرة، يبدأ في البحث عن غيرها، عندئذ يتسابق المكارون، في البلدة والجوار، إلى شراء بغلة أبو نايف، لعلمهم أنها، لجودة نوعها، لا تزال صالحة للخدمة، حتّى الخامسة والعشرين، بل أكثر.

لم تختلف هذه المرّة عن سواها، سوق مدينة حمص هو الأفضل والأغنى، في بيع الدواب؛ ذهب صبحًا، سيرًا على الأقدام، يحمل خرجًا على كتفه، عاد، بعد الظهر، راكبًا بغلةً، هي أقرب أن تكون فرسًا أصيلة، كان مزهوًّا، يكاد يطير من سعادته، كان مطمئنًّا إلى أنّها ستدهش الناظرين، وسيتباهى بها، ليس أمام مكارية البلدة، بل أمام مكارية الناحية بأجمعها... ما كاد أهل البلدة يعلمون بعودته، حتّى توافدوا عليه، يباركون ويهنّئون بسلامة العودة؛ كانت البغلة على مربطها، أمام البيت، أبو نايف يجلس قبالتها، تحت شجرة التوت العملاقة، ينظر إليها ولا يشبع، وقد أمال لبّادته المعصوبة بشال، إلى جانب رأسه، علامةً على الزهو.

كان يأتي الواحد، من أهل الحيّ، يدور حول البغلة، يتأمّلها من كلّ جانب، بإمعان، ثمّ يتّجه إلى أبو نايف مبتسمًا، قائلاً : إسم الله، مبروك، كاملة ومكمّلة... ما فيها عيب... يا عمّي هيدا أبو نايف ! ما حدا أعرف منّو، وأذوق وأكرم في شراء الدواب؛ فيجيب أبو نايف متصنّعًا التواضع : الله يبارك فيك. صحيح البغلة كويسة، لكن ما حدا خالي من العيب، لا الإنسان ولا الحيوان. يبتسم الضيف، من غير كلام، معتبرًا أنّ أبو نايف إنّما يقول ذلك، من قبيل التواضع، لأنّ البغلة خالية من العيب، فعلاً، من أيّ عيب... ثمّ يأتي آخر : سبحان الخالق، كأنّ البغلة عروس. كاملة الأوصاف. الله يطرح البركة. ويجيب أبو نايف : الله يبارك فيك. ثمّ يقفّي : ما حدا كامل، وهالبغلة ما هي خالية من العيب.

-      لا أنا ما شفت فيها عيب.

-      بلى. فيها عيب...

وهكذا، كلّما أتى واحد، يبارك ويُثني على البغلة، وعلى مفهوميّة أبو نايف، في حسن اختياره...

امتلأ البيت بالمهنّئين، وبإشارة من أبو نايف قامت أمّ نايف لتأتي بالحلوينة، فوزّعت التين اليابس والجوز، في الصحائف، ووضعتها أما الحضور. كانت، هذه المرّة، أمّ نايف سخيّة.

... وسأل الحضور أبو نايف مستنكرين :

-      كيف بتقول : في البغلة عيب، وهيِّي ما فيها عيب ؟

-      بلى فيها عيب...

-      وين هو العيب ؟ كلّنا فحصناها ودقّقنا، وما لقينا فيها عيب.

-      بلى، فيها عيب...

-      نقرّ لك بالمفهوميّة في الدواب، لا ننكر. لكن مَ معقول كلّنا غلطانين وأنتَ، وحدك، معك حقّ ؟

-      بلى فيها عيب...

-      طيّب دلّنا على عيبها.

-      إنتو اكشفوه.

عندئذٍ قام ثلاثة، أو أربعة، من المكارين العتاق، العالمين بمزايا الدّواب، يتفحّصون البلغلة متأمّلين، واصفين مزاياها بالتفصيل، متناوبين على ذكر جميل صفاتها، بدءًا من أمام إلى وارء... قال أحدهم :

-      عرفها ممشّط... والشعر مسترسل، على جانب رقبتها بطوله، كشعر راقصة شرقيّة.

وقال الثاني :

-      غاربها مرتفع، يحجز سمرها، فلا يحتاج إلى حياصة.

وقال الثالث :

-      قصبة أنفها مرتفعة، مستقيمة كمسطرة.

-      منخاراها واسعا، يستوعبان كميّة من الهواء، يملأ الرئتين بالأوكسجين فلا تتعب. مشفراها رقيقان، ينكشفان عن نتاشات (أسنان) بيضا، شابة، فكأنّ أبو نايف فرشاها بمسحوق الفحم، وغسّلها بالصابون.

فعلّق أكثر من واحد : أبو نايف بيعملها !... فاستضحك الحضور؛ وكان أبو نايف راضيًا، لأنّه فهم أن هذه السخرية الخفيفة، إنّما تدلّ على أنّه شديد العناية بما يقتني.

وتتابع اللجنة الفاحصة تقييمها :

-      قلتها (محجر العين) واسع تدور فيه عين سوداء وديعة، لامعة، صافية.

-      حوصها (الفجوة تحت الفك الأسفل) واسع، يعني الفكّان كبيران.

-      عنقها مرتفع يكاد يكون مستقيمًا.

-      لبانها (صدرها) مرتفع، صلب كلبان الأدهم، فرس عنتر بن شدّاد.

-      حوشبها (مفصل الساق) كرويّ، مدمج، لا ترى فيه عرقًا نافرًا.

-      حوافرها صلبة، مسكوبة... عرقوبها متين، غليظ.

-      سنبكها محدّد، رقيق كإزميل (السنبك : مقدّم الحافر)

-      خاصرتان ضامرتان كفرس السباق.

-      كفلاها صقيلان ينزلق عليهما الزيت.

بعد ذلك عادت اللجنة الفاحصة، إلى مكانها.

قال كبير القوم :

-      أسمعت يا أبو نايف ؟ شو رأيك بفحص اللجنة ؟

-      ممتاز. كلّ ما قالوه صحيح. لكنّهم لم يكشفوا العيب.

فضجّ القوم وتذمّروا :

-      طيّب. خلّصنا، قول.

فأجاب بهدوء وبرصانة، وبصوت يكاد لا يسمع :

-      عيبها إنها ما بتحكي !

فائدة : عندما انتهى ميكال أنجلو من نحت تمثال موسى، وقف ينظر إلى روعته وكماله، فاقترب منه وهو يحمل مطرقته، فضرب بها ركبة التمثال وقال : تكلّم.

 

11- المقامة التاسعة : مرتمورة أبو نايف

هذه المرّة أحسّ أبو نايف بالتعب. ربّما لأوّل مرّة يعود إلى البيت بمثل هذا القَدر من التعب. كان قد أوغل صباحًا، بعيدًا في أعماق الغابة، لأنه كان مطلوبًا، منه، حمل أخشاب، لسقف منزل. قطع ست عشرة شجرة، انتقاها مستقيمة، في عزّ شبابها، أزال فروعها، وقطع رأسها، وراح يصقلها بفأسه، واحدة بعد واحدة، مسوّيًا رأسها بكعبها. عندما وصل إلى البيت، أنزل الحمل الثقيل عن البغلة، ونقل الأخشاب ليسندها إلى حائط البيت، من جهة الشرق، قبالة الشمس لتيبس، وربط البغلة أمام البيت، ودخل ليتناول فطوره، متأخّرًا، بعد الظهر.

كانت أمّ نايف جالسة، في فيء التوتة، وفي حرجها صينيّة، عليها برغل تنقّيه من الزؤان والقشّ، وحبوب الأعشاب الغريبة. قال لها أبو نايف، على غير عادته : أطعمي البغلة يا سوسان. لكنّ أمّ نايف لم تردّ معتبرة أنّ هذا العمل ليس من شأنها، بل هو من شغل أبو نايف. بعد لحظة أطلّ أبو نايف، متفقّدًا البغلة، فوجد المعلف خاليًا من الشعير، فصرخ : قلتلّك اطعمي البغلة. شو ناطرة ؟

أمّ نايف، في مزاجها، تجد لذّة، ما بعدها لذّة، في مناكدة أبو نايف، حتّى بدون سبب، فكيف إذا توفّر السبب، كما هو حاصل الآن ؟ العناية بالبغلة ليس من مهامّها، فلماذا الاستثناء الآن ؟ لذلك ردّت عليه :

-      هيدا شغلك، ما هو شغلي. أيش صار حتّى هالمرّة تطلب منّي أطعم البغلة ؟

-      لأني تعبان... تعبان كتير.

مين كان جابرك تنفّذ الطلب مرّة واحدة ؟ كنت سوِّي نصّ الحمل اليوم، وخلّي نصّ الحمل لبكرا. أريحلك وللبغلة !

-      إنتِ بدّك تعلّميني عَ شغلي ؟

-      عال. كمّل شغلك وطَعمي بغلتك.

-      لأ. إنتِ بدّك تطعميها، يلاّ قومي.

ومشى أبو نايف باتّجاه أمّ نايف، فخافت من إغضابه أكثر، فقالت :

-      يلاّ.

عاد أبو نايف ودخل البيت. وبقيت أمّ نايف منهمكة في عملها ولم تطعم البغلة. بعد قليل قام أبو نايف يتفقّد. لم يرَ في معلفها تبنًا ولا شعيرًا. صرخ بأمّ نايف !

-      شو قصّتك ؟ قلتِ يلاّ وبعدك قاعدة ؟

-      إي مشغولة. لمّا خلّص شغلي بعملّك شغلك ؟

-      لأ. فورًا بدّك تقومي تطعميها.

-      شغلي قبل شغلك. كلّ واحد يعمل شغلو.

-      شغلِك أنا بقول عليه، وإنتِ بتنفّذي.

-      مِن أيمتى ؟ بغلتك طعميها.

-      من أيمتى ؟

وتقدّم باتّجاهها غاضبًا. استحقتها أمّ نايف، فرفعت مستوى التحدّي، وفي نيّتها أن تفعل شيئًا جديدًا، لأنها لا تريد أن تنكسر أمام أبو نايف. قامت، وضعت الصينيّة جانبًا، وواجهته قائلة :

-      وحقّ مرتمورة (قدّيسة وشفيعة أحد أحياء البلدة) أنا ما بطعميها. اصطفل إنت بِبغلتك.

-      وحقّ مرتمورة إنت بإيدك بدّك تطّعميها.

-      حلفت لك بمرتمورة. أنا ما بطعميها.

-      وأنا حلفت بمرتمورة إنّك إنتِ بتطعميها.

قال هذا وأسرع باتّجاهها، فهربت، واختفت بين بيوت الحيّ.

جنّ جنون أبو نايف. قال في نفسه : سأعمل ما لم أعمله في حياتي. وقاحة أمّ نايف ومناكدتها تجاوزتا الحدود. بدّي كسّرلها ضلاعها.

عاد إلى البيت، فتّش عن عصا قصيرة، حملها خلف ظهره، ومشى يتجوّل في الحيّ ويسأل عنها؛ قالوا له : مرّت من هنا منذ قليل. وقالوا : رأيناها سائرة باتجاه البيت. بعضهم قال : لم نرها... صحيح. مرّت أمّ نايف في الحيّ، للتمويه وإضاعة الأثر، لكنّها عادت إلى بيت أخيها المواجه لِبيتها، وأبلغت إمرأة أخيها قائلة : أبو نايف غضبان منّي. يفتّش عنّي. إذا وصل قولي : أنا ماني هون.

وحزر أبو نايف : لجأت إلى بيت أخيها، تحتمي به. جاءه، ونادى من الباب : سوسان ! سوسان !

لم يردّ أحد. كرّر النداء، فجاءت صاحبة البيت، ووقفت في الباب تسدّه، وكأنها تمنع أبو نايف من الدخول. قالت :

-      خير يا أبو نايف ؟ سوسان ما هي عنّا. في شي ؟

-      إي في. أمّ نايف اليوم فيها شي. هي هون أكيد.

عصا أبو نايف وراء ظهره. فهمت صاحبة البيت أنّ الوضع خطير، وأبو نايف مصمّم على مشكل، وسيكون المشكل أسبه بكارثة، فرفعت صوتها قائلة :

-      وحياتك ما هي هون. بخبّيها عليك ؟

-      فإذًا، زيحي من الدرب. بدّي شوف بعيني.

-      قلتلّك ما هي هون.

-      زيحي (رافعًا صوته بغضب)

هنا جاء إبن عمّه، أخو سوسان، يتدخّل، قال :

-      خير يا إبن عمّي شو صاير ؟ سوسان هون. شو عملت شي عاطل معك ؟ من أيمتى بتحمل العصا عَ بنت عمّك ؟ لهون وصلت الأمور بينك وبينها ؟ ولو ؟ بعد عشرة هالعمر ؟ لاه لاه يا ابن عمّي، لا تشمّت الناس فينا...

تذكّر، فجأة، أبو نايف، أنّه يحمل العصا على إبنه عمّه، ويطاردها إلى بيت أهلها، ففتر غضبه، وشعر بالخجل، لكنّه تماسك، يريد أن يقيم كلمته، فأخبر ابن عمّه بما حصل باختصار، لكن بجفاف. فقال ابن عمّه :

-      ولو ! الأمر أمرك دايمًا. سوسان ما بتطلع عن إرادتك.

-      طلعت وحلفت بالقدّيسة مورا. وأنا حلفت بالقدّيسة مورا.

-      وبعدين ؟

-      بدّي شوف، مرتمورتي بتطيح مرتمورتها، أم مرتمورتها بتطيح مرتمورتي.

-      إذا هيك، لأ. مرتمورتك هي اللي بتغلب.

ونادى اخته :

-      سوسان مشّي قدّامي. يا الله. يا عيب الشوم عليكِ. الحق مع أبو نايف ابن عمّي.

اطمأنّت سوسان إلى أن أبو نايف لن يستعمل عصاه، بعد ما سمعته من حديث أخيها، فخرجت وهي تنظر إلى أبو نايف، الذي زاح من الدرب، نظرة جانبيّة، فيها شيء من التحدّي، ومشت خلف أخيها، إلى البغلة، فوضعت لها العلف كما يلزم.

وعاد أبو نايف، إلى البيت، يتابع تناول غدائه. ثمّ دخلت أمّ نايف، غسّلت يديها، وحملت إبريق الفخّار، ومن الجرّة سكبت فيه ماءً جديدًا، واقتربت من أبو نايف، وكأنّ شيئًا لم يكن :

-      ميّ طريّة. بتحبّ تشرب ؟

-      إيه.



[1]  الصمدة : هي "سقالة" أي منصّة ذات طبقات من الأخشاب المتوازية تقوم على أعمدة توضع عليها أطباق دود الحرير والشيح لنسج الفيالج.

[2]  الصار، في الأصل شطّ النهر. وفي السريانيّة الجلّ أمام الباب.

[3]  الطريق المباشر عند البستان.

[4]  التتن : التبغ. لفظة تركية. بائع التتن توتونجي.

[5]  آلة تُوضع على ظهر الدابة لتُلقى عليها الحمولة وهي من اللباد والجلد والخشب تُحشى بالسمر وهو نوع من النبات الطري، فسُمّيت الآلة به.

[6]  لقب أطلقته المعارضة على دائرة الإعلام في المخابرات التي كانت توزّع بيانات وتصريحات مكتوبة على الدكتلو وتلزم وسائل الإعلام

    بنشرها.

[7]  العُبّ : المكان في أعلى ساق الشجرة حيث تتفرّع الأغصان.

 

 

back to Ashya Saghira