Electronic Edition designed by

Webmaster Elie Abboud

back to

 

"الطريق الى السلطة"

للنقيب السابق فؤاد عوض

1973

- مقدمة الطبعة الالكترونية 2010

- مقدمة الكتاب

- الفصل الأول: الإرث التاريخي والاجتماعي والسياسي

- الفصل الثاني: الصراع على الرئاسة الأولى في لبنان ما بين 1952 – 1970 وعصيان 1958: الجزء الأول  -  الجزء الثاني

- الفصل الثالث: الانتفاضة العسكرية – المدنية الفاشلة

- الفصل الرابع: التحقيق والاغتيالات والمحاكمة والسجن الطويل

- صور فوتوغرافية تتعلق بالأحداث المذكورة.

Font used in this book: Simplified Arabic, Simplified Arabic bold

الفصل الثاني

الصراع على الرئاسة الأولى في لبنان

ما بين 1952-1970 وعصيان عام 1958

:: الفصل الثاني / الجزء الأول ::

مقَـدّمـة 

الطامحون بالرئاسة الأولى كُثُر رغم حصر حق الوصول إليها بأبناء الطائفة المارونيّة الذين يشكّلون ثلث سكّان لبنان.

هناك مرشّحون مُتعالون يقبعون في منازلهم بانتظار أن تأتيهم الرئاسة من تلقاء نفسها كالسيّدين ألفرد نقّاش وجواد بولس.

وهناك مرشّحون ضلّوا الطريق المؤدّية للرئاسة وأضاعوا جهودهم على طرقات جانبيّة كالسيّدين ريمون إدّه وسليم لحّود.

أمّا المرشّحون الثلاثة الذين عملوا لها بتخطيط دقيق وبجهود لا تكلّ فهُم الرئيس شمعون والأستاذ حميد فرنجية واللواء فؤاد شهاب.

أثبتت التجارب حتى الآن أنه ما من مرشّح للرئاسة الأولى أتى إلى الحكم برضى المسيحيِّين بل برضى المسلمين.

ففي انتخابات الرئاسة عام 1943 وقف المسيحيّون إلى جانب إميل إدّه لكن بشارة الخوري هو الذي انتُخب لأنه وقف ولو ظاهريًا إلى جانب القضايا العربيّة وأرضى مُسلِمي لبنان.

وفي انتخابات الرئاسة عام 1952 وقف الرأي العام المسيحي إلى جانب حميد فرنجية لكن بطل العروبة، آنذاك، كميل شمعون هو الذي فاز.

وفي انتخابات الرئاسة عام 1958 كان الرأي العام المسيحي إلى جانب تجديد الولاية الرئيس شمعون لكن اللواء شهاب هو الذي فاز لأنه ماشى الناصريّة في لبنان ظاهريًا. واستمرّ الحكم الشهابي إثنتَيّ عشر عامًا ولم يسقط لا لأنه كشف عن حقيقته الإنعزاليّة اللبنانيّة في قضية الطائرة ميراج.

وقد اتّضح لمرشّحي الرئاسة الأولى أنّ طريقها تمرّ عبر بعض العواصم العربيّة ذات النفوذ بين مُسلِمِي لبنان، لذلك أخذ المرشّحون يتودّدون لهذه العواصم ويعدلون من مواقفهم السياسيّة التي تتناسب وسياسة هذه الدول.

عندما استقال بشارة الخوري في شهر أيلول من العام 1952 برز ثلاثة مرشّحين للرئاسة : كميل شمعون وحميد فرنجيّة واللواء فؤاد شهاب.

وكان اللواء قائد الجيش آنذاك قد تخلّى عن تأييد رئيس الدولة في عراكه مع المعارضة ويُقال ان الإشارة أتته من مستشار السفارة البريطانيّة السيد مارون عــرب.

وقد انتظر اللواء أن يرد له الإنكليز الجميل بتأييده في انتخابات الرئاسة لكن الرياح الإنكليزيّة سارت في شراع المرشّح شمعون الشيء الذي أزعج كثيرًا فؤاد شهاب. ومنذ تلك اللحظة بدأ يخطّط بِصبر وصمت لخلافة شمعون في سنة 1958.

وفي البداية تعاون الأستاذ حميد فرنجيّة مع الرئيس شمعون على أساس أن يدعمه هذا الأخير في انتخابات الرئاسة المقبلة. وكان الأستاذ فرنجية قد انسحب للمرشّح شمعون ففاز هذا الأخير بالتزكية. لكن على ما يبدو لاحظ الأستاذ فرنجية أن شهية الرئيس شمعون قد تفتّحت كثيرًا عندما أصبح في الحكم وانه أخذ يعدّ العدّة للتجديد. لذلك انفصل عنه سنة 1955 وصادق الرئيس عبد الناصر الذي أراد أن يجد خصمًا "محليًا" لِصديق العائلة الهاشميّة في بغداد والأردن ولِحلف بغداد. وقد أدرك السيد فرنجية أيضًا أن طريق الرئاسة الأولى ستمرّ في القاهرة كما مرّت سنة 1943.

ولمّا كانت الغاية تُبرّر الوسيلة عند جميع الساسة اللبنانيِّين من مدنيّين وعسكريّين فقد اختط كل من لاعبي الشطرنج الثلاثة طريقًا يختلف عن الآخر بغية الوصول إلى أهدافه.

فالرئيس شمعون أخذ جانب العراق ونوري السعيد وحلف بغداد والغرب. والأستاذ حميد فرنجية ماشى السياسة المصرية في معارضتها لِحلف بغداد.

أمّا اللواء فؤاد شهاب فوقف بين الفريقين، عين على القاهرة والعين الأخرى على العم سام. أمّا نحنُ صغار "العسكريتاريا" فبعد أن تأزّم الوضع في سنة 1958 كدنا أن نقلب طاولة الشطرنج على لاعبيها ونحرمهم لذّة اللّعب.

 

الخطّة الشمعونيَّة للتجديد والبقاء في الحكم

كاد السيّد كميل شمعون أن يصبح رئيسًا سنة 1943 عندما أقدم السيد إميل إدّه، خصم الشيخ بشارة الخوري، على مناورة لإبعاد خصمه فصرّح للمندوب السامي البريطاني الجنرال سبيرز بأنه يتنازل لمرشّح آخر إذا تنازل الشيخ بشارة. وكادت المناورة أن تنجح فيتمّ الاتفاق على كميل شمعون كمرشح تسوية.

وانتُخب بشارة الخوري رئيسًا وعمد بعد ذلك إلى تجديد ولايته ست سنوات أخرى، فاغتاظ كميل شمعون وعارض التجديد، وتمكّن في ظروف دوليّة لائمته من أن يزيح الشيخ الرئيس وأن يصبح هو رئيسًا.

ولكن حالما يتمّ انتخاب أي رئيس في لبنان، فإنّ معالم المعركة المقبلة تأخذ بالتبلور. وذلك لأن هناك طامحون فشلوا وآخرون أُبعدوا وكل هؤلاء سيستأنفون نشاطهم وخططهم على أُسس جديدة منتفعين من أخطاء الحاكم ومنتهزين الفرص الدولية وأحداثها.

وكان السبب الرئيسي في إيصال السيد شمعون إلى الحكم هو تعهّده بإدخال لبنان في أحلاف عسكرية غريبة، الشيء الذي تلكّأ في القبول به الشيخ بشارة الخوري فكان سببًا لسقوطه قبل الأوان.

كانت خطة الرئيس شمعون تقضي بالتعاون الوثيق مع الغرب ودُوَل حلف بغداد، في السرّ حينًا وفي العلن أحيانًا، لمناهضة الشيوعيّة الدولية، فابان أزمة السويس لم يقطع علاقاته الديبلوماسية مع الدولتين المعتديتين ومن ثمّ انضمّ إلى مبدأ ايزنهاور. وخطته الداخلية قضت إبعاد أخصامه السياسيِّين والسائرين في الخط المعاكس في الانتخابات، والمجيء بمجلس أكثريته الساحقة تؤيّد التجديد المدعوم بتأييد حلف بغداد والغرب.

 

خطّة السيّد حميد فرنجيّة

أمّا خطة السيد حميد فرنجية كانت واضحة. فبعد أن تنازل للسيد كميل شمعون عام 1952 حاول أن يتعاون معه لكن هذا التعاون لم يدم إلاّ سنتين وبعض السنة.

وقد اتّضح للسيد فرنجية أن شمعون يعمل لنفسه ويحاول إبعاده عن كل نفوذ. ولقد اتّضح له أيضًا أنّ الطائفة المارونيّة مهما أيّدته فلن توصله للرئاسة لذا مدَّ يده للرئيس عبد الناصر الذي أراد أن يجد خصمًا "محليًا" لِكميل شمعون المؤيد لِحلف بغداد والخطة كانت واضحة، إذ انّ مسلمي لبنان يأتمرون بالزعامة المصرية، والسيد فرنجية كزعيم ماروني يستطيع، مهما ساءت زعامته لطائفته، أن يأتي بقسم منها لتأييده في الرئاسة الأولى. لكن السيد فرنجية مرض قبل نهاية الشوط مرضًا عضالاً أقعده. وبَقِيَ الصراع الخفي بين شمعون وشهاب، الأوّل يريد التجديد والثاني يسعى لعدم تمكينه من ذلك ليحلّ محله.

 

الخطة الشهابيَّة للوصول إلى الحكم

موضوعنا في الأساس هو الطريق التي أتبعها فؤاد شهاب للوصول إلى الحكم والانقلاب العسكري – المدني الذي قمت به بغية إنزاله عن مركز السلطة. والخطة الشهابيّة متشعبة ومعقدة في تفاصيلها. والطرافة هي في التفاصيل.

وواضع الخطة هو اللواء فؤاد شهاب. وقد بدأ يفكر بها منذ سنة 1952 عندما استقال الشيخ بشارة الخوري تحت ضغط المعارضة وإحدى الدول الكبرى. وطموح شهاب بالرئاسة قديم. فهناك دلائل عليه منذ سنة 1947، وسنأتي على تفاصيل ذلك فيما بعد. وتبلورت الخطة سنة 1955. وكانت تقضي بتعميق شقة الخلاف بين الرئيس شمعون والسيد فرنجية ليأتي اللواء فؤاد فيما بعد كمرشّح تسوية. كما كانت تقضي بتشجيع المعارضة سرًا على العصيان في حال إقدام الرئيس شمعون على التجديد.

أمّا مُنفِّذو الخطة فهُم بالدرجة الأولى المقدّم أنطون سعد رئيس الشعبة الثانية، الذي كان يهتم بالخطة السياسيّة العامة، والعقيد يوسف شميط نائب رئيس الأركان الذي كان يهتم بالخطة العسكرية. ويأتي بالدرجة الثانية من المنفّذين : العقيد عبد القادر شهاب والنقباء هنري شهاب، فرنسوا جنداري، توفيق الجلبوط.

أما باقي ضبّاط الجيش فالقسم الأكبر منهم كان يعتبر مواليًا للقائد والباقون مشتبه بولائهم ومناوئين. وكان على رأس المناوئين العقيد فؤاد لحّود والزعيم توفيق سالم رئيس الأركان.

لكي نتمكّن من استيعاب القصة الكاملة وجوانبها وخفاياها أرى لزامًا عليّ أن أعطي ملخّصًا عن سيرة أبطالها الرئيسيِّين وهم اللواء فؤاد شهاب، المقدّم أنطون سعد، العقيد يوسف شميط، والنقيب هنري شهاب.

 

اللواء فؤاد شهاب

وُلِد اللواء فؤاد شهاب في غزير عام 1902 وهو متحدّر من الأمير حسن شهاب، الشقيق الأكبر للأمير بشير شهاب الثاني، ومن جارية جيورجية كان قد أهداه إياها شقيقه الأصغر الأمير بشير.

وسبب تمركز العائلة في غزير، هو أن قاسم شهاب هو إبن أخ للأمير ملحم. وكان هذا الأخير قد سمّاه لخلافته في سنة 1758. وإذ تجاهل منصور وأحمد عمّا قاسم، هذه التسمية واستأثرا بالإمارة، نزح هو إلى غزير، في كسروان حيث تنصّر في سنة 1767. وفي تلك السنة توفّي عقب ولادة إبنه الثاني بشير. وتزوّجت أرملته فيما بعد مرّة ثانية، تاركة بشير، وأخاه الأمير حسن في عناية الغير.

ونشأ حسن وبشير في الفقر، وأهملهما الأنسباء. فلم ينعما بشيء ممّا ينعم به عادةً مَن كان في مقامهما. بل نشأا تحت وطأة الخوف والحذر، فنما فيهما الشك بالآخرين، وخصوصًا من أبناء الأسرة الشهابية. وعرف عن حسن شراسته، وتجهمه وانطواؤه على نفسه. وكان يعجب دائمًا كيف يستطيع الناس أن يحبّوا بعضهم بعضًا. أمّا بشير فشبّ على أن يكون انتهازيًا، قويّ الإرادة، واسع الدهاء، وذا بصيرة نافذة ورأي مستقل. كان كأخيه الأكبر في شراسة الطبع وتجهم الوجه، لكنه كان قادرًا، بفضل ذكائه الحادّ ووداعة سلوكه، على إخفاء ما طبع عليه.

وبلغ بشير سنّ الرجولة، فودّع أخاه حسن واتّجه إلى دير القمر. وهناك سعى وراء رزقه عند الأمير يوسف إبن عم أبيه. فأكرمه الأمير وأدخله في معيته. ثمّ لم يلبث أن أصبح شخصية مرموقة في البلاط الشهابي، يساهمبنصيبه من الدسائس التي كانت تجري فيه. وسرعان ما لفت وجوده في دير القمر نظر خصوم الأمير يوسف، وفي طليعته مآل جنبلاط، فحاول هؤلاء أن يستميلوا بشيرًا لجانبهم فور وصوله دير القمر.

واللواء شهاب يرزح تحت أحمال الوراثة، فهو في دمه خير وريث لجدّه حسن، منطوٍ على نفسه مثله، ولا يثق بأحد، حذر متجهم أيضًا وهو كالأمير بشير الثاني إنتهازي، قويّ الإرادة واسع الدهاء، وشرس، ولكنه قادر على إخفاء هذه الصفات بوداعة مسلكه، وتمسكنه. وهو في عقله خير وريث للعائلة الشهابيّة وللعائلات الإقطاعيّة اللبنانيّة إذ أن والدة اللواء هي من آل حبيش إحدى العائلات الإقطاعية في قضاء كسروان. وجدته زوجة حسن جيورجية جركسية من الوطن الستاليني. ووالده حفيد الشهابيّين الذين اقتتلوا فيما بينهم أكثر من قرن من الزمن من أجل إمارة الجبل. والقليل منهم مات على فراشه ميتة طبيعيّة. فقطع الألسن وفقء العيون ودس السم والوشايات على بعضهم البعض لدى الجزّار بغية شنق الخصوم وتأليب الناس والإقطاعيّين على بعضهم البعض وتفريق الصفوف هي كلها من التراث العائلي.

لقد نشأ فؤاد شهاب فقيرًا كجده حسن لأن والده عبدالله بعد أن تزوّج وأنجب ثلاثة أولاد ترك المخدع الزوجي وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1910 وانقطعت أخباره. فعاشت الأم والأولاد في حالة عوز. وتلقّى فؤاد شهاب بعض الدروس في مدرسة الفرير ماريست في جونيه. وتضايقت والدته ماديًا أثناء الحرب العالمية الأولى لدرجة تلقّي مساعدات مادية من المطران بولس عقل، مطران جبيل.

وفي سنة 1918 أصبح فؤاد شهاب مباشرًا في محكمة جونيه. وبعد أن تركّزت فرنسا في سوريا ولبنان، أرادت أن تبني لها جيشًا من أبناء البلاد، ففتحت في دمشق، سنة 1921 مدرسة عسكرية لتخريج الضبّاط، وفي السنة ذاتها دخل شهاب إلى هذه المدرسة. وكان من رفاقه في هذه الدورة اللواء جميل لحّود والزعيم جان عزيز غازي ومحمد اليافي الذي ترك الجيش فيما بعد، وهو شقيق عبدالله اليافي رئيس الوزراء السابق.

تخرّج فؤاد شهاب سنة 1923 برتبة ملازم. وفي سنة 1926، وبينما كان يقوم بعمليات عسكرية في جبل أكروم ضد ثورة زين مرعي جعفر تعرّف على قائد الحامية العسكرية في بلدة عندقت المقدّم الفرنسي (نواريه) وعلى ابنة زوجته التي تزوّج منها في السنة ذاتها في دير مار ضومط في القبيات.

والزواج من فرنسية وليونته مع رؤسائه مكّناه من صعود سلّم الرتب العسكرية بسهولة. وقد خدم فؤاد شهاب في اللاذقية في سوريا وفي مرجعيون وفي مراكز أخرى عديدة. وفي سنة 1942 جمعت السلطات الفرنسية الجنود والضبّاط من الأصل اللبناني على الأراضي اللبنانية والجنود والضبّاط من الأصل السوري على الأراضي السورية.

حاز لبنان على استقلاله سنة 1943 وبدأ يتسلم الوحدات العسكرية من السلطات الفرنسية. وفي سنة 1945 كان أمام السلطات اللبنانية ثلاثة ضبّاط كبار يمكن تسمية أحدهم قائدًا للجيش اللبناني وهم : الزعيم سليمان نوفل والزعيم زهران يمين، وهو من بلدة دير القمر، والزعيم فؤاد شهاب. استبعد نوفل لكونه كاثوليكيًا، وبقيت المنافسة بين شهاب ويمين. ولقد دعم الوزير كميل شمعون الزعيم يمين بينما دعم البطريرك عريضة فؤاد شهاب بعد أن وسّطه هذا الأخير لدى الشيخ بشارة الخوري. وسمّي الأمير الزعيم فؤاد شهاب قائدًا للجيش اللبناني في سنة 1945. ومنذ ساعة تعيينه ألقى القائد الجديد حجزًا إحتياطيًا على الدولة اللبنانية لصالحه. ونفّذ هذا الحجز سنة 1958.

 

العلج الحقود في خدمة الأمير الحقود

في ربيع عام 1952 نقل الملازم الأول حسواني رئيس الشعبة الثانية من مركزه إلى الفوج الثالث المتمركز في بيروت ولم يعرف حتى اليوم أسباب نقله. وبعدها بقليل ترك الملازم حسواني الجيش وتابع دراسة الحقوق ليصبح قاضيًا. والملازم أول حسواني استلم رئاسة الشعبة الثانية من النقيب إميل البستاني في سنة 1947 بعد أن أتوا به من سلك الدرك. وهذا الضابط كان صديقًا للملازم الأول عبد القادر شهاب مرافق الرئيس الشيخ بشارة الخوري الذي دعمه ليستلم هذا المركز. وبعد استقالة حسواني عيّن مكانه النقيب عرقتي وهو من بلدة شننعير قرب جونيه. وقبل أن يتسلّم النقيب عرقتي وظيفته استلم أمرًا معاكسًا يلغي تعيينه. وتبيّن لي فيما بعد أن العناصر الدستورية – اللحّودية من ضبّاط الجيش استنكرت تعيين هذا الضابط الأدي الميول، وعيّن مكانه الملازم الأول موسى كنعان وهو أرثوذكسي من الكورة وقد استلم هذه الشعبة مدة شهر. وتبين له أن الحسواني قد أخذ كل الإضبارات والملفات إلى منزله. فوجد مكتبًا خاليًا من الأوراق. وشكى أمره للزعيم سالم رئيس الأركان الذي أجابه قائلاً : "طبعًا الحسواني أخذ أسراره معه".

وكانت هناك عداوة بين الملازم كنعان والملازم جنادري مرافق اللواء شهاب. وبقي هذا الأخير يلحّ على فؤاد شهاب بوجوب استبدال كنعان لأنه ذو ميول قومية إجتماعية حتى أُجيب إلى طلبه.

عندها اقترح الملازم أول حسواني على اللواء شهاب تعيين النقيب أنطون سعد رئيسًا للشعبة الثانية لأنه بنظره مؤمن وذو ضمير حيّ. فاستغرب اللواء وقال مرّة للنقيب هنري شهاب : هذا المعّاز خرج يخدم بالـ(2ème Bureau) فكان جواب هنري أن أنطون يخلص له إخلاصًا أعمى. فصدر قرار بتعيينه واستمر في مركزه إثنتي عشر عامًا ليتنحّى سنة 1964 مع فؤاد شهاب ويعمل هو وسيّده من وراء الستار بعد أن إتجهت نحوه كافة الأنظار وضاقت به البلاد ذرعًا.

وقد اشتهر أنطون سعد في الجيش كمهرّج. وقد عرفته عن كثب بين 1955-1958 عندما كنت في الأركان. وهو يخفي في أعماقه أحقادًا لا يظهرها إلاّ نادرًا.

وُلِد أنطون سعد في بلدة تولا قضاء زغرتا سنة 1908 ودرس في معهد الفرير في طرابلس. والغريب في سكّان قضاء زغرتا وكلّهم من الطائفة المارونية أنهم يقسهمون إلى فئتين وعقليّتين هما سكّان بلدة زغرتا بعقليّتهم العائلية والعشائرية وولائهم القبلي وقتالهم فيما بعضهم البعض، وسكّان باقي القرى الودعاء والمسالمون والذين يخشون الزغرتاويّين. وكان أنطون من أنصار حميد فرنجية ولآل فرنجية، لكنه تخلى عنهم فيما بعد ليتبع فؤاد شهاب.

في العام 1928 ذهب أنطون إلى بلدتنا عندقت وتطوّع كجندي في الفرقة المتمركزة هناك وتصادق مع الجندي فخر عبدو فخر النائب السابق. ورقّي الجندي أنطون سعد إلى رتبة عريف. وفي سنة 1933 كان رقيبًا أثناء اضطّرابات جرت في مدينة صيدا. ولقد هنّأه المستشار الفرنسي الكولونيل بيشكوف على بطشه بالمتظاهرين العزّل من السلاح وسأله إن كان يريد أية خدمة. فأجابه أنه متعلم ويرغب الذهاب إلى المدرسة الحربية في حمص. وهكذا أرسل إلى حمص سنة 1934. وهناك التقى بحفيد الأمير بشير الثاني عبد القادر شهاب وبالطالب اسكندر غانم قائد الجيش الحالي وغيرهم. وفي سنة 1936 تخرّج برتبة ملازم.

وفي العام 1945 بينما كنت في مدرسة دير كرمسدة في قضاء زغرتا شاهدت شابًا إكليريكيًا يبكي فسألته عن السبب فقال أن عمّه، الليوتنان سعد، ضربه القطار على طريق حيفا بينما كان قادمًا مع بعض زملائه في سيارة صغيرة من مناورة أجروها مع الجيش البريطاني في فلسطين. فقتل ضابطان، وعمّه ينازع وحالته خطرة للغاية. علمت فيما بعد أن جمجمة أنطون سعد قد تكسّرت في هذا الحادث وانهم كانوا ينتظرون وفاته إلى درجة أنهم جهّزوا له تابوتًا. ولكن أنطون عاد إلى وعيه ولحمت جمجمته وبقي دماغه دون خلل على ما يظهر. وقد خدم فيما بعد تحت امرة إبن عمّنا المقدّم سعيد الخوري الذي كان يلقبه بأخوت تولا تحبّبًا، لأنه أثناء حرب 1914، نزح بعض أبناء بلدته تولا هربًا من الجوع إلى بلدتنا وأطعم الجميع، لكن أحدهم فقد عقله فصار مجنونًا تائهًا في عندقت. وعلى ما يظهر فإن هذا اللقب كان يغيظه مع ان نية نسيبنا كانت سليمة.

وشاءت الصدف أن أدخل المدرسة العسكرية عام 1948 وأتخرّج ملازمًا عام 1950. وكنت في أحد الأيام من سنة 1951 ذاهبًا إلى طرابلس فالتقينا صدفة بذات السيارة العمومية وإلى جانب السائق، وكان يجلس بيني وبين السائق. وتحدثنا إلى حين وصولنا إلى انطلياس ومن ثمّ غفا صاحبنا ووضع رأسه على كتفي من انطلياس حتى طرابلس. وتعجّب كيف وصلنا بسرعة.

وشاهدته مرة ثانية في ربيع 1952 أمام مبنى القيادة، وكان برتبة نقيب، وهو يتردد في الدخول لأن فؤاد شهاب حذّر ضبّاط الجيش من التوسّط لدى لجنة التطوّع لتطويع أنسبائهم أو غيرهم. وكانت الجندية مرغوبة في تلك الأيام وكان عدد طالبي التطوّع مرتفعًا بالنسبة للطلب وليس كما هي الحال اليوم. وكان أنطون يرجو أحد رتباء الشعبة الثانية الصغار ليقبلوا تطوّع إبن شقيقه لأنه فقير ووالده "سكري" وكان يرجوه بإلحاح كي يقدّم له هذه الخدمة.

تأثّرت من هذا المشهد كيف يترجّى الضابط مَن هو أدنى منه رتبة، وكدت أثور على أنطون والرقيب وأقول لهما أنني سأدخل بنفسي على قائد الجيش وأطلب منه أن يعين إبن شقيقه كجندي. لكني تمالكت أعصابي وتركت المكان بقرف.

ولم يدر بخلدي أن هذا الذي يستعطف لتعيين إبن شقيقه كجندي سيصبح بعد بضع سنوات يعين الوزراء والنوّاب ويصول ويجول ويقتل ويضرب وينتهك حرمات الناس والبيوت من أجل أميره الحقود.

 

العقيد يوسف شميط

ورثت الحكومة اللبنانية الجيش اللبناني عن سلطات الانتداب سنة 1944، وأكثرية ضبّاطه وخاصةً الكبار من المسيحيّين. سبب ذلك أن المسلمين، وخاصةً السنّة، لم يتعاونوا مع سلطات الانتداب، كما أن نسبة المتعلّمين بين الطوائف الإسلامية كانت قليلة، لذلك اقتصر الالتحاق بالمدرسة الحربية، في دمشق وبعدها حمص، على الطلاّب المسيحيّين الحائزين على الشهادات الثانوية.

ولمّا كان لبنان نصفه إسلامي ونصفه الآخر مسيحي لذلك وجب التوازن في كل شيء. وكان فؤاد شهاب ينظر لبعيد سنة 1947 عندما أخذ يقرّب منه نوعية معينة من الضبّاط المسلمين الذين سيكون ولاؤهم عند الاضطّرابات الداخلية له وليس لطوائفهم أو لارتباطاتهم العائلية. فانتقى من الدروز المقدّم يوسف شميط، ومن السنّة المقدّم جميل الحسامي وبدأ يبرزهما على غيرهما. وفي سنة 1947 جاء بالمقدم يوسف شميط إلى إحدى مصالح الجيش الكبرى، مصلحة اللوازم والاعاشة. وفي سنة 1950 جاء به نائبًا لرئيس أركان قيادة الجيش. وفي أواخر سنة 1958 أصبح شميط رئيسًا لأركان الجيش واستمر في مركزه حتى إحالته على التقاعد في تموز عام 1971.

وُلِد اللواء يوسف شميط في عاليه سنة 1908 والتحق في المدرسة الحربية في حمص سنة 1932، تخرج برتبة ملازم في سنة 1934 وخدم في اللاذقية في سوريا وفي طرابلس سنة 1946. وعندما كان في اللاذقية تزوّج من امرأة سورية مسيحية. وهو هادئ وقليل الكلام، ووصل إلى أكثر مما يسمح له طموحه، وأخلص لفؤاد شهاب أكثر من إخلاصه لزعماء طائفته.

 

النقيب هنري شهاب

توارى النقيب شهاب على المسرح قبل الأوان وبظروف غامضة فلم يعرف أحد بالدور الهام الذي لعبه ولا بالأدوار التي كان ينوي القيام بها. وقد لفتت نظري في 14 أيار 1958، عندما كنا نشيّعه إلى مثواه الأخير، كلمة قالها الزعيم سيمون زوين قائد الدرك أثناء المأتم عندما شاهد الضباط والجنود يذرفون الدمع الغزير إذ قال : ما تعرفت على المرحوم سابقًا ولكن يظهر أن له شعبية كبيرة في أوساط الجيش.

وُلِدَ النقيب هنري شهاب سنة 1920 وهو من أحفاد الأمير يوسف أمير جبل لبنان الذي حضن بشير شهاب شقيق حسن جد اللواء فؤاد شهاب. وقد تآمر بشير على نسيبه يوسف لدى الجزّار فشنق وحلّ بشير مكانه.

والنقيب شهاب من العائلة الشهابية التي تقطن الحدث. وفي سنة 1939، وبعد أن درس سنة في معهد الحقوق، ذهب إلى مقر قيادة فرق الجيش الخاصة وقابل المقدّم فؤاد شهاب الذي كان رئيسًا للشعبة الأولى وطلب منه إرساله إلى المدرسة الحربية في حمص. فأجابه المقدم شهاب أن المدرسة أقفلت في الوقت الراهن بالنظر لظروف الحرب وإنما سيرسله ليتطوّع مؤقتًا في مدرسة الرتباء في المدفعية. وتطوّع هنري وأصبح رقيبًا وفي سنة 1942، في عهد الديغوليّين، التحق بالمدرسة العسكرية وتخرّج سنة 1944 برتبة ملازم في سلاح المدفعية، وتابع دراسة الحقوق بعد تخرّجه كضابط ونال الليسانس من الجامعة اليسوعية.

وفي سنة 1952، سنة إسقاط الرئيس بشارة الخوري، قام بنشاط مع الضبّاط واتصلوا بالمعارض كميل شمعون وشجّعوه على المضي في المعارضة ووعدوه أنهم سيقفون إلى جانبه في حال استعمال الجيش ضد المعارضة. وكان لِهنري شهاب مطلبًا عند شمعون، فلم يلب هذا الأخير طلبه. وهكذا في سنة 1954 انتقل هنري شهاب مع الشلة إلى العمل ضد الرئيس شمعون وبدأ يعمل لصالح الأستاذ حميد فرنجية ومن ثمّ لصالح فؤاد شهاب بالتعاون مع المقدم أنطون سعد رئيس الشعبة الثانية.

لم أعرف النقيب شهاب معرفة شخصية حتى أواخر سنة 1955، ولكن في تلك السنة، وعندما أصبحت في القيادة، نشأت بيننا صداقة وصار يثق بي ثقة قوية، فكان يبوح لي بكل ما يجري في كواليس الشلة الشهابية وأطلعني على كل مشاكله العائلية، وكيف انهم نبذوا من الشهابيّين لأن والده تزوّج من امرأة عامية شامية وكيف انه لمّا توفّيت والدته عام 1947 لم يحضر أحد من الشهابيّين دفنها.

وكان هنري كثير المحبة والتعلّق بوالدته. وكان يكره العقيد عبد القادر شهاب وشقيقه عبد العزيز، ويتهكّم عليهم وعلى فؤاد شهاب نفسه بقوله عنهم : (Bande de dégenerés) ولكن علاقته مع فؤاد شهاب كانت وثيقة.

وكنا نتداول في الشؤون العسكرية وفي الوضع السياسي العام في البلد، وكنت ألحظ عنده قلقًا في أواخر عام 1957 على مصيره الشخصي وقال لي مرة : "إذا انتصر الفريق الآخر في هذا الصراع فإنهم سيصرفونني من الخدمة. وأخذ يحسب هل سيكفيه تقاعده. وقال انه سيعمل في المحاماة إذا صرفوه من الخدمة. وكان محتارًا" في سلوكه السياسي، فهو من جهة يكره الناصرية والناصريّين ومن جهة ثانية حاقد على الرئيس شمعون. وكان مغامرًا وشجاعًا. وكان صديقًا حميمًا للنقيب فايز الراسي أحد أعضاء الشلة الشهابية إنما يكره عضو الشلة الآخر النقيب جلبوط فكان يقول عنه انه إنتهازي، وانه كان أثناء الدراسة الثانوية قوميًا إجتماعيًا ثمّ أصبح شيوعيًا. وأنه تقرب في بداية حياته العسكرية من الزعيم جميل لحّود ثمّ من الزعيم توفيق سالم رئيس الأركان، وأنه عندما أصبح مرافقًا لفؤاد شهاب تودّد له لدرجة أنه أصبح مستشاره الخاص الموثوق.

وفي ربيع سنة 1957 زرت والنقيب شهاب السيد حميد فرنجية مرتين بغية الوقوف على تطوّرات معركة الرئاسة.

ولقد علم أنطون سعد بالزيارة ففاتحني بها. أجبته بأنها كانت زيارة مجاملة. لكنه عاد وشجعني على المضي بالإتصال بالسيد حميد فرنجية.

ولقد بحثت مرارًا مع النقيب هنري شهاب في أواخر سنة 1957 عندما بدت بوادر العصيان الذي كان يحضر سرًا بالإتفاق مع المقدم أنطون سعد رئيس الشعبة الثانية وبمباركة اللواء قائد الجيش عن مصير لبنان. ولقد قال لي أن المخطّطين يرون أن الرئيس شمعون سيستقيل من تلقاء نفسه بعد أسبوع من الإضراب العام والعصيان. وانّ هذا الحل بنظرهم أفضل من خلق سابقة خطرة بإسقاط رئيس الدولة بواسطة الجيش. واعترضت على الخطة، قائلاً له أن القضية ستأخذ طابعًا طائفيًا وانّ الرئيس شمعون يعد الدرك ويسلّحه ويسلّح أنصاره للوقوف في وجه مناوئيه. وانّ الأزمة لن تنتهي بخير وسلامة كما حصل سنة 1952 مع الشيخ بشارة الخوري. وقلت له أن مأساة عام 1860 ستتكرّر ولن تنحصر الأمور بلبنان فقط بل ستتعدّاها إلى منطقة الشرق الأوسط بكاملها وستتدخّل الولايات المتحدة الأميركية إذا كانت تنوي الوقوف عند تعهداتها حسب مبدأ ايزنهاور الذي انضم إليه الرئيس شمعون.

وقلت له من الأفضل إفهام المعارضة سرًا أنه لن يكون هنالك تجديد. وفي حال إقدام النوّاب الموالين على تعديل الدستور فنتدخل فورًا ونقيل الرئيس ونرشّح اللواء فؤاد شهاب للرئاسة. ولن يرفض المجلس النيابي انتخابه. وهذا الحل برأيي أفضل من الحرب الأهلية ومن ترك الغوغاء تقوم بهذا العمل. وكان النقيب شهاب من رأيي وكان متخوّفًا من النتائج المحتملة للخطة الشهابية الأولى.

انّ الخطة الشهابية للوصول إلى الحكم لم توضع على الورق بشكل أوامر أو دراسات معينة ولم يفصح عنها صاحبها سوى للمقدم أنطون سعد والمقدم يوسف شميط والنقيب هنري شهاب.

أما نحن صغار العسكريتاريا فمنا من كان لا يفقه مما يجري حوله شيئًا، فينفذ الأوامر بغباوة كلية ويأتي آخر الشهر ليقبض راتبه. والبعض الآخر القليل العدد كان يهتم بالشؤون العامة، لأن الحرب، كما يقول كلوزويتس، هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى.

La guerre C’est la Continuation de la politique par d’autres moyens          

والمخطّط الشهابي اتضـح لي شخصيًا أكثر من أي ضابـط آخر في الجيش باستثنـاء المقدّمين سعـد وشميط والنقيب شهاب لأني كنت من النوع الذي يسـأل دائمًا عن الـ (Pourquoi des Choses).

والخطة الشهابية كانت تبرز للمحلل من تصرفات اللواء فؤاد شهاب فقط. فهو على الرغم من صمته وعدم إفصاحه عن نواياه، كانت تصدر عنه من حين لآخر بعض العبارات والتصريحات التي تنم عن الشيء الكثير.

وكان فؤاد شهاب يطمح بالرئاسة منذ زمن بعيد. وخلافنا معه منذ سنة 1957 لم يكن على طموحه بل على الوسيلة التي أتبعها لتحقيق ذلك.

كان يريد أن يأتي رئيسًا بإجماع أعضاء المجلس النيابي وكمنقذ، ودون أن يطلب من أحد أن يقترع له، عبر تحريض المتخاصمين على بعضهم البعض، حتى إذا تعب هؤلاء أتوه سجدًا ضارعين إليه أن يضحي ويقبل الرئاسة الأولى.

أما نحن وكنت على رأس فئة من الضبّاط، فكنا نخشى أن تؤدي خطته إلى حرب أهلية طائفية وإلى إراقة الدماء البريئة من أبناء الشعب والجنود، وكنا نطالبه بالتدخّل العسكري العلني فقط عند محاولة تعديل الدستور للتجديد وعدم السماح للمعارضة بأي شغب.

وكان التدخّل العسكري، أو الانقلاب العسكري بنظرنا، ضروريًا عندما تصاب المجتمعات بأمراض مستعصية تعجز عن معالجتها الطبقة الحاكمة التقليدية. والانقلاب في أكثر الأحيان هو التعبير عن سخط الأكثرية العاجزة في المجتمع ضد الأقلية الحاكمة المستبدة.

والانقلاب هو عملية عسكرية خاطفة يهدف أصحابها الاستيلاء على السلطة بأقصى سرعة. ويجب أن تتم العملية في ساعات معدودات، إن لم نقل في دقائق.

وإذا حلَّلنا ما قام به فؤاد شهاب ما بين 1952-1958 نجد انه قام عمليًا بانقلاب عسكري بطيء خطّط له مدة خمس سنوات ونفّذه خلال سنة. وهنا وجه الطرافة في الموضوع... وهنا المأساة.

 

اللواء شهاب يجعل من الجيش دولة ضمن الدولة منذ 1947 

في الخامس والعشرين من أيار سنة 1947، جرت الانتخابات النيابية المشهورة، التي أتهمت المعارضة على أثرها الجيش اللبناني بالاشتراك بالتزوير. وأراد اللواء شهاب أن يبعد التهمة عنه وعن جيشه فاستدعى إلى مكتبه الأستاذ رشدي المعلوف، الصحفي المعروف والذي كان يدرّس اللّغة العربية في المدرسة العسكرية، وطلب إليه أن يكتب سلسلة مقالات وينشرها في الصحف ويبرّر بها موقف الجيش ليرفع عنه تهمة التزوير. إعتذر المعلوف عن الكتابة، الشيء الذي أغضب فؤاد شهاب فألغى إتفاقية التعليم التي كان رشدي بموجبها يقوم بالتدريس لقاء أجر مرتفع وحلّ محلّه الملازم الأوّل رزق الله من قيادة الدرك.

وهذه الحادثة دليل قديم على طموح فؤاد شهاب بالحكم وعلى ميله إلى فصل الجيش عن السلطات المدنية وجعله دولة ضمن الدولة ومرتبطًا به شخصيًا وليس بالسلطة التنفيذية في البلاد.

في ربيع سنة 1953 التقى الأستاذ بشّور الحدّاد محافظ مدينة بيروت سابقًا باللواء فؤاد شهاب وسأله لماذا رفض ترؤس الوفد المعين لحضور تتويج الملكة اليزابيت فأجاب : "يا أستاذ بشّور، أنا شايفلك إني راح إبعت مستر كميليو على البحر قبل ما يبعتني". وقد ظن فؤاد شهاب يومها أن الرئيس شمعون يريد عزله من قيادة الجيش أثناء غيابه فرفض الذهاب. ويقال أن الملحق العسكري الأميركي آنذاك كان يشدّ عزيمة فؤاد شهاب ضد الرئيس كميل شمعون.

في الخامس عشر من شهر تشرين الثاني سنة 1955 نقلت إلى أركان الجيش اللبناني، لأنهم كانوا بحاجة إلى ضابط ماروني في الشعبة الرابعة. وعلّق يومها المقدم سعد رئيس الشعبة الثانية على اضبارتي بأني ذو ميول شيوعية، ومعلوماته هذه جمعتها له استخباراته الداخلية في الجيش وذلك لأني كنت في نادي ضبّاط أبلح، عند وفاة ستالين في آذار 1953، أتحدث عن معرفة وبطلاقة عن الزعماء الروس وعن تاريخ الثورة الروسية، وهكذا فبنظر هملر لبنان، أنطون سعد، فإن المطالعة والثقافة العامة في موضوع معيَّن تصبح مادة للإتهام. ولقد قصد أنطون سعد الحؤول دون مجيئي إلى القيادة لكن فؤاد شهاب الذي بدأ يجمع اليسار تحت جناحه للوقوف في وجه كميل شمعون المرتبط سرًا بحلف بغداد، قد أعجبه الماروني المتشيّع فجاء بي إلى الأركان كحجر شطرنج ضروري في لعبة السلطة.

وفي هذه الفترة تعرّفت على المرحوم النقيب هنري شهاب وكان قائدًا للفوج المضاد للطائرات المتمركز في ضواحي بيروت، فأصبحنا صديقين يثق الواحد منا بالآخر ثقة تامة. وكان النقيب شهاب ضالعًا مع اللواء فؤاد شهاب والمقدم سعد والمقدم شميط والنقيب فايز الراسي والنقيب جلبوط والنقيب جنادري بالمؤامرة على الرئيس شمعون. ومنذ أن استقال السيد حميد فرنجية من الوزارة سنة 1955 وضعت الخطة في المكتب الثاني لتعميق شقة الخلاف بين الرئيس شمعون وبينه كي يأتي اللواء فؤاد شهاب فيما بعد كمرشح تسوية للرئاسة. وكانت الخطة تقضي بتشجيع المعارضة سرًا على العصيان في حال محاولة الرئيس شمعون للتجديد. وكانت المعارضة تتألّف آنذاك من جنبلاط وصبري حماده وأحمد الأسعد وحميد فرنجية. وبرأي المخطّطين فإن أسبوعًا من الإضرابات وإقفال أسواق المدن كافٍ لأن يحمل الرئيس شمعون على الاستقالة وعدم التجديد. وعندها يأتي المنقذ وينتخب المجلس اللواء شهاب رئيسًا.

في شهر كانون الأول من سنة 1948 بينما كانت قوة عسكرية مختلطة من الجيش والدرك تقوم بمهمة المحافظة على الأمن كي لا تتجدد الاشتباكات ما بين سكّان بعلبك المسيحيّين الكاثوليك وبين عشيرة الدنادشة الشيعية التي قتلت سبعًا من سكّان رأس بعلبك، وقعت في كمين نصبه لها الدنادشة فقتلوا ضابطًا وإثني عشر جنديًا وجرحوا ثلاثة ضبّاط وعشرين جنديًا.

ووضع القضاء يده على القضية وأصدر أحكامًا غيابية بحق الفاعلين. ولمّا كان فؤاد شهاب يخشى بطش العشائر ومشاغباتها عليه في المستقبل فقد أعار هؤلاء اهتمامه وعيّن لهم ضابط ارتباط سمّي الخبير في شؤون العشائر وكان مرتبطًا بالشعبة الثانية. وعندما انتخب كميل شمعون رئيسًا طلب منه أن يمنح الدنادشة عفوًا خاصًا فوعده الرئيس شمعون بتنفيذ هذا الطلب. ولكن الرئيس شمعون وقع من جهة ثانية تحت ضغط السيد هنري فرعون والمطران يوسف المعلوف مطران بعلبك للروم الكاثوليك اللذين عارضا العفو لأن الذين قتلوا من غير الجيش كان كاثوليكيّين من رأس بعلبك. وفي سنة 1954 قدم فؤاد شهاب استقالته احتجاجًا على عدم منح الدنادشة عفوًا. وقام بعض ضبّاط الجيش من أنصاره وأرسلوا تهديدًا للرئيس شمعون انهم في حال قبوله الاستقالة فسيطيحون به. وفي هذا الوقت وسّط رئيس الأركان الزعيم توفيق سالم شقيقيه يوسف ونقولا سالم كي يقنعوا شمعون بقبول استقالة شهاب وبتعيينه هو قائدًا للجيش. وتدبر الرئيس شمعون الأمر فلم يقبل استقالة شهاب ورضخ للمطالب الشهابية وأصدر عفوًا عن الدنادشة.

وعاد فؤاد شهاب إلى مركزه وعلم بمناورة رئيس أركانه فأخذ يحد من نفوذه في الجيش بإبعاد جماعته عن المراكز الحسّاسة. وفي هذا الجو كنت قد أصبحت في أركان الجيش. حيث وجدت نفسي بين جماعة سالم – فؤاد لحّود وجماعة شهاب.

واستدعاني الزعيم سالم مرة إلى مكتبه بقصد استمالتي لجانبه وحذّرني من الضابط الآخر حلمي شهاب الذي كنت واياه في الشعبة الرابعة قائلاً لي : "إنتبه لي منه هيدا. هذا ما اسمه حلمي شهاب. هيدا اسمه محمد حلمي شهاب الدين وهو بيروتي. شال محمد من هون والدين من هونيك حتى يتقرّب من هون" وأشار بيده إلى مكتب فؤاد شهاب الذي كان بجواره.

 

خطة ضمان ولاء الجيش لِفؤاد شهاب

ووضعت خطة ثانية في المخطط السياسي لخلافة شمعون في رئاسة الجمهورية تستهدف المحافظة على ولاء الجيش لِفؤاد شهاب شخصيًا وليس للدولة أو رئيسها أو لأي ضابط آخر كبير.

ففي سنة 1954 أبعد العقيد فؤاد لحّود قائد الفيلق المدرّع وشقيق النائب والوزير سليم لحّود الطامح بالرئاسة الأولى إلى انكلترا لمتابعة دورة دراسية. وفي غيابه قسّم الفيلق المدرّع إلى فوجين ووضع على رأس كل منهما ضابط موالٍ لِشهاب.

وتذمّر العقيد عادل حلبي، معاون منطقة لبنان الشمالي من التشكيلات التي صدرت، وكان درزيًا من بعقلين الشوف، ويطمح بأن يكون قائدًا لمنطقة الشمال، وعلق على التشكيلات بقوله : هالجيش شهاب بشهاب. قائد منطقة لبنان الشمالي الزعيم جميل شهاب وقائد منطقة البقاع الزعيم عادل شهاب، نائب رئيس الأركان العقيد عبد القادر شهاب، قائد الفوج المضاد للطائرات النقيب هنري شهاب، قائد شرطة الجيش المقدم لويس شهاب، رئيس قلم الموظّفين المدنيّين في الجيش بشير شهاب، والملازم الأوّل عبد المجيد شهاب، من شهابية حاصبيا كما داعس طلوع، والملازم الأول حلمي شهاب في الأركان، وهنا لفت نظر العقيد حلبي أن حلمي ليس "شهابيًا" إنما متشهب واسمه الأصلي محمد حلمي شهاب الدين وهو بيروتي. وعلم أنطون سعد هملر لبنان بالحديث ونقله إلى اللواء، وعلى الفور اتصل فؤاد شهاب تلفونيًا بنسيبه جميل وعيّنه في القيادة في بيروت كمفتش لسلاح المشاة. وعيّن الحلبي مكانه. ولقد قام قائد الجيش بهذا العمل مرغمًا فهو لا يحب انتقاد أعماله لكن كسب ضابط درزي كبير إلى جانبه هو أمر ضروري في لعبة السلطة. والحلبي لم يكن سوى حجر شطرنج ضروري لحصار شاه الخصم. إلاّ ان قائد الفوج المدرّع، المقدم قديس الشهابي الميول ضبطه رجال الجمارك وهو ينقل حشيشة الكيف بسيارة عسكرية. فاضطر فؤاد شهاب إلى توقيفه في المستشفى العسكري وصرفه من الجيش. وقد زاره فؤاد شهاب في المستشفى العسكري وقال له : "يا حمار كيف بتخلّيهم يكمشوك". وأثناء توقيف قديس استدعاني الزعيم سالم رئيس الأركان وكان يرقص فرحًا وقال لي "شو زلمتو" عم بيهرب حشيشة وأشار بيده إلى مكتب فؤاد شهاب.

وأثناء غياب العقيد فؤاد لحّود أمرنا فؤاد شهاب بأن ننشيء جهازًا للتفتيش في الجيش وأن نبني له مكاتب. وحشر فؤاد شهاب في هذا الجهاز، المؤلف من ضبّاط دون عسكر، كل من لا يرغب فيه من الضبّاط مثل العقيد فؤاد لحّود بعد عودته وغيره.

وفي تموز 1956 وضع فؤاد شهاب اللمسات الأخيرة على جيشه فأصدر تشكيلات أبعد فيها كل المشكوك بولائهم له وقرب المخلصين منه فوضعهم في قيادات هامة.

ومن طرائف الأمور أن الملازم الأول أنطون الدحداح من سلاح المدفعية ومرافق الرئيس كميل شمعون، بينما كان عائدًا معه من رحلة صيد في البقاع عرض على الرئيس شمعون أن يعرّج ويشاهد رماية بطارية مدفعية في شهر البيدر وكان ذلك في ربيع 1955. واستجاب الرئيس وحضر الرماية. وعلم فؤاد شهاب وأنطون سعد بالأمر فغضبا غضبًا شديدًا. فهما لا يريدان أن تقوم أية علاقة مباشرة بين الجيش والرئيس، لأن الجيش هو لِفؤاد شهاب وليس لرئيس الجمهورية. وبعد مضي ثلاثة أشهر على الحادثة أقدم فؤاد شهاب على استبدال الدحداح كمرافق، لكن شمعون أصرّ على إبقائه لديه. عندها قابله فؤاد شهاب وقال له :"فخامة الرئيس، هذا ضابط بعدو شب بتنزعلو مستقبلو بالصالونات، لازم يروح يتدرّب". وهكذا أذعن شمعون لطلب قائد الجيش ذي المظهر البريء.

وفي السنتين 1954 و1955 كانت الحكومة اللبنانية تخضع لضغط الحكومة المصرية لمكافحة زرع حشيشة الكيف. ووجّهت السلطة حملة لإتلاف هذه المزروعات. لكن قائد الجيش كلّف قريبنا المقدم سعيد الخوري بالإشراف على الاتلاف وفق خطة رسمها له وكانت تقضي بأن تتلف الحشيشة في سهل البقاع وأن تترك حتى تنضج في جرود العشائر وعندها يأتي المقدم خوري ويطلب من أصحابها قطفها تحت ستار اتلافها ويدفع لهم أجورهم من الدولة. وهكذا يكون أبناء العشائر قد استفادوا ثلاث مرات :

أولاً – عدم تلفها قبل نضوجها.

ثانيًا- يقبضون من الدولة إجرة لقطفها.

ثالثًا – يقبضون ثمنها عند بيعها غاليًا بالنظر لتلفها في السهول.

لم يكن الدافع من وراء هذا التخطيط إنسانيًا بل أراد فؤاد شهاب كسب ولاء العشائر في معركته المقبلة وأن يضع حدًا لنفوذ صبري حماده بينهم ليصبح صبري آلة طيّعة بين يديه.

ولقد احتج بعض النوّاب على هذه الأعمال وشكّلوا لجنة في المجلس النيابي للذهاب إلى جرود الهرمل للتحقيق. لكن قيادة الجيش بدل أن تفسح لهم مجال التثبت قالت انها غير مسؤولة عن حياتهم إذا تعرضوا لاعتداء مسلح من قِبَل العشائر. وهكذا خشي النوّاب على حياتهم وألغوا مهمتهم وسفرهم.

ودخل اللواء مرة إلى مكتبي في مبنى القيادة سنة 1956 وشاهد ملفًا مكتوب عليه (أوراق قيد الانتظار) فابتسم وقال لي : "أنا كنت أعمل مثلكم لمّا كنت ضابط أركان كل ورقة ما بتنحل حطها بهيك ملف. وبعد خمسة عشر يومًا بتحل حالها بحالها". كان فؤاد شهاب يعتمد على الزمن لحل المشاكل العالقة، وكان صبورًا ومخططًا بهدوء، ويكتم نواياه عن كل معاونيه وحتى المقرّبين منه، إلاّ حينما يريد معرفة رأي الآخرين فكان يرمي بفتيشات وبالونات تجربة. ولم يكن يفصح عما يريد بل كان علينا استنباط ذلك وان نعمل بكل جد لما يرغب به. وان نتحمل وحدنا مسؤولية ملامة الغير، وكان هو يريد أن يأتي كحكم في بعض القضايا وانه لم يكن على علم بالتدبير.

ولقد استعملنا واستعمل كافة السياسيّين من موالين له ومناوئين كحجار الشطرنج، وكان حقودًا إن غضب على أحد ولم يتمكّن منه فورًا انتظره سنوات على الكوع حتى يركعه ليأتيه مستنجدًا.

وفي العام 1955 وتحت ضغط الرأي العام بدأت قيادة الجيش دراسة مشروع خدمة العلم والتجنيد الإجباري. وكان قد أعدّ قسمًا منه "الانتندان لي". وفي ربيع 1956 بينما كنت أستوضحه عن مهمّتي في تحضير العتاد اللازم أجابني قائلاً : ما راح مشّي المشروع لأنه أولاً ما في مصريّات وثانيًا الشعب اللبناني بدون ما نعلّمو على القواص ما فينا نهدّيه.

ولمّا كان السيد أحمد الأسعد الزعيم الشيعي الجنوبي قد أبعد عن الحكم من قِبَل الرئيس شمعون، فقد اتصل بالعقيد فؤاد لحّود عندما كان قائدًا للفيلق المدرّع عام 1954 وطلب منه أن يتعاون معه على الإطاحة بالرئيس شمعون. ولم يقبل لحّود بالتعاون معه. وعاد والتقاه في سنة 1957 وقال له أحمد الأسعد : إذا إنت ما كنت تقبل... رئيسك قِبِل وكان يقصد فؤاد شهاب.

وكان باستطاعة الرئيس شمعون قبل سنة 1957 أن يقيل اللواء فؤاد شهاب. فالمتهافتون على القيادة من الضبّاط الكبار كُثُر. إنما لم يكن للرئيس شمعون أية ثقة بأي ضابط كبير. وكان يعتقد انه إذا كسب تأييد الغرب للتجديد فسيذعن فؤاد شهاب ويؤيّده كما أذعن عام 1952 وتخلّى عن الرئيس الخوري، عندما أرادت بريطانيا ذلك.

ولقد حاول الرئيس شمعون "تشتشة" الزعيم عادل شهاب بغية إيقافه في وجه نسيبه قائد الجيش فاصطحبه معه في زيارته لإسبانيا، لكن عادل لم يعض على صنّارة شمعون. فلم يكن في دماغه من التراث السياسي الشهابي شوى الكنفشة وإفهام الغير انه حفيد الأُمراء ولم يفقه في أي يوم من الأيّام لعبة السلطة التي كانت تدور بالقرب منه.

 

الشهابيَّة المُبكِرة

عندما كنت في المدرسة الحربيّة ما بين 1948-1950، كان المير موريس شهاب مدير الآثار يدرّسنا "تاريخ لبنان العسكري". إنقضت السَنتان ولم تتجاوز هذه المادة ستّين صفحة كان يمليها علينا الأستاذ المذكور. وكل ما ورد فيها عن الفتح العربي لا يتعدّى الثلاثة أسطر جاءت كما يلي : "وفي شبه الجزيرة العربيّة قام النبي محمّد عام 610 ميلادي بالدعوة لدِين جديد ووحّد القبائل العربيّة المتناحرة. وفي عام 632 هاجم العرب بلاد الشام، وسقط أمام أسوار دمشق القائد الحارث بن شهاب القريشي، وهو جد العائلة الشهابيّة في لبنان". إنتهى. وفيما يتعلّق بغزوات المغول للعراق وبلاد الشام جاء في دروس الأستاذ الأمير ما يلي : "وعبثًا حاول الشهابيُّون في وادي التيم الوقوف في وجه تيمورلنك".

وعمليًا ليس لِلبنان أي تاريخ عسكري سوى بعض المناوشات القبليّة كموقعة عين داره، وبعض مناوشات الولاة الأتراك مع بعضهم البعض التي كنا ندخل فيها طرفًا، إلاّ إذا اعتبرنا القائد القرطاجي هنيبعل لبنانيًا، ساعتئذ يستطيع الطالب العسكري أن يدرس ذلك الصراع الجبّار بين قرطاجة وروما.

ولمّا وضحت هزالة هذه المادة والنقص في تنظيم المدرسة الحربيّة، إستدعت قيادة الجيش عام 1951 ضابطًا بلجيكيًا لإعادة تنظيم الدروس العسكرية. وأدخل هذا الضابط مادة التاريخ العسكري العام والذي يقع في عدّة أجزاء ضخمة، بالإضافة إلى أجزاء أخرى كبيرة تحوي على الخرائط المفصّلة لأهمّ المعارك العسكرية في العالم.

 

درس شهابي في الوطنيَّة اللبنانيَّة

كان أستاذ اللّغة الفرنسيّة في المدرسة الحربيّة المير إميل شهاب وهو شقيق المير موريس. وممّا أذكره انه أعطانا يومًا الموضوع الإنشائي التالي : "ماذا يستفيد الطالب من دراسة اللغات الأجنبية". وطرقت الموضوع يومها بسلبيّة مطلقة وقلت أن المرء لا يستفيد شيئًا سوى أنه ينهك عقله في دراسة لغة أو لغات لن يتقنها كلغته الوطنيّة، والإنسان لا يستطيع أن يكون طليقًا بلغتين مهما درس. فهو لن يستطيع التعبير عن أفكاره إلاّ بلغة واحدة. والشعوب القوية لا تتعلّم إلاّ لغتها الوطنيّة، فالألمان والإنكليز والأميركيّون والفرنسيّون والرّوس وخاصةً الطبقة الحاكمة لا تعرف إلاّ لغة واحدة. أمّا نحن الضعفاء فإنه تفرض علينا لغة المستعمرين أو لغة الدولة صاحبة النفوذ الإقتصادي. هذا باختصار ما أخذت أدور وألفّ حوله في الموضوع. وفوجئت عند توزيع المسابقات بأن بقيت ورقتي عند الأستاذ. وعند انتهاء الدرس استدعاني المير إميل وتحدّث معي، ولمّا كان إسمي "فؤاد عوض" وكنت قد نزعت عنه منذ زمن إسم العائلة وهو الخوري، فهو لا يوحي بأني مسيحي أم محمّدي أم كردي أم عربي، فأخذ أستاذي يدور ويلفّ إلى أن علم أني من عكّار وماروني المذهب ومن الجراجمة حسب رأيه. فاستغرب وقال لي : "ماروني وأشقر وعيونك زرق وبتكتب هيك". فأجبته قائلاً : أحببت أن أُعالج الناحية السلبيّة في الموضوع متناسيًا أصلي العرقي والاثني والطائفي. فضحك وقال : أرجوك أن تكون أكثر واقعيّة في المستقبل. فشكرته وانصرفت.

 

تحضير الجيش لمجابهة الرئيس كميل شمعون

لقد وضع فؤاد شهاب اللمسات الأخيرة على جيشه في شهر تموز عام 1956 عندما أصدر تشكيلات عامة حشر فيها الضبّاط الموثوقين منه في القطع والوحدات الحسّاسة كالمدرّعات والوحدات المتمركزة في بيروت. وكان النقيب ميلاد فرح من جملة الضبّاط الموثوق بهم، وهو ضابط عرف عنه الاستقامة والبُعد عن السياسة والنزاهة وهو عسكري في دمه، فعيّن قائدًا للكتيبة المصفّحة الثالثة المتمركزة في بيروت. وعندما حصلت حادثة كنيسة مزيارة في ربيع 1957 بين آل الدويهي من جهة وآل فرنجية معوّض من جهة ثانية، أرسل النقيب المذكور للمحافظة على الأمن عند مداخل زغرتا. وجاءه يومًا رئيس الشعبة الثانية المقدم سعد وانتحى به جانبًا وقال له : "تساهلوا مع بيت فرنجية بالتفتيش ولا تضايقنهم. وكان النقيب فرح مستقيمًا" لذلك أسر لأحد زملائه قائلاً : إذا كان أنطون سعد مفكّر إنه بالهديّة هلِّلي قدّملي اياها لمّا إجاني الصبي بدُّو يخلّيني قوم بأعمال غير عسكريّة وغير شرعيّة بيكون غلطان كتير. ونقل الحديث إلى الشعبة الثانية وقامت على النقيب ميلاد فرح القيامة في أوساط الشلّة الشهابيّة. وظننت انهم سينقلونه لكن شيئًا من هذا لم يحدث وتركوه بعد ذلك سنة كاملة حتى أوائل آذار 1958 وقبل العصيان بشهر ونيف تقريبًا.

في التاسع عشر من شهر آذار 1958 طلب إليّ العقيد شميط نائب رئيس الأركان بأن أصدر أمرًا خطيًا لنقل الكتيبة الثالثة التي يأمرها النقيب فرح نقلاً نهائيًا إلى مرجعيون وأن أنقل الكتيبة الكائنة في مرجعيون إلى صور على أساس أن الثكنة التي بنيناها هناك أصبحت جاهزة. فأجبته أن الثكنة غير جاهزة فأجابني : "لا مانع فليتمركزوا تحت الخِيَم مؤقتًا"، وتمَّ النقل. وفي 10 أيار أي بعد يوم واحد من بدء الحوادث، أمر العقيد شميط كتيبة صور بالتوجّه إلى طرابلس للمحافظة على الأمن مع العلم أنه يوجد في طرابلس كتيبة مماثلة وهي كافية.

وطلب من آمر هذه الكتيبة أن يتوقف في شارع فؤاد الأوّل للاتّصال بالقيادة قبل إكمال الطريق. وكان رئيسها الملازم الأول فؤاد الفر وهو درزي بيروتي. وحُكم وقت وصوله بطريقة تتناسب مع حضور فؤاد شهاب من جونيه إلى القيادة. فتوقف فؤاد شهاب أمام الكتيبة واستدعى ضابطها قائلاً له : راح نخلّيك في بيروت نحنا بحاجة إلك هون أكثر. وهكذا أبدل ميلاد فرح الغير موثوق مع معسكره بعد سنة تقريبًا بِفؤاد الفر الموثوق حسب رأيهم. لكن صاحبنا فؤاد الفر لم يفهم النوايا المبيتة وأخذ في بيروت كلّما أطلق العصاة عليه رصاصة أجابهم بقنابل المدافع وأسكتهم. فضاق العقيد شميط به ذرعًا واستدعاه وتحدّث إليه بوضوح. وبعدها عاد فؤاد الفر مدجنًا وأخذ ينصح الجنود بالاعتدال والتروّي وعدم إطلاق النار قائلاً : "هودي الثائرين إخواننا ما بدّنا نقتلهم، تروّوا قبل إطلاق النار وما تحتَّكوا فيهم". وبعدها أمّن حراسة على منزل رئيس الوزراء السابق والمعارض عبدالله اليافي والكائن قرب وزارة الدفاع القديمة وجعل مقرّه في منزله. وبعد انتهاء أحداث عام 1958 أبعدت إلى صور لأمر كتيبة الفر، وعادت كتيبة فرح إلى بيروت فأمرها الفر، ونقل فرح إلى طرابلس.

وكان السيد كميل شمعون لا يعلم عمّا يجري في الجيش شيئًا. وقد اتّكل على الغرب ونوري السعيد والشعب اللبناني الأعزل من السلاح أو المسلّح تسليحًا إعتباطيًا كي يجدّدوا له.

وعندما استقال فؤاد شهاب عام 1954 إحتجاجًا على عدم منح الدنادشة العفو العام، كان أنطون سعد في فرنسا يتابع دورة دراسيّة. وعاد في سنة 1955 والتقى في صيف تلك السنة بالنقيب موسى كنعان مرافق الرئيس في الحمّام العسكري فقال له بالحرف الواحد وأمام عـدد كبير من الضبّاط : شوف يا موسى خبِّر معلّمك كميل شمعون إذا بدّو يدقّ بْفؤاد شهاب منعمِل ومنسوِّي كذا وكيت به. وهنا انتفض النقيب كنعان وقال له عيب عليك تحكي هيك على رئيس البلاد. وعلم شمعون بالقضية فطلب من فؤاد شهاب اتّخاذ الإجراءات المناسبة بحق هذا الضابط فكان أن عُوقب عقوبة تأديبيّة لإنقاذ المظاهر وأبقى أنطون في مركزه ليكمل المسرحية ومهمّة تأمين إيصال فؤاد شهاب إلى الحكم.

وفي آب 1956 استدعاني اللواء إلى منزله في عاليه لإطلعه على بعض القضايا الإدارية. وبعد وصولي بفترة وصل كل من المقدّم جان نجيم والنقيبين كحّالة وبواب. وفي هذه الفترة دقَّ جرس الهاتف، وفهمت من المكالمة أن المتحدّث هو رئيس الأركان الزعيم توفيق سالم الذي قال له أن صائب سلام، وزير الدولة في وزارة عبدالله اليافي، يطالب بإخلاء سبيل بعض الفلسطينيّين الذين يعملون في مزرعته الحنية وقد أوقفهم النقيب جنادري بتهمة حيازة أسلحة. فأجابه فؤاد شهاب كما يلي : يا توفيق بريمو الضابط عمل واجباتو، سكندو أنا مأذون. تيرسو شوف إنت شو لازم تعمل.

وترك سمّاعة الهاتف وانطلق في المونولج التالي : "بهالبلد كل السياسيّن حراميِّة. وبدهم يعملوني رئيس جمهوريّة. ولبنان بلد صغير. أو راح يكبّوني عالبحر أو راح كِبّهم كلهم عالبحر وأنا شايفلكم إني راح كِبّهم كلهم عالبحر. أنا ما بسرق مثلهم. دافعنلي بمذكراتي ميتين ألف ليرة قلتلّهم بعد بكّير مش راح أعطيكم إياهم".

وبالطبع كنا حريصين على عدم الخوض معه في مواضيع كهذه ولم يجبه أحد بكلمة وكنت أصغر الحاضرين رتبة.

انصرفت من منزل اللواء، وبينما كنت عائدًا إلى بيروت، بدأت أتساءل عن المؤسسة الصحفية اللبنانيّة أو العالميّة التي تهمّها مذكرات قائد جيش صغير ليس له أي وزن لا في العالم العربي ولا في العالم الخارجي ولم يخض أية حرب.

وكان كلّما راجعته بقضية تتعلّق بضابط كبير لا يتردّد عن نعته أمامي وأنا الضابط الصغير، بالحرامي وبالتهكّم عليه، ومن هؤلاء ضبّاط أصبحوا نوّابًا ووزراء وقادة للجيش فيما بعد. ولقد قال لي مرّة عن العقيد إميل البستاني بخصوص لجنة استملاك أراضي مطار القليعات : "الخواجه إميل بستاني دحّش حالو باللجنة لأنو في تعويض، ما بقا يشبع إبن البستاني". وقال عن الزعيم عادل شهاب قائد منطقة البقاع بخصوص تلف معدّات في ثكنة أبلح : "المير عادل ما بيتنازل يفتش ويراقب"، وراح يقلّده بطريقة نفضه رماد سيجارته.

 

الأسلحة السياسيَّة

كانت قضية تسليح جيشنا الصغير هي شغلنا الشاغل. ومنذ سنة 1955 أي منذ أن أصبحت في الأركان وأنا أتلقّى الرسائل بهذا الخصوص. وتعاقدنا في تلك السنة مع فرنسا لشراء بعض الأسلحة الخفيفة ودفعنا قسمًا من الثمن ولكن فرنسا تمنّعت عن تسليمنا السلاح المتّفق عليه متعلّلة بأن حالة الشرق الأدنى المتوترة لا تسمح بذلك. وأن هناك إتفاقًا بين الدول الغربيّة على فرض حظر على إرسال السلاح لهذه المنطقة.

ولم تفتح الدول الغربيّة يدها إلاّ بعد أحداث قناة السويس، فتدفّقت علينا الأسلحة من ثلاثة مصادر : إنكلترا وأميركا وفرنسا. ونتج هذا الكرم عن موقف لبنان أثناء أزمة السويس وعدم قطعه العلاقات الديبلوماسيّة مع الغرب.

وعرضت علينا بريطانيا برسالة خطيّة مزيدًا من الدبّابات "الشاريوتير" : أربعين دبّابة بحالة جيّدة بسعر خمسة عشر ألف ليرة لبنانيّة للواحدة. في حين أن سعرها الأساسي لا يقل عن نصف مليون ليرة لبنانيّة للدبّابة الواحدة.

ورفض فؤاد شهاب الدفع وطلب أن تقدّم هذه الدبّابات لنا دون ثمن وكهدية. وبقيت البرقيات بيننا وبين الوزارة البريطانية المختصة أكثر من أسبوعين بواسطة سفيرنا هناك ابراهيم الأحدب. وأرسل فؤاد شهاب العقيد فؤاد لحّود إلى بريطانيا ليُفاوض الإنكليز بغية الحصول على الدبّابات دون ثمن. وأبرق فؤاد لحّود بأن الإنكليز قد خفّضوا السعر إلى ثلاثة آلاف ليرة لبنانيّة للواحدة. وهذا سعر زهيد جدًا بالنسبة لميزات الدبّابة شاريوتير وحالتها الجيّدة. وكنا قد حصلنا من الإنكليز قبل بضعة أشهر على إثنتين وعشرين دبّابة منها دون مقابل. وأصرّ قائد الجيش على أن لا ندفع أي فلس. فسألت العقيد شميط لماذا هذا الإصرار على الحصول على الدبّابات مجّانًا وثمن الأربعين دبّابة لن يتعدّى المائتي ألف ليرة لبنانيّة وهو مبلغ زهيد جدًا ؟ فأجابني : لأنّنا لا نريد أن يقبض العقيد فؤاد لحّود الثمن. إستفهمت منه كيف سيقبض الثمن بينما وزارة التموين البريطانيّة هي التي تطلب السعر ؟" فأجابني : "إنَّ وزارة التموين البريطانيّة ستقبض الثمن ومن ثمّ تدفعه إلى العقيد فؤاد لحّود لتقوّي نفوذه في لبنان على حسابنا".

ولمّا كان فؤاد شهاب يريد تقوية نفوذه فقد اعتمد على فرنسا في تسليح الجيش فاشترى منها صفقة من الأسلحة بخمسة ملايين ليرة لبنانيّة قسّطت على خمس سنوات، كل سنة مليون ليرة لبنانيّة. ومن جملة هذه الأسلحة عشرين دبّابة (A.M.X.) كل واحدة بماية وخمسين ألف ليرة.

وبينما كان فؤاد شهاب يتفقّد المعدّات الفرنسيّة التي وصلتنا حديثًا، وكنت معه، أبديت رأي أمامه أنّ الدبّابة شاريوتير هي أفضل ومدفعها أكبر ومحرّكها أقوى وأمتن. فانتفض غاضبًا وقال  لي : "إذهب وادرس ميزاتها من جديد. هيئتك نسيت المهنة وإنت بالأساس ضابط مدرّعات".

وبالطبع كنت أعرف الميزات الفنية والعسكرية لكل دبّابة، وجيدًا ولكني تجاهلت الميزات السياسيّة وهو الأمر الذي أغضب قائدنا.

 

بوادر الشهابيَّة في أواخر العهد الشمعوني

كان الزعيم فوزي الطرابلسي، قائد الدرك الأسبق والمُحال على الاستيداع، على خلاف مع اللواء شهاب قائد الجيش. ويُروى أن سبب الخلاف هو أن قائد الجيش عارض بترقية فوزي الطرابلسي إلى رتبة لواء كي يبقى هو اللواء الأوحد في لبنان.

وأقدم الزعيم طرابلسي على كتابة كرّاس صغير ضد اللواء متّهمًا إياه بأشياء كثيرة، وسلّم هذه المخطوطة لإحدى المطابع لطبعها. لكن صاحب المطبعة جاء بالمخطوطة وسلّمها إلى المقدم سعد رئيس الشعبة الثانية وذلك في ربيع 1957.

وكنت في مكتب المقدّم سعد عندما استدعى النقيب لويس شهاب قائد الشرطة العسكريّة هاتفيًا. ولمّا حضر قال سعد : بتروح بتوقّف فوزي الطرابلسي وبتجيبو على نظارة المحكمة العسكرية. فأجابه قائد الشرطة : كيف بدّك روح بدون مذكّرة توقيف وهذا كان قائد درك سابق بيفهم بالقانون. فاغتاظ سعد وقال : "إنت واحد جبان أنا عم قِلَّك روح جيبو وانتعوا على رقبتو". وانصرف قائد الشرطة وذهب إلى منزل الطرابلسي وقال له : "أنطون سعد طالبَك لِعندو". فأجاب الطرابلسي بالفرنسيّة ما معناه : "من هو أنطون سعد ! لن أذهب". فقفل قائد الشرطة راجعًا وأخبر أنطون بما حدث، وكنت لا أزال في مكتبه أُتابع المسرحيّة. فغضب صاحبنا غضبًا شديدًا ودارت الشتائم بين الإثنين. وفي تلك اللحظة كان رئيس الأركان الزعيم سالم مارًا أمام مكتب سعد، فسمع الضجة فدخل وهو يقول : "شو في، شو في". فشرح قائد الشرطة القضية لرئيس الأركان الذي أجاب سعد : "معه حق النقيب لويس، اقطعلو مذكرة توقيف من المدعي العام العسكري إذا كان هناك سبب موجب وبلّغوها للطرابلسي وعندها سيحضر". وتمّ التوقيف على هذا الأساس. لكن شقيق الزعيم النائب هنري الطرابلسي والرئيس شمعون تدخّلا وأفرجا عنه بعد يومين.

وقد غضب سعد على لويس شهاب وحاول أن ينقله من قيادة شرطة الجيش مرارًا لكن فؤاد شهاب تمسّك بنسيبه.

إنَّ هذه الحادثة وضّحت أمامي صورة الحكم الشهابي الذي كان يُحضَّر، والأعمال التعسّفية التي كان سيقدم عليها أنطون سعد.

"انتعه على رقبته" هذه الجملة من رئيس الشعبة الثانية وما تحمل من معاني الطغيان حملتني على أن أُعارض هذا الشخص وسيّده محاولاً الوقوف في وجههما كي لا يَصِلا إلى الحكم وكي لا "ينتعوا" الشعب بأسره على رقبته.

 

أنطون سعد وعبد الحميد السراج

في أوائل أيلول ذهبت بصحبة المقدّم أنطون سعد وكل من النقيبين هنري شهاب وفايز الراسي إلى دمشق، ولم أكن أدري الهدف من الزيارة. ووصلنا إلى أُوتيل أمية الجديد حوالي الساعة العاشرة صباحًا. وكان النائب الفارّ من وجه العدالة رينه معوّض بانتظار المقدّم سعد. فطلب هذا الأخير منّا أن نذهب إلى معرض دمشق الدولي على أن نعود عند الساعة الواحدة بعد الظهر. عدنا في الوقت المحدّد فوجدنا سعد ومعوّض ما زالا في إحدى زوايا صالون الأوتيل يتحدّثان. وعند المساء قال لنا أنطون أنه لا يوجد في الأوتيل أسِرَّة كافية للجميع وطلب إلينا أن نذهب إلى بلودان، وبقي هو وحده في أوتيل أمية. لكنه رافقنا إلى بلودان وأمضينا السهرة معًا ومع النائب السوري السابق نوفل الياس.

وفي اليوم التالي اجتمع سعد بالعقيد السراج رئيس المكتب الثاني السوري زهاء الأربع ساعات وعاد واجتمع برينه معوّض. وغادرنا دمشق إلى بيروت مساء الأحد أي في اليوم التالي.

وعلمت بعد يومين بكل الأحاديث التي جرت مع السراج ورينه معوّض. ففي هذا الاجتماع، وقبل ثمانية أشهر من بدء العصيان على الأراضي اللبنانية، تمَّ الاتفاق على الخطوط التالية :

1-  تزويد المعارضة بالمال والسلاح وبعض المدرّبين وبعض الجنود من إحتياط الجيش السوري على أن يكونوا باللّباس المدني.

2-  توقيت العصيان أثناء الدورة العادية للمجلس النيابي اللبناني التي تبدأ أوّل ثلاثاء بعد الخامس عشر من آذار وتنتهي في آخر أيار وساعة الصفر تكون فور ظهور بوادر تعديل الدستور لتجديد الولاية للرئيس شمعون.

3-  الجيش اللبناني، بالنظر لتركيبه الطائفي، يتظاهر بتنفيذ أوامر السلطة علنًا، لكنه عمليًا يقف بين الفريقين ويحول دون اجتماع المجلس النيابي.

4-  إظهار شمعون أمام الدول الغربية بأنه عاجز عن السيطرة على البلاد، وأن سبب العصيان هو ضد تعديل الدستور.

5-  في حال استقالة الرئيس قبل انتهاء ولايته الضغط على النوّاب المسلمين لانتخاب فؤاد شهاب رئيسًا. أمّا إذا استمرّ إلى نهاية ولايته فيجب إبقاء البلاد في حالة عدم إستقرار حتى يأتي موعد الانتخاب الدستوري.

هذه هي الخطوط الكبرى التي تمَّ الإتفاق عليها بين السراج وأنطون سعد.

 

إستخبارات فؤاد شهاب نصفها شمعوني ونصفها الآخر شهابي 

كانت الشعبة الثانية في سنة 1957 تتألف من ثلاثة ضبّاط : أنطون سعد رئيسًا، ومن الملازمين الأولين أنطون لحد وأحمد الحاج. وأنطون لحد هو من كفرقطره – الشوف وأهله من أنصار الرئيس شمعون. وكنا زميلين في نفس الدورة في المدرسة العسكرية عام 1948. وقد أُوقف والده سنة 1949 من قِبَل سلطات بشارة الخوري لأنه كان يؤيّد المعارض كميل شمعون. وذات ليلة أسرّ لي أنطون أنه سيذهب سرًا أثناء الليل ويقفز من فوق قضبان الحديد ليتدبر أمر والده. وغادر المدرسة حوالي الساعة التاسعة مساءً ولم يعد حتى الساعة الثالثة صباحًا.

مرّت الأيام وأصبح كميل شمعون رئيسًا وأصبح أنطون لحد في الشعبة الثانية لأنه كان صديقًا لأنطون سعد. ومنذ سنة 1956 أصبح وضع أنطون لحد صعبًا فهو من جهة يحترم اللواء ومن جهة أخرى تربطه روابط عديدة مع الرئيس شمعون. وكان كلّما وردته معلومات معيّنة يضرب "ضربة على الحافر وضربة على المسمار" فكان يظهر لِفؤاد شهاب أنه مخلص له وكان من جهة أخرى، وعندما تكون المعلومات دسمة، يعطيها للرئيس شمعون دون أن يعلم بها رئيسه سعد.

وبعد عودتنا من دمشق بخمسة عشر يومًا أي حوالي منتصف أيلول 1957 عَلِمَ الملازم أوّل أن كميّات من الأسلحة تُهرَّب من سوريا إلى كمال جنبلاط في الشوف عبر دير العشائر بلد شبلي العريان. وأن مستودعًا قد أُنشيء هناك. وأبلغ هذه المعلومات إلى الرئيس شمعون الذي أوعز إلى قيادة الدرك لتجريد حملة سرية وتطويق دير العشائر ليلاً ومصادرة الأسلحة.

ورغم كل الاحتياطات كي تبقى تحرّكات قوّات الدرك سرِّية، علم سكّان دير العشائر بالأمر وقاوموا الدرك بالأسلحة الحربيّة فقتلوا بعضهم وفرَّ البعض الآخر تاركًا سلاحه فصادره العصاة.

وكان الجيش في هذه الأثناء يقوم بمناوراته السنوية في ضهر البيدر، وكنت مع العقيد شميط قرب مخفر ضهر البيدر عندما طلب إليّ أن أبرق إلى وحدات الجيش بإلغاء المناورة وتوجيه القوّات إلى السهل الواقع غربي راشيّا الوادي. وهنا انتهت مهمّتي وأصبحت الوحدات تتلقّى أوامرها مباشرةً من شميط وفؤاد شهاب.

ماذا فعل فؤاد شهاب ؟ أرسل هذه القوّات وركّزها بعيدًا، وبدل دخول البلدة وفرض هيبة الدولة ادّعى بأن أي عمل عسكري على الحدود يثير السوريِّين وانّ جزءًا من الطريق المؤدّي إلى دير العشائر يسير عبر الأراضي السورية، لذلك أوفد العقيد شميط إلى دمشق ليستأذن السراج بالسير على هذه الطريق. وبالطبع كان الجواب معروفًا سلفًا فكل ما أراده فؤاد شهاب هو إيجاد عذر بغية عدم القيام بأي عمل عسكري. أمّا مهمّة شميط الحقيقيّة والسرِّية فكانت لتنسيق إدخال الأسلحة إلى المعارضة وبحماية عناصر موثوقة من المكتب الثاني.

وانتهت العمليّة بأن أحضر السيد خالد جنبلاط أسلحة الدرك في سيارة جيب وسلّمها إلى أنطون سعد على مشارف راشيّا الوادي وكنت حاضرًا عندما تمّت هذه المسرحيّة.

وعَلِمَ أنطون سعد أنّ معاونه أنطون لحد هو الذي أبلغ الرئيس شمعون عن عملية تهريب الأسلحة لكنه كظم غيظه وأبقاه معه حتى بداية عصيان 1958، حيث أبعده أثناء العصيان إلى طرابلس. وبعد انتهاء أحداث 1958 نقله نهائيًا من الشعبة الثانية واستبدله بالملازم الأوّل غابي لحّود، وهو شوفيّ آخر من بيت الدين عائلته على ما يظهر دستوريّة قديمة ومن أتباع الشيخ بشارة الخوري.

وتلت هذه الحادثة حادثة أخرى وهي أن الرئيس شمعون نبّه قيادة الجيش في خريف 1957 بأن قافلة من البغال تنقل سلاحًا إلى السيد جنبلاط في الشوف عن طريق قب الياس، فأرسل اللواء شهاب بعض الطائرات والقوى العسكرية لقطع الطريق، فضربت الطائرات جبل الكنيسة بدل القافلة التي كانت تتسلّق جبل الباروك. وأطلق الجيش بضع عيارات ناريّة، من مسافات بعيدة على المتسلّلين لكن هذا لم يحل دون وصول الأسلحة إلى أماكنها.

وبدأ اجتماع (سعد – السراج) الآنف الذكر يعطي ثماره وتتالت بعد ذلك التحرّشات بالسلطة من قِبَل المعارضين والغارات على بعض مخافر الدرك والجمرك النائية.

ونزولاً عند إلحاح رئيس الوزراء السيد سامي الصلح بوجوب تحضير خطة من قِبَل الجيش لتموين بيروت في حال الإضراب العام في المدينة، استدعاني العقيد شميط نائب رئيس الأركان وطلب إليّ تحضير هذا المخطّط. ولمست الفتور وعدم الاكتراث والاهتمام لأي عمل يساعد الحكومة. وقلت للعقيد شميط : "لماذا التحضير ؟ إن أضرَبتْ كلّ المدينة فعلى الرئيس أن يرحل وإن أضرب نصفها يتموّن النصف المضرب من النصف غير المضرب". فأجابني بأن المخطّط مطلوب من قِبَل رئيس الوزراء وما علينا سوى تحضيره. وحضّرت المخطّط وعَرضتهُ على شميط فوافق عليه وقال لي ضعه في المحفوظات لحين الطلب. وفوجئت بعد مدة، في منتصف آذار عام 1958 بطلب العقيد عبد القادر شهاب، النائب الثاني لرئيس الأركان إليّ بأن أجلب المخطّط وأذهب بصحبته إلى رئاسة مجلس الوزراء لعرضه على لجنة من المديرين العامين برئاسة السيد ناظم عكاري مدير غرفة رئاسة الوزراء. وفي الوقت المحدّد إلتأمَ الشمل وحضر عبد العزيز شهاب مدير وزارة الداخلية والسيد جورج حيمري مدير غرفة الرئاسة والسيد الياس رزق الله محافظ مدينة بيروت وأحد موظّفي بلدية العاصمة. عندها طلب السيد عكاري من العقيد شهاب أن يعرض الدراسة عليهم فأجابه بأن الملازم الأوّل فؤاد عوض سيتلو علينا المخطّط.

ولاحظ الجميع عدم الاهتمام من جرّاء عدم حضور أي ضابط كبير وانصرف الشمل على أمل إبلاغ رئيس الوزراء بأن كل شيء أصبح جاهزًا.

 

الحكومة تستعدّ لمجابهة الوضع وفؤاد شهاب يستعد سرًا لمعاكسة الرئيس شمعون وإحباط مخطّطاته

وكان أنطون سعد قد ابتدأ باستمالة ضبّاط الجيش بالهدايا المادية كأقلام الحبر الفاخرة والمسدّسات وقطع الجوخ والمغلّفات التي تحوي مبالغًا من المال في المناسبات كالولادة والزواج، وشرع بهذا المخطّط منذ 1956. وازداد الدفع مع بداية 1958. وكان الرئيس شمعون يدفع بواسطة العقيد لحّود، وفؤاد شهاب بواسطة سعد. وهناك ضبّاط قبضوا من الفريقين وشكروا نعمة السلطان.

 

أنطون سعد يلجأ إلى التحريض المباشر على العصيان

لجأ أنطون سعد في أوائل 1958 إلى تحريض وجهاء البقاع على العصيان ضد كميل شمعون مباشرةً. وهذه المرة بدون واسطة السراج والسوريّين. فأوفد المقدّم في الدرك المتقاعد بطرس عبد الساتر، والمعيّن كخبير في شؤون العشائر لدى الشعبة الثانية، إلى البقاع الشمالي للاتصال بالوجهاء المحلّيّين وإقناعهم بالعصيان ضد كميل شمعون. وكان من جملة الذين اتّصل بهم الخبير، السيد حسين الحسيني من شمسطار، والنائب الحالي.

ولم يعلم الرئيس شمعون بهذه الأمور حتى منتصف نيسان 1958 حين قدّم له فريد شهاب مدير الأمن العام تقريرًا عن ذلك. وفي نفس الوقت استدعى قائد الدرك الزعيم سيمون زوين ضبّاطه الكبار وقال لهم : أن عليهم الانتباه على رجالهم وعلى الأسلحة ومستودعات الذخيرة وانّ عصيانًا يحضّر وأنّ اللواء فؤاد شهاب قائد الجيش ضالع به مع المعارضة. وانتفض يومها العقيد الياس رزق الله ولم يصدق المعلومات فقال له سيمون زوين "إسأل فريد شهاب والرئيس شمعون فعندهما الخبر اليقين.

 

الملحق العسكري يتوسّط بين دولتَيّ شمعون وشهاب

في أوائل آذار 1958 قام الملحق العسكري الأميركي بزيارة للعقيد شميط وكُلِّفت بترجمة الحديث بينهما لإتقاني الإنكليزيّة. وطلب الملحق العسكري إعطاء قيادة الدرك خمسة عشر مصفّحة "ستكهوند" دون جنود، وتعهَّد لِشميط بأنّ الولايات المتحدة مستعدة لتقديم خمسة وعشرين دبّابة جديدة إلى الجيش بدلاً عنها.

وكان العرض على الصعيد المادي مغريًا وخاصةً بالنسبة لجيش صغير. أمّا على صعيد المؤامرات التي كان يحيكها كل جانب ضد الآخر فطلب الرئيس شمعون بواسطة الملحق العسكري كان يخالف تخطيط اللواء. وتهرّب شميط من تلبية طلب الملحق العسكري بقوله : أنّ عناصر الدرك لا تستطيع استعمال المصفّحات قبل تدريبها. وتدريبها يتطلّب ستّة أشهر على الأقل. فيجب المباشرة أوّلاً بالتدريب ونحنُ فور استلامنا الدبّابات نعطيهم المصفّحات. فأجاب الملحق العسكري أن الرئيس شمعون ألحّ عليهم بهذا الطلب، وهو يريد المصفّحات خلال هذا الشهر. وأصرَّ شميط على موقفه. وبعد أربعة أشهر أصبح رئيسه فؤاد شهاب رئيسًا للدولة، وما زال الدرك يتدرّبون.

وتعجّبت من هذا الوضع الشاذ الغريب، وكيف أن رئيس الدولة يلجأ إلى الملحق العسكري الأميركي ليتوسّط بينه وبين قائد جيشه الذي هو حسب الدستور تحت إمرته وهو قائده الأعلى.

انزعج شميط من اطّلاعي على هذا الحديث. ولم يكن يدرك أنّني كنت أعلم الكثير عمّا يُحاك سرًا وفي الخفاء.

وفي أواخر نيسان 1958 استدعاني العقيد شميط وقال لي : "هناك أربعة مقاعد دراسيّة لدورة أركان ولمدة سنة في كل من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وأميركا، وسنرسل أربعة ضبّاط لهذه المدارس أنت والملازمين الأوّل أنطون لحد وأحمد الحاج وجول بستاني، ولك أفضلية الانتقاء، أين تفضّل الذهاب ؟" فشكرته على ثقته وتقديره لي وقلت له : "أفضّل فرنسا". وأضاف قائلاً انه اعتبارًا من أوّل أيار ستقومون بدورة تحضيرية لمدة شهر على يد النقيب الفرنسي "Le henaff" وتسافرون خلال شهر حزيران. ولقد جاء التلويح بالجبنة لي خاصة وللملازم أوّل أنطون لحد كي نسكت ونسير بالمخطّط من ثمّ نكافأ في أواخر حزيران. وبالفعل ابتدأنا بمتابعة الدورة منذ أول أيار. وفي التاسع منه أُلغِيت الدورة التحضيرية وعدنا إلى عملنا ولم نستطع السير بالمخطّط الشهابي، فأبعد الملازم الأول لحد في منتصف أيار عن الشعبة الثانية إلى طرابلس. وأمّا أنا شخصيًا فلم يكن هنالك من خطر مباشر من جرّاء وظيفتي على المخطّط.

وفي آذار 1958 كان شمعون يسعى للحصول على مزيد من المصفّحات للدرك اللبناني، كما ورد آنفًا، وكان فؤاد شهاب يبعد النقيب ميلاد فرح ومصفّحاته وجنوده من بيروت إلى مرجعيون. وكان الاستعداد للمجابهة على قدمٍ وساق.

وفي أواخر نيسان 1958 اجتمع كمال جنبلاط وصبري حماده برئيس الحزب القومي الاجتماعي أسد الأشقر وحاولوا إقناعه بالوقوف على الحياد ووعداه بتسليح الحزب من قِبَل عبد الناصر وتمويله. فرفض الأشقر عرضهم قائلاً : "لو كانت القضية قضية تجديد فحسب لوقفت إلى جانبكم إنما القضية هي قضية ابتلاع لبنان وسيطرة عبد الناصر عليه كما سيطر على سوريا". وانفضّ الاجتماع دون نتيجة.

 

مَن قتلَ نسيب المتني

إنَّ حادثة صور في أواخر آذار 1958، عندما أحرق بعض الطلاّب العلم اللبناني فحكم عليهم بأقصى العقوبات ومظاهرة المدينة ضد القاضي وقائمقامها لم تكن كافية لاندلاع العصيان العام.

وكانت الاستعدادات داخل الجيش لمعارضة كميل شمعون تشير جليًا إلى تآمر أنطون سعد مع السراج لإيجاد سبب لمباشرة الإضراب العام والعصيان. ولقد افتعل سعد والسراج وزير الداخلية في الجمهورية العربية المتحدة حينئذ، السبب بإرسالهما من اغتال الصحفي المعارض نسيب المتني وألقيَا التهمة على أتباع الرئيس شمعون. ومشى القَتَلة والمتآمرون في جنازة المقتول ومن ثمّ أعلنوا الإضراب العام والعصيان حسب المخطّط الشهابي – السعدي.

ومساء الخميس الواقع في الثامن من أيار، أي يوم شُيِّع الصحفي نسيب المتني إلى مثواه الأخير، دعت السفارة الروسية إلى حفلة كوكتيل على شرف أعضاء وفد بلدية "أوديسا" وكنت موجودًا في الحفلة مع النقيب هنري شهاب.

وهكذا لم يكتفِ العقيد أنطون سعد بربط خيوط المؤامرة مع العقيد عبد الحميد السراج في أيلول 1957 في دمشق كما ورد سابقًا بل لجأ إلى التحريض المباشر.

وشاءت الصدف أن جمعتني حلقة واحدة في حديقة السفارة الروسية مع السيد رشيد كرامي ومفتي طرابلس الميقاتي والنقيب هنري شهاب والعقيد سعد. وكان الحديث يدور حول إغتيال المتني. وتدخّل العقيد سعد فقال لرشيد كرامي : "يجب أن تضرب طرابلس وأن تضرب بعنف وأن لا تخشى الجيش". وبالفعل، وفي اليوم التالي الجمعة الواقع في 9 أيار 1958، خرج المتظاهرون من صلاة الجمعة وأحرقوا عدّة محلاّت تجاريّة واستولوا على موجوداتها ولم ينزل الجيش إلى المدينة إلاّ عند الساعة الحادية عشرة ظهرًا.

وفي اليوم التالي أعاد المتظاهرون الكرة. نزل الجيش لا ليفرض النظام والهيبة بل ليتمركز في نقاط معيّنة بعيدة عن العصاة تاركًا لهم حرية العمل في المدينة القديمة.

وتجاهل فؤاد شهاب المبدأ العسكري القائل انه يجب إظهار القوّة قبل استعمالها  Il faut montrer la force avant de l’employer.

وبدأ بتنفيذ مخطّطه.

تركت السفارة الروسية عند الساعة العاشرة مساءً بصحبة النقيب هنري شهاب وذهبنا معًا إلى مقرّ قيادة فوجه في بئر حسن وتداولنا بالوضع واستدعينا صديقًا ضابطًا آخر من الضبّاط كان يأمر فوجًا. وتدارسنا معًا إمكانية وضع حد للفوضى في البلاد وكانت القوّات التي نستطيع استعمالها تقارب الألف جندي.

وضعنا في هذا الاجتماع العاجل الخطوط الرئيسيّة لاعتقال كل من الرئيس شمعون واللواء فؤاد شهاب وبعض الضبّاط الكبار وإبعادهم عن لبنان والمجيء بألفرد نقّاش رئيسًا للدولة والقاوقجي رئيسًا للوزراء وعادل شهاب قائدًا للجيش.

وانصرفنا حوالي الساعة الواحدة بعد نصف الليل على أمل متابعة البحث في اليوم التالي.

ونهار الجمعة في التاسع من أيار 1958 حضرت إلى مكتبي في قيادة الجيش وقد استدعاني العقيد شميط مع ضبّاط الشعبة الثالثة وطلب منا أن نفتح سجلاً جديدًا خاصًا غير السجل المألوف المسمّى بسجل الوقائع والعمليات الحربية. وأعطانا نموذجًا خاصًا لفتحه يبيّن فيه اليوم والتاريخ والساعة التي أُعطيت فيها الأوامر للوحدات العسكرية وعددها والمهمّات المنوطة بها والإفادات الواردة.

وكان العقيد شميط يبغي من وراء فتح هذا السجل تبرير التقاعس والتآمر على السلطة في حال جريان الرياح بما لا تشتهي سفينة فؤاد شهاب، وفي حال حدوث محاكمات للمتخاذلين والمتآمرين.

وعند الظهر تركت مكتبي واجتمعت بالنقيب هنري شهاب وقلبنا الوضع العام في لبنان والعالم العربي وموقف الدول الكبرى من الأزمة واستمرّينا ثلاث ساعات في بحث جميع نواحي الأزمة ونتائجها.

وسألني النقيب شهاب ماذا سيحلّ بالبلاد برأيي إذا ما أقدمنا على اعتقال الرئيس شمعون فقط وتسفيره إلى الخارج. فأجبته بأننا سنغضب الأكثرية الساحقة من اللبنانيِّين ولا نستطيع أن نستميل الفريق الآخر. أمّا إذا اعتقلنا شمعون وشهاب وجئنا بحكومة محايدة فسنسكت المعارضين والموالين.

وتشعّب البحث حول الأزمة وحول أوضاع الجيش. وتمَّ الاتفاق بالنهاية على ما ورد أعلاه وعدت إلى مكتبي عند الساعة الرابعة ظهرًا. 

وفي اليوم التالي، أي السبت الواقع في العاشر من أيار 1958، امتدّ العصيان إلى كل المناطق التي تسيطر عليها المعارضة وخاصةً المناطق المتاخمة للحدود السورية.

واتّصل بي النقيب شهاب هاتفيًا وطلب إليّ أن أحضر إلى مكتبه في فترة الظهيرة، فطلبت منه أن يؤجّل الاجتماع حتى المساء ليكون معنا الوقت الكافي للبحث فوافق.

وعند المساء انتقلت حوالي الساعة الثامنة إلى مكتبه وتدارسنا توزيع المهمّات على ضبّاطه الموثوقين وأراد أن يرسل ضابطًا مسلمًا لاعتقال الرئيس شمعون فاقترحت أن أذهب بنفسي كي لا يحدث ما لا تُحمد عقباه وتمّ الاتفاق على ضابط آخر يقوم بمهمة اعتقال فؤاد شهاب، وثلاثة ضبّاط آخرين لاعتقال الزعيم سالم والعقيد شميط والمقدم أنطون سعد. ولقد أراد هنري شهاب أن يطلع الزعيم عادل شهاب سلفًا على الخطة فعارضت المشروع وطلبت وضع الزعيم تجاه الأمر الواقع بعد التنفيذ.

وتدارسنا إمكانية تسفير المعتقلين إلى الخارج لكني خشيت من أن يقوم كل فريق بنشاط خارج لبنان واتفقنا على اعتقالهم جميعًا لدى البطريرك معوشي في بكركي وتحت حراسة مشدّدة وعلى أن يساهم البطريرك في حل الأزمة حسب اقتراحنا أعلاه.

 

تآمر فؤاد شهاب على الحكم تصل أخباره إلى الغوغاء

انطلقت في النهار التالي الأحد بسيارة الجيب عبر شوارع المدينة لأرى بنفسي ماذا يحدث. وبينما كنت عائدًا من ساحة الشهداء شاهدت بعض الفتيان يقطعون الطريق في أعلى شارع الشيخ بشارة الخوري، فتوقفت وترجّلت من السيارة، وعندما شاهدني هؤلاء صاحوا فيما بينهم "هودي جيش مش درك. افتحوا الطريق يا شباب. يعيش الجيش يا". وأقلعت بسيارتي وعدت إلى مبنى القيادة، وبت متعجبًا كيف وصلت أنباء ضلوع قائد الجيش بالمؤامرة مع المعارضة وبهذه السرعة.

واتصلت عند المساء بالنقيب شهاب وأخبرته بالحادثة فتعجّب مثلي وبعدها جلسنا وأخذنا نضع على الورق المهمّات بالتفصيل وعدد الجنود ودرسنا أسماء صفوف الضبّاط لكل مهمّة. وانتقلنا بعدها إلى الخطة السياسية واقترحت أن نترك للرئيس الجديد وحكومته معالجة الوضع على الصعيد السياسي الداخلي والخارجي على أن نحصر همّنا في الجيش لنضع يدًا قوية عليه وأن نبعد غير المرغوب فيهم عن المراكز الحسّاسة وعلى أن نشكّل معًا لجنة صغيرة تكون بالقرب من القائد الجديد.

وعندما هممت بالانصراف حوالي منتصف الليل سألته أين سيضع هذه الأوراق أجاب أنه سيضعها في جرّار مكتبه الحديدي ويقفله ويبقي المفاتيح معه. رجوته أن يأخذها في جيبه ويضعها في منزل شقيقه ريمون، لكنه رفض قائلاً انه ينام في مكتبه بالنظر للحجز ولن يجرؤ أحد على الدخول إليه. اعترضت مجددًا وقلت له انه يغادر مكتبه كثيرًا لتفقد جنوده المنتشرين على الحواجز في بيروت، ولربما تمكن أحدهم من الحصول عليها. فأجاب بأنه لن يطول الأمر وسنقوم خلال الأسبوع المقبل بالتنفيذ فلا لزوم لأخذ هذه الأوراق وجلبها في كل مرة يحتاج إليها.

وصباح الإثنين الواقع في الثاني عشر من أيار 1958 وعند الساعة الثامنة مرّ النقيب شهاب بمكتبي وطلب إليّ أن أذهب بمعيّته إلى فوجه، فأجبته أنني لا أستطيع أن أتغيّب كثيرًا عندما يكون شميط وسالم وقائد الجيش في القيادة وخاصةً في هذه الظروف. وأبدى أمامي بعض التخوّف من عدم تلبية الوحدات العسكرية لأوامرنا بعد التنفيذ فأجبته أن لديّ مجموعة كبيرة من الضبّاط الأصدقاء المتذمّرين من الوضع وهم على استعداد للوقوف إلى جانبنا فور نجاحنا لكن لم أطلعهم في الوقت الحاضر على الخطة. ولقد أضفت له قائلاً : لا تنسى المثل اللبناني القائل "مين ما أخذ أمّي صار عمّي" وسنصبح عمّين للجميع بعد ساعة من التنفيذ.

وانصرف من مكتبي بعد ساعة تقريبًا ولم أتمكّن من الاتصال به حتى التاسعة مساءً.

وعند المساء تمّ الاتفاق نهائيًا على تنفيذ الخطة وعلى موعدها على أن يكون ليل الأربعاء الخميس الواقع في الخامس عشر من أيار عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.

في اليوم التالي الثلاثاء الواقع في الثالث عشر من أيار 1958 وعند الساعة الثامنة صباحاً مرَّ النقيب شهاب بمكتبي ودعاني لتناول الطعام معه في مكتبه ووعدته بالحضور عند الساعة الواحدة بعد الظهر.

تركنا المكتب معًا حوالي التاسعة صباحًا، فذهب هو إلى مكتبه وذهبت إلى مصالح الجيش للاطّلاع على وضع الذخيرة وبعدها انتقلت نحو ساحة الشهداء وبعض شوارع المدينة. وعند الساعة الحادية عشر تقريبًا، وبينما كنت عائدًا إلى مبنى القيادة وعند دائرة المقاصد الخيرية تقدّم مني النائب ضابط فريد رحمه وأخبرني بأن النقيب شهاب أُصيب برصاصة في رأسه بينما كان يتفقّد بعض جنوده في الطريق الجديدة وقد نُقِل إلى المستشفى العسكري.

انطلقت مسرعًا باتّجاه المستشفى ودخلت إلى غرفة الطوارئ. وحاولت إحدى الراهبات منعي فدفعتها جانبًا وهناك شاهدت النقيب شهاب مسجى بلا حِراك على طاولة الإسعاف ومن حوله الأطباء يسعون عبثًا لإعادة الحياة إليه، فالتفت نحونا المقدم الطبيب يزبك قائلاً : انتهى كل أمل.

خرجت ثائرًا وصادفت أمامي المقدّم أنطون سعد وكان شاحب اللون خائفًا، فقلت له : تفضّل شوف شو عملت إيديك القذرة. راح نتحاسب قريبًا.

انطلقت باتّجاه ثكنة فوج النقيب شهاب في بئر حسن. وهناك جمعت الجنود وأخبرتهم بما حلّ برئيسهم وأضفت قائلاً أننا سننتهي اليوم من هذه المسرحية التي تمثّل على أرض الوطن في سبيل شهوة الحكم عند البعض والتي تذهبون ضحاياها. وإنّنا سننتهي اليوم من الفريقين. وأمرت الجنود بالصعود إلى الشاحنات.

وفي هذه البرهة استُدعيت إلى الهاتف فإذا بالمتكلّم الزعيم جميل شهاب قائد موقع بيروت بالوكالة الذي هدّدني بإحالتي أمام المحكمة العسكرية لأنني اغتصب قيادة ليست لي وأمرني بالعودة إلى مبنى القيادة. فرفضت قائلاً : "لن ندعكم تتآمرون على مصيرنا ومصير جنودنا". وعدت وقدت الجنود باتّجاه وزارة الدفاع وأثناء الطريق قرب سباق الخيل ترجّلت بغية جرّ كتيبة المصفّحات المتمركزة هناك إلى ثورة عامة على القيادة. وفي الطريق شاهدت ملازمًا يقود فصيلة بالنظام المرصوص ومتّجهًا نحوي وعندما اقترب مني قلت له بلهجة الأمر : "انقبر ضبّ عسكريتك وامشي وراي" فذعر وأمر جنوده بالسير معي. ولقد تبيّن لي فيما بعد أن هذا الضابط إسمه سامي الخطيب، ولقد ذكّرني حضرته بالحادثة، عندما أصبحت في السجن بعد ثلاث سنوات بينما كان يشرف على التحقيق. وعند وصولي إلى تلك القوّة المصفّحة رأيت وجوهًا مذهولة وخائفة وخاصةً عند الضبّاط.

وبينما كنت أتحدّث إليهم بوجوب إنهاء حالة العصيان ووضع حدّ للاضطراب إذ بالمقدّم لويس شهاب قائد الشرطة العسكرية ومعه ثمانية شرطيّين يقف بعيدًا عني ويقول لي أن رئيس الأركان الزعيم سالم يطلبني كي أعود إلى القيادة. فأجبته بأنني هنا باقٍ وليبلغ الجميع بأني لن أعود قبل وضع حدّ لهذه المهزلة.

وفي هذه الأثناء أعطوا الأوامر إلى ثكنات بيروت بوجوب حراستها على المداخل، وفي حال قدومي نحوها بوجوب قتلي شخصيًا وتحاشي قتل الجنود. وفي اليوم التالي وبعد أن انتهت الأزمة العارضة، أخبرني كل من النقيب عبد المطلب الحاج والملازم الأول ڤيكتور خوري بهذا التدبير.

وبعد أخذ هذه الاحتياطات حضر الزعيم سالم رئيس الأركان بنفسه إلى منطقة السبق حيث كنت مع جنود الفوج المضاد للطائرات وجنود وحدات أخرى، ووقف بعيدًا عني، فبادرته قائلاً بأني لن أعود قبل أن أضع حدًّا لهذه المهزلة. فعاد من حيث أتى وأرسل زميلي وصديقي الملازم الأول أنطون لحد معاون رئيس الشعبة الثانية ورجاني بأن أعود معه إلى القيادة لأن ما أقوم به بمفردي لن يؤدّي إلى نتيجة. وحضر الزعيم سالم مرّة ثانية وعدت معه ومع لحد في سيارة واحدة. واستدعاني فؤاد شهاب إلى مكتبه على الفور، وأخذ يتمسكن أمامي قائلاًَ لي أنه كان يود ترك البلاد والذهاب إلى "نيس" في فرنسا حيث لزوجته منزلاً ورثته كي يرتاح من أعباء القيادة إنما بقِيَ خصوصًا كي لا نقتتل نحنُ الضبّاط الصغار فيما بيننا وانه هو يسعى لحلّ المشكلة، وانه محتار كيف سيخبر زوجته بمقتل هنري وهو نسيبه ويعزّه كثيرًا. وكنت في هذه الأثناء أُراقب وجهه فلا أرى فيه أية علامات التأثّر بل كان "كالبلاطة" إنما يخفي وراء هذا القناع الجامد تصميمًا على الوصول إلى الحكم مهما كلّف الأمر.

خرجت من مكتبه كي أرى أمام مكتبي وفي كل دوائر القيادة إخباريّة ملفّقة من الشعبة الثانية تقول : "انّ مراقبي الهاتف التقطوا مخابرة مفادها أن قوميًّا إجتماعيًّا قد اتّصل بمنزل أسد الأشقر وهو يقول له انه أطلق النار على الجيش والعصاة معًا وقتل الضابط شهاب وانه مُحاصَر في الطريق الجديدة وهو يطلب مساعدته كي يخرج من المنطقة.

وشاهدت العقيد إميل البستاني قائد سلاح الطيران خارجًا من مكتبه في مبنى القيادة حاملاً الإخباريّة بيده وهو يقول : "شو هالحكي الكذب خلّصونا بقا".

ولقد قصد أنطون سعد من وراء هذه الإخبارية الملفّقة تحويل غضبة الجنود والضبّاط الطبيعيّة على المعارضة نحو القوميّين الإجتماعيّين المناوئين للمعارضة. والحقيقة أنه لا المعارضة ولا القوميّين الإجتماعيّين قتلوا هنري شهاب. بل قتل نفسه لعدم احترازه وعدم إخفاء نواياه. وقد تكشف السنوات المقبلة حقيقة الأمر.

ولم يكتفوا بنشر الاخبار الكاذبة، إنما عيّنوني وعيّنوا الملازم أوّل لحد ليقود كل منا كوكبة من الدبّابات ومفرزة من شرطة الجيش، وندخل منطقة العصاة ليلاً ونفتّش بناية كبيرة قِيل أن الجاني مُختبئ فيها.

أدركت للحال أنهم يريدون إيجاد منفس للجيش وأصبحت بين أمرين : إن رفضت القيام بهذه المسرحية أُتهِمت بالجُبن وإن قَبِلت أكون كمَن سلكت عليه الأمور وخُدِع فقرّرت القبول والتنفيذ.

وقمنا بالمهمّة عند الساعة العاشرة ليلاً بعد أن ردمنا الخنادق المحفورة. وبالطبع لم نعثر على أحد.

وفي اليوم التالي صباحًا جاءني النقيب فرنسوا جنادري مرافق اللواء شهاب قائلاً : "هودي القوميِّين بيقتلوا القتيل وبيمشوا بجنازتو. هلّق أسد الأشقر رئيس الحزب جايي يشوف الجنرال شهاب حتى يعزّيه بهنري شهاب حطُّلو شي رصاصة برأسه وخلّصنا مِنُّه". وللحال أدركت أنهم يريدون التخلّص مني ومن أسد الأشقر بحجر واحد. فنظرت إليه نظرة ذات مغزى وقلت له : "الجنرال لا يرضى بأن يقتل أسد الأشقر في حماه، والقوميّين لم يقتلوا هنري شهاب".

وعندما أدرك أن خطته لم تسلك قال لي : "معك حق" وانصرف. وما زلت حتى اليوم أتساءل هل الشيء الذي طلبه مني هو من رأسه أم من رأس قائد الجيش ؟

وفي اليوم التالي، وقبل تشييع النقيب هنري شهاب إلى مقرّه الأخير، استدعاني الزعيم جميل شهاب قائد موقع بيروت المفوّض بالوكالة والذي كان قد هدّدني بالأمس بإحالتي أمام المحكمة العسكرية، وهنّأني على موقفي قائلاً : "يا ريتك كمَّلت وخلّصتنا من هالفوضى". فشكرته وخرجت من مكتبه وأنا أتساءل كيف أن هذا الضابط الكبير والقديم والقريب من فؤاد شهاب لا يعرف بنوايا نسيبه ولا بخططه. وهكذا كان وضع كل ضبّاط الجيش الكبار، لا قدرة لهم على التحليل ولا على الفهم السياسي. ولقد استعملهم فؤاد شهاب كحجارة الشطرنج.

وفي النهار ذاته وبينما كنت في المستشفى العسكري أهتمّ بتحضير مأتم النقيب شهاب، شاهدني الزعيم ابراهيم السمراني مدير المصالح وهو أيضًا ضابط كبير وزميل لجميل شهاب من دورة 1923 – 1925 في مدرسة دمشق العسكرية أي تخرّجنا بعد فؤاد شهاب بسنتين. فدعاني إلى مكتبه وهنّأني على موقفي في الأمس وبدأ يتذمّر أمامي من الوضع ويتساءل لماذا يتصرّف اللواء شهاب هكذا وماذا يريد ولماذا لا يضع حدًّا للعصيان ؟ فشكرته أيضًا وقلت لأن الجنرال بدّو يعمل رئيس جمهورية. فأجابني : ليش هيك بيعملو رئيس جمهورية ما العالم عم بتسبُّو. وقلت في نفسي وهذا ضابط كبير آخر لا يعرف شيئًا ولم يطّلع على شيء من الخطط الجهنّميّة ولم يستنتج شيئًا سوى أنه يتساءل. 

 

الرئيس شمعون يستدعي اللواء شهاب

ولقد استدعي اللواء شهاب في بداية العصيان إلى القصر الجمهوري فعرض أمام الرئيس شمعون كيف وزَّع قواه العسكرية في البلاد وادّعى أنه لم يبق لديه أي إحتياط وانه لا يستطيع أن يعمل أكثر ممّا عمل. واصطدم في مجلس الوزراء كاظم الخليل الذي أتهمه بالتقاعس فأجابه فؤاد شهاب : "ماني عاجبكم اعزلوني". فرد عليه كاظم الخليل قائلاً : "لو القصة راجعة إلي لعزلتك من زمان".

وعندما انصرف فؤاد شهاب صافح جميع الوزراء مودعًا باستثناء الوزير كاظم الخليل. وقد حقد عليه منذ ذلك اليوم. وعندما قمنا بمحاولة الانقلاب في أواخر العام 1961 أمر شهاب باعتقال كاظم الخليل وأشقّائه وأُهينوا جميعًا رغم انه لا علاقة لهم بالمحاولة.

 

العُصاة يُهاجمون مراكز الجمرك والأمن العام في المصنع

في النصف الأوّل من شهر أيار هاجم العصاة وبعض الأخصّائيّين من الجيش السوري مراكز الجمرك والأمن العام في المصنع، وعلى الرغم من استنجاد موظّفي الجمارك بقوى الجيش في أبلح، والتي لا تبعد سوى عشر كيلومترات، قبل بدء الهجوم على المركز ونسفه بالديناميت بساعات فإن حضرة الزعيم عادل شهاب لم يتحرّك إلاّ في آخر لحظة فأرسل قوّة من المصفّحات مع أوامر مشدّدة بالوقوف بعيدًا عن مركز المصنع. وقد هبط الثوّار أمام أعين الجيش ونسفوا كافة الأبنية بالديناميت وأشعلوا النار في إثني عشر صهريجًا متوقّفة هناك واقتادوا ستة من موظّفي الجمارك الكبار فقتلوا الخمسة المسيحيّين واقتادوا الموظّف المسلم معهم إلى دير العشائر. وكان بين القتلى شقيق لنائب ضابط من آل عوّاد يعمل معي في الشعبة الرابعة وآخر من آل أبو ديب من زغرتا.

واستمرّ تدفّق الأسلحة من سوريا إلى كافة العصاة والمجنّدين من جنود الاحتياط السوري الدروز الذين أرسلوا للسيد كمال جنبلاط.

 

الشلّة الشهابيّة ترفض أوامر السلطات المدنيّة

في منتصف أيار شاهدت شرطيًا مدنيًا يقف في مبنى القيادة محتارًا. فتقدّمت منه وسألته عمّا يبغي. فأجابني انه يحمل رسالتين مستعجلتين من القصر الجمهوري إلى قيادة الجيش وانه أعطى هاتين الرسالتين إلى المقدّم سعد ففضّهما وقرأهما ورفض استلامهما. أخذت الرسالتين منه قرأتهما فإذا بالأولى تنصّ على ما يلي : إنّ مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ كذا... برئاسة فخامة الرئيس قرّر تكليف قيادة الجيش باتّخاذ الإجراءات الضرورية لاعتقال كل من الأشخاص التالية أسماؤهم والمسؤولين عن العصيان في البلاد : صائب سلام، كمال جنبلاط، رشيد كرامي، صبري حماده، معروف سعد، خالد صاغيه. وكان يحمل هذا القرار إلى جانب توقيع الرئيس تواقيع كافة الوزراء بمن فيهم سامي الصلح، خليل الهبري، بشير العثمان، رشيد بيضون، كاظم الخليل، بشير الأعور ومجيد إرسلان وغيرهم لم أعد أذكر أسماءهم. والرسالة الثانية تنصّ على ما يلي : إنّ مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ كذا وبرئاسة الرئيس شمعون قرّر ما يلي : "انه بالرغم من تعطيل صحيفتَيّ بيروت المساء والسياسة بقرار من وزير الأنباء ما زالت هاتان الصحيفتان تصدران، لذلك تكلّف قيادة الجيش باتّخاذ الإجراءات اللازمة لإقفال مكاتب هاتين الجريدتين".

وأخذت الرسالتين إلى العقيد عبد القادر شهاب النائب الثاني لرئيس الأركان وسلّمته إياهما وقلت له ما جرى للشرطي في الشعبة الثانية فقرأهما وقال لي : قل له اننا استلمناهم. أجبته انه يريد توقيعًا على المغلّفين إشعارًا بالاستلام على أن نحتفظ بالرسالتين. فوقّع على المغلّفين وسلّمتهما للشرطي الذي انصرف وعدت إليه فسلّمني الرسالتين. قلت له ماذا أفعل بهما ؟ فأجابني : "مسِّح... فيهم".

 

العقيد لحّود يوسّط الرئيس شمعون ليستلم قيادة فعليَّة

خلال شهر حزيران من 1958 وسّط العقيد فؤاد لحّود الرئيس شمعون كي يضغط على فؤاد شهاب لتسليمه قيادة فعليّة بدل وظيفة مفتّش للسلاح المدرّع.

فأذعن اللواء لضغط الرئيس قائلاً : "شو فؤاد لحّود بيفهم بالعمليات أكثر منّا. راح أعطيه قيادة حتى شوف شو بيطلع منّو". وكان اللواء يريد الظهور بمظهر الخاضع للسلطة المدنية، وكان يلبّي طلبات رئيس الجمهورية، لكنه يعود لينسف مقوّماتها سرًا.

ولقد عيّن اللواء العقيد لحّود قائدًا لموقع مرجعيون، وفي نفس النهار الذي ذهب فيه ليستلم قيادته الجديدة، سحب العقيد شميط، بأمر من فؤاد شهاب، بعض الوحدات العسكرية من مرجعيون إلى بيروت كي لا تكون تحت تصرّفه قوّة يستطيع التحرّك بها. ومن بين الذين سحبوا سرية مشاة بإمرة الملازم الأوّل رفيق الزين يعاونه الملازم أوّل رفيق حيدر.

ولم يكتفوا بذلك، بل استدعى المقدّم سعد الملازم الأوّل زين مكي من مرجعيون إلى الشعبة الثانية، وعندما حضر إلى مكتبه استدعى الملازم الأوّل أحمد الحاج المعاون الثاني لرئيس الشعبة الثانية. وتحدّث الثلاثة عن الحالة في البلد وعن تنكيل الرئيس شمعون بالمسلمين في البلاد. عندها انصرف المقدّم سعد قائلاً للملازم أوّل أحد الحاج : "فهمو يا أحمد". وقال أحمد لزين مكي : "شوف يا زين، هذا العقيد لحّود رايح على مرجعيون حتى يفتك بالسكّان المسلمين، بتحرِّض العسكريّة الاسلام عليه وبتقتلوه". فأجابه زين "كيف بدّك حرِّض العسكرّية عليه وهو رئيسي وفي عسكريّة غير مسلمين أيضًا، شو بدَّك نعمل مجزرة هونيك. أجابه عندئذ قائلاً : "عمول هلِّلي عم قلَّك عنُّو وما عليك".

علمت بالأمر وحذّرت الضابط مكي من عمل أي شيء لأن ذلك يكون فاتحة لمجزرة تفوق أحداث عام 1860. ولقد كان الملازم أول مكي فطنًا ومخلصًا لوطنه، ولم تكن شهوة الحكم تعميه كما أعمت اللواء شهاب ورئيس استخباراته العقيد سعد، فينطفئ إدراكه وإحساسه بالمسؤولية. وسنرى في آخر هذا الكتاب ما جـرّت علينا هذه القصة من مشاكل.

ولم يكتف أنطون سعد بما فعل بل أرسل وحذّر كمال جنبلاط في المختارة من العقيد فؤاد لحّود كي يكون يقظًا من جهة مرجعيون. وفيما بعد، عاتب كمال جنبلاط النائب سليم لحّود شقيق العقيد فؤاد قائلاً : "ولو خيَّك طلب مدافع من فؤاد شهاب حتى يهدّم المختارة".

وخلال شهر حزيران تدنّى عدد القنابل العائدة للمصفّحات ستاكهوند. ولقد أطلعت العقيد شميط على ذلك. فطلب إليّ الإتصال بالملحق العسكري الأميركي وسؤاله إذا كان باستطاعة الولايات المتحدة مدّنا بهذا النوع من الذخيرة. وبعد أربعة وعشرين ساعة أجابني بالإيجاب وبدأت طائرات ضخمة تابعة لسلاح الجوّ الأميركي بنقل هذه الذخيرة من المانيا إلى بيروت فكنت استلمها في المطار الدولي وأنقلها بشاحنات الجيش.

وبعد مصرع النقيب شهاب كان اهتمامي الوحيد هو المحافظة على وحدة الجيش. فقد بدأ يفرّ عدد من الجنود وبدأ يتململ أبناء منطقتنا من جنود عكّار وعددهم خمسة آلاف جندي وهم يشكّلون نصف عدد الجيش اللبناني فاتّصلت بالمقدّم سعد ولفتّ نظره قائلاً له : "أنتَ تعلم أن نصف الجيش من عكّار. وهذا القضاء خالٍ الآن من أي سلطة وأي قوّة عسكرية. وعلمت أن هناك فرض خوّة واعتداءات على النساء في بعض القرى وأعمال نهب وسطو على الآمنين. وأضفت قائلاً : وإنتَ أدرى بأن كل شبابنا من إبن ستة عشر سنة إلى إبن خمسة وأربعين هم في الجيش ولا يوجد في عكّار سوى النساء والأطفال والعجّز. إنّ أي اعتداء، من أية جهة أتى لن يبقى عندك جنود لأنهم سيفرّون بسلاحهم للدفاع عن ذويهم. فأجابني قائلاً وبلهجة غير الراضٍ عن حديثي : لقد أوعز اللواء شهاب إلى العصاة والجعافرة بأن لا يعتدوا عليكم !!

انصرفت من مكتبه لأجد أنه أخذ يشيع عني في مكاتب قيادة الجيش بأني شمعوني متآمر عليه وعلى فؤاد شهاب. وأنا شخصيًا ليس لي أية معرفة شخصية بالرئيس شمعون وليس لنا أية علاقة سياسية معه إذ اننا من عكار وهو لا يعرفني معرفة شخصية كزميلي الملازم أول لحد.

لم يمض على حديثي معه ثلاثة أيام حتى هبط الجعافرة من الجرد، رغم صداقتنا معهم، وطوّقوا القبيات وجبرائيل وحلبا وأطلقوا النار على السكّان الآمنين فقتلوا إمرأة وجرحوا عددًا آخر في القبيات. ولقد سقط عدد من الضحايا في المناطق الأخرى. ذهبت إلى مكتب المقدّم سعد وقلت  له : تفضّل شو بتريد نعمل الآن مع الجنود. فأجابني أنه أرسل قوّة من الجيش إلى القبيات. وكان مضطربًا وينظر إليّ شذرًا.

بعد ظهر ذلك اتصل بي العقيد عبد القادر شهاب وطلب إليّ أن اتصل بصفوف الضبّاط من أبناء عكار وأن أطمئنهم أنه لن يحدث شيء من هذا في المستقبل. وعلمت أنه حصل عصيان في ثكنة حمّانا وذهب الجنود من أبناء عكار، عندما سمعوا بما حصل لذويهم، إلى مخازن الأسلحة واستولوا عليها وكادوا أن يذهبوا بسلاحهم إلى قراهم. وكان اتّصالي بهم في الوقت المناسب لأنهم كانوا يثقون بي فرجوتهم الخلود إلى السكينة وطلبت إليهم أن يتّصلوا بي عند الضرورة واني مستعد أن أذهب على رأسهم عندما تدعو الحاجة. وطمأنتهم بأننا اتخذنا إجراءات حازمة هناك.

وأرادت القيادة بعد ذلك سحب الجنود بحجة صعوبة التموين، فثار أبناء القبيات وقطعوا الطريق أمام القوّة طالبين من رئيسها إمّا البقاء وإمّا إرسال أبنائهم لهم للدفاع عنهم. واتّصل بي هذه المرّة الزعيم سالم وقال لي : ما الحلّ ؟ فقلت بوجوب إبقاء القوّة هناك. فقال : والتموين ؟ قلت سيعيش الجنود المئة والخمسين كما يعيش السكّان هناك وعددهم خمسة عشر ألف نسمة. فقال : "هذا حكي". فقلت إذًا نسلِّح المتقاعدين هناك. فوافق على ذلك وسلّحناهم من مستودعات الجيش بواسطة المظلاّت ولقد نقلنا العتاد بطائرة مستأجرة من شركة طيران الشرق الأوسط. ولقد علمت أن مظلّتين لم تنفتحا فتحطّمت خمسة وعشرون بندقية وبعض صناديق الذخيرة. ولقد أرسلت فيما بعد، بواسطة طائرة عسكرية، عددًا من الرشّاشات الهوشكيس وبعض الأدوية.

وطالت الأزمة وبدأت أُفتّش عن حلّ جديد خارج الخطة الشهابيّة. وفي شهر حزيران ذهبت ليلاً وسرًا إلى طرابلس واتّصلت بالعقيد أنور كرم، وتباحثت معه حول إمكانية إنهاء حالة العصيان بأي عمل عسكري وضد كل الفئات فوجدته فاترًا ومتشائمًا فعدت إدراجي يائسًا من كل هذه الطبقة من الضبّاط التي ورثناها من فرق الشرق الخاصة من عهد الإنتداب.

وفي أواخر حزيران 1958 أرسل أمين عام هيئة الأمم المتحدة مراقبين دوليّين بناءً على شكوى لبنان ضد الجمهورية العربية المتحدة التي ساعدت على العصيان في لبنان ومدّت المعارضة بالمال والسلاح.

ولقد قابل الأمين العام كلاً من رئيس الجمهورية وقائد الجيش وبعض السياسيّين وفهم الوضع الداخلي على أن "دود العد مِنُّه وفيه".

 

ضابط آمر كوكبة مصفّحات من الدرك يُهاجم مَعقل العُصاة

في أوائل شهر تمّوز أقدم الملازم أوّل مجاعص من قيادة الدرك على حصار بيت صائب سلام بالمصفّحات، وقذف المسلّحين المعتصمين حول مداخله بالنيران. وعندما علمت قيادة الجيش بذلك أرسلت الملازم الأول ڤيكتور خوري على رأس كتيبة من الدبّابات وأنذرت ضابط الدرك بفكّ الحصار والعودة من حيثُ أتى.

 

كمال جنبلاط يجتمع برئيس الحزب القومي

على اثر اصطدام قوّات جنبلاط الزاحفة على مطار بيروت الدولي عبر طريق قبرشمول مع قوّات الحزب القومي الاجتماعي التي صدّته وأعادته من حيثُ أتى، تمكّن شيخ عقل الحزب الجنبلاطي محمد أبو شقرا من تأمين اجتماع بين السيد أسد الأشقر يصحبه سعيد تقي الدين والسيد كمال جنبلاط في مزرعة سبلين بالقرب من صيدا. ويلخّص الحديث الذي دار بين الفريقين بأن قال أسد الأشقر لجنبلاط إذا كان الخلاف هو على تجديد ولاية الرئيس شمعون دعنا نجمع قوانا ونحول دون تجديده. فأجابه جنبلاط قائلاًَ : "يا أستاذ أسد من عقلك نحنا فينا نزّلو ؟ كل شي عمال نعملو هوِّي الضغط على السفارات الغربية حتى ما تخلّيه يجدّد.

 

فؤاد شهاب يُسلِّح الحزب القومي

لم يرد فؤاد شهاب أن تقوى المعارضة في البلاد كثيرًا كي لا تتحكّم به فيما بعد. لذلك عندما قويت شوكتهم في أوائل تموز 1958 استدعى رئيس الحزب القومي الاجتماعي السيد أسد الأشقر وأعطاه ثمانماية وخمسين بندقية حربية.

ولكن هؤلاء عندما أحسّوا أنهم أقوياء كفاية أرادوا إرسال بعض الشراذم المسلّحة لمساعدة آل الخليل في صور فأمر فؤاد شهاب بقطع الطريق وإعادتهم من حيث أتوا. إنَّ كل ما كان يبغيه فؤاد شهاب من هذه المناورات هو إضعاف الفريقين وإنهاكهما كي يأتي هو كمنقذ.

ضبّاط حامية أبلح يحضّرون إنتفاضة على السلطات المدنيَّة

عندما تصبح السلطة في الشارع ولا سند لها سوى بندقية الجندي فمن الغباء أن لا يفكّر كل حامل بندقية بالتقاطها ولمصلحته.

هذا ما حمل بعض ضبّاط الجيش الصغار في منتصف شهر تموز 1958 على الاتّصال بالزعيم عادل شهاب قائد منطقة البقاع ومصارحته بموضوع قلب السلطات المدنيّة.

وقد ضمَّت هذه الحلقة كلاً من المقدّم منير حمدان قائد الفوج الكشّاف، والنقيب فوّاز قيس، وبعض الضبّاط الصغار.

وقد وافق قائد المنطقة على الفكرة وطلب منهم إعداد الخطة. فاتّصل المقدّم حمدان والملازم أوّل عبد الصمد بالمعارضة في بعلبك، وعلى رأسها آل ياغي، وطلب منهم التعهّد بمساندة الزعيم عادل شهاب في محاولته لقلب الرئيس شمعون، فوقّعوا اتّفاقًا خطيًا بذلك.

ودعا عادل شهاب الحلقة إلى مكتبه ففوجئوا بوجود المقدّم سعد. ولاحظ الزعيم إمارات التعجب والحذر على وجوههم فبادرهم بقوله : "تفضّلوا لا تخافوا أنطون مِنَّا وفينا". وبدأت الشلّة بدراسة الوضع العام وأوضاع الضبّاط. وعندما وصل أحدهم على ذكر إسمي انتفض أنطون سعد غاضبًا وقائلاً : "هذا شمعوني متآمر علينا يجب تسريحه من الجيش، هذا كذا وكيت".

ويبدو أن أنطون سعد أخبر اللواء شهاب بالأمر، فاتّصل هذا الأخير بالزعيم عادل شهاب وقال له : "يا عادل بلا حركات، اتركوني أعرف إشتغل وخَلِّص هالحالة". وبعدها انفرط عقد الشلّة.

 

الرئيس عبد الناصر يقترح حلاًّ للأزمة اللبنانيَّة على الولايات المتّحدة الأميركيَّة

وفي حزيران، تقدّم عبد الناصر باقتراح إلى الحكومة الأميركيّة لحلّ الأزمة اللبنانيّة. وكان اقتراحه يقضي باستقالة الرئيس شمعون وبتعيين اللواء شهاب رئيسًا للجمهورية والسيد رشيد كرامي رئيسًا للوزراء.

ولم تأخذ واشنطن بهذا الحلّ في البداية لكن عندما تدهور الوضع في العراق ونزلت القوّات الأميركيّة في لبنان، أرادت واشنطن إسترضاء عبد الناصر فقبلت بالاقتراح وفرضت فؤاد شهاب رئيسًا على الجمهوريّة اللبنانيّة وكرامي رئيسًا للوزراء.

وذكر الرئيس ايزنهاور هذا الاقتراح في مذكّراته الأخيرة فكان هذا دليلاً جديدًا على تآمر فؤاد شهاب مع عبد الناصر للوصول إلى الحكم. ولم نكن ضد وصوله لكننا كنا ضد هذا الأسلوب الذي كلَّف لبنان ثلاثة آلاف قتيل وهدر طاقاته والثقة بين أبنائه.

وفي تموز ساء الوضع في لبنان والأردن لدرجة أن الحكومة العراقية قرّرت إرسال قوّات عسكرية إلى الأردن وقيل أنها ستأتي فيما بعد إلى لبنان. وأثناء مرور هذه القوّات، ليل 13 – 14 تموز، بالقرب من بغداد، مرّت على المدينة قبل الفجر وقتلت الملك فيصل والوصي على العرش عبد الإله وكل صغير وكبير من العائلة المالكة حتى الخدم. وتمكّن نوري السعيد من الفرار لكن أمرهُ اكتُشف في اليوم التالي وقتل وسحل في شوارع بغداد هو وعبد الإله. ولقد استنفر أحد قادة الفرق المدرّعة الموالي لنوري السعيد والعائلة المالكة فرقته وكاد أن يزحف إلى بغداد لسحق الثورة الجديدة لكن عبد الكريم قاسم اتصل به هاتفيًا وأبلغه أن كل شيء انتهى، وان عبد الملك وعبد الإله ونوري السعيد قد قُتِلوا فإلى أين أنتَ قادم. وهكذا في الدول المتخلّفة عندما يزول الرأس تزول الشرعية المبنية على الرمال.

لقد كان أثر الانقلاب العراقي كبيرًا على الوضع في لبنان، فالرئيس شمعون الذي أبدى شجاعة طيلة مدّة العصيان كان صباح 14 تموز قلقًا ومتوتر الأعصاب. وظلّ شهرين يبخل على الحزب القومي الاجتماعي بالمال والسلاح الذي كان يوزّعه على أنصاره، الذين كانوا يقدمون على بيعه. ولكن في هذا الصباح أبدى كل رغبة في أن يفتح مخازن الدولة أمام الحزب القومي الاجتماعي الذي كان الوحيد من بين الهيئات الشعبية الموالية الذي حارب واستشهد من أعضائه في ساحات القتال عدد كبير. وصباح 14 تموز حضر رئيس الحزب القومي إلى القصر الجمهوري واتصل بالرئيس شمعون وفاتحه بقصة السلاح، فقال له الرئيس شمعون، اتّصل بقائد الدرك سيمون زوين وقُل له أن يعطيك ألف بندقية من الأسلحة المُستَلَمة حديثًا من الولايات المتحدة. واتّصل أسد الأشقر بالزعيم سيمون زوين وأبلغه أوامر الرئيس فأجاب هذا الأخير بأنه لا يستطيع إعطاء هذه الأسلحة إلاّ بأمر من قائد الجيش فؤاد شهاب أو من السفارة الأميركيّة.   

لكن الأحداث كانت أسرع من الاتّصالات. فقرّرت واشنطن تلبية طلب الرئيس شمعون السابق لإنزال قوّات أميركية في لبنان. ومساء الخامس عشر من تموز كانت طلائع هذه القوّات تنزل في مطار بيروت الدولي وفي مرفأ المدينة. بينما نزلت قوّات مظلّية بريطانيّة في الأردن.

في 14 تموز، وعند الساعة التاسعة مساءً، ذهبت إلى مكاتب جريدة النهار فبادرني الأستاذ ميشال أبو جوده، رئيس تحرير القسم الخارجي في الجريدة آنذاك بقوله : أذاعت بريطانيا أن الأسطول السادس اتّجه نحو الشواطئ اللبنانيّة بناءً على طلب رئيس الجمهورية اللبنانيّة. وأبلغني أيضًا أن الإذاعة اللبنانيّة كذّبت النبأ مرّتين. وعدت عند الساعة الواحدة من صباح 15 تموز إلى مبنى القيادة وفوجئت عند الساعة الثامنة صباحًا بأنه ما من أحد يعلم بالنبأ : لا اللواء شهاب ولا العقيد شميط ولا أحد منهم. وعندما أبلغتهم النبأ كلّفني العقيد شميط بإرسال طائرة مقاتلة نفّاثة من طراز فامبير (Vampire) باتّجاه قبرص للتأكّد من الخبر. وعند الساعة العاشرة تقريبًا أفادنا الطيّار الملازم أوّل عبود بواسطة الراديو بأنه شاهد عدّة قطع بحرية متّجهة نحو الشاطئ اللبناني وعلى بُعد عشرين كيلومتراً من الشاطئ.

فأبلغت العقيد شميط بالنتيجة. وعدت إلى مكتبه مرّة ثانية لأجد المقدّم أنطون سعد رئيس الشعبة الثانية خارجًا من عنده أصفر اللون مضطّربًا، وعندما شاهدني أمام الباب نظر إليّ بغضب وقال : "بدّنا نقاوم – سامعين. بدّنا نقاوم". وقد اعتقد أنطون سعد أن مسرحيته ومسرحية فؤاد شهاب قد انتهت لذلك كان مضطّربًا، لكن اللواء فؤاد شهاب قام بمناورة جديدة نُفِّذت بعد أن تمّ إنزال القوّات الأميركية في مطار بيروت. وتقضي المناورة بتوجيه بعض وحدات الجيش اللبناني وتطويق القوّات الأميركيّة في مطار بيروت مع إعطاء أوامر مشدّدة بعدم إطلاق النار. وكان المقصود من هذه المناورة السياسيّة العسكرية هو إظهار تضامنه مع المعارضة وتشديد عزائمها بمتابعة العصيان وإظهار نفسه أمام السلطات العسكرية الأميركية أنه هو الرجل القويّ في البلاد وليس الرئيس شمعون. فبعد أن كان كل من السيدين صائب سلام وعبدالله اليافي قد حضرا أمتعتهما بغية الفرار إلى دمشق عادا وفكّا حقائبهما وأخذا يصرّحان بواسطة راديو العصاة بأن القوّات الأميركية لن تمرّ. "لن تمرّ إلاّ على أجسادنا". وأثناء عملية التطويق جاء أحد الضبّاط المتهوّرين الذين لا يفهمون من الشؤون العسكرية إلاّ لبس البزّة جاء يطالب فؤاد شهاب بفتح النار فأجابه هذا بتهكّم قائلاً : "بس مصاقبة مدافع الأميركان أطول من مدافعنا".

عند الساعة الرابعة مساءً من تاريخ 15 تموز اتّصل بي الملازم الأوّل علي عبود رئيس القاعدة الجويّة العسكرية في مطار خلده وقال لي أنّ ضابطًا أميريكيًا جاء إلى القاعدة وطلب إليه أن يجمع جنوده وأن يضعهم تحت تصرّفه فماذا يفعل ؟ فأجبته بأن ينتظر كي أُراجع العقيد شميط بالأمر. عندها أخذ الملازم الأوّل سامي طباره معاون رئيس الشعبة الثالثة سمّاعة الهاتف من يدي وتكلّم بعصبيّة مع علي عبود فقال وبلهجته البسطاويّة : يا علي عم قِلَّك أعمل بشرفك. ذهبت إلى مكتب العقيد شميط واقترحت عليه إرسال العقيد إميل البستاني قائد السلاح والموجود في مبنى القيادة إلى القاعدة كي يتّصل بالأميركيّين ويتفاهم معهم فوافق. وأخبرت بالأمر الملازم الأول علي عبود والعقيد إميل البستاني. وتحاشينا العمل بالشرف وإراقة الدماء دون جدوى وخاصةً أن الأسطول السادس قادم وهو محتاط لمجابهة مع الاتحاد السوڤياتي فكيف بدولة صغيرة كلبنان.    

وفي صباح السادس عشر من تموز إجتمع اللواء شهاب بقائد القوّات الأميركية الأميرال "هولواي" في مدرسة القتال الكائنة على طريق المطار وتمّ الاتفاق على أن يحصر وجود القوّات الأميركية في منطقة انطلياس والمطار ومرفأ بيروت.

وصباح هذا اليوم سمعت العقيد شميط يتذمّر أمام الزعيم جميل لحّود، الذي عاد حديثًا بعد أن كان يستشفي في مكانٍ ما في سوريا، من الخطة الأميركية التي كانوا ينوون تطبيقها والتي كانت تقضي باحتلال العاصمة وإعادة الجيش اللبناني إلى ثكناته. وكان يقول للزعيم لحّود : "تصوّر يا حضرة الزعيم بعد كل هالتعب نطلع بالنتيجة بلا جميل". وقد سمعت هذا الحديث بينما كنت في مكتب العقيد اقترح عليه تهريب طائراتنا المقاتلة من مطار بيروت المحتل إلى مطار رياق كي يبقى عندنا شيء من "حرية العمل" فوافق. وقلت له أني سأرسل سبع طائرات بمهمّة إظهار قوّة إلى الشوف من ثمّ اتصل بهم بواسطة الراديو وأطلب إليهم الالتحاق بمطار ريّاق، تحاشيًا لإظهار نيّتنا مسبقًا، فوافق أيضًا. إتصلت بالعقيد إميل البستاني الذي تمركز في القاعدة وطلبت إليه تنفيذ المهمة، فأقلعت الطائرات وعندما أصبحت في الجوّ إتصل زميلي الملازم الأوّل طباره لاسلكيًا برئيس السرب، الملازم الأوّل رينه عبدالله، وأمره بتغيير المهمة والالتحاق بمطار رياق، فكنت استمع ولاحظت التردّد عند رئيس السرب، عندها أخذت المذياع وقلت هنا الملازم أول عوض يتكلم معك. إلتحق بمطار رياق. أجابني على الفور : "أمرك سيدي الملازم أوّل". وكما يلاحظ القارئ بدأت الشكوك تنتاب العديد من الضبّاط وكنت أحاول دائمًا ترقيع الأمور بعد أن أوصلنا فؤاد شهاب إلى ما نحن عليه.

وهنا بدأت مخاوفي على الطيارين، إذ ان مدرّج رياق قصير وغير صالح ويصعب الهبوط عليه، فاتصلت هاتفيًا بالقاعدة الجوية في رياق وطلبت إليهم إفادتي فورًا عن وصول كل طائرة. وفي النهاية وصلت كافة الطائرات وطيّاريها سالمين وتنفّست الصعداء لكن علمت أن معظمها أصبحت فراملها غير صالحة وتتطلب بعض الإصلاح.

وفي صباح 17 تموز 1958 كلفتني القيادة باستقبال قادة الأسطول السادس الأميركي على مدخل المبنى وإيصالهم إلى مكتب اللواء قائد الجيش. وعند الساعة حضر الأميرال "هولواي" والجنرال "أدامس" وعدد غير قليل من الضباط فقدّم لهم الحرس السلاح. وتقدمت من الأميرال هولواي مرحّبًا به، فعرَّفني على الجنرال أدامس، وعرَّفني أيضًا على ضابط أميركي أسمر اللون قائلاً : هوذا الكابتن فؤاد شهاب. وقال له تكلم معه بالعربية. فحاول صاحبنا التكلّم معي بلغة عربية تعيسة للغاية. ففهمت منه بعض الكلمات وضحكنا جميعًا عندما علمت أنه لبناني الأصل من العائلة الشهابية، وانّ اسمه فؤاد محمود شهاب، وانه تلقّى دروسه في كلية الشويفات حتى سنّ الثانية عشرة وهاجر بعدها إلى الولايات المتحدة وأصبح ضابطًا في القوّات الأميركية وقد نسي صاحبنا لغة بلاده. حينئذ تذكرت رئيس الوزراء سامي الصلح الذي قال على اثر انتخابات 1957 في زحلة : "بابا شوه البلد كلّها شهاب بشهاب" وكدت أن أتصل به هاتفيًا وأقول له أنه حتى في الأسطول السادس الأميركي يوجد ضابط اسمه فؤاد شهاب لكن الموقف كان حرجًا واللواء ينتظر في مكتبه ليضع اللمسات الأخيرة مع الأميرال هولواي على لوحة رئاسته المقبلة.

 

التسوية التي قام بها روبرت مورفي

وكان قد شرّفنا في السادس عشر من تموز بعد نزول القوّات الأميركية السيد روبرت مورفي الأمين العام المساعد لوزارة الخارجية الأميركية والمبعوث السياسي الخاص للرئيس ايزنهاور مع تعليمات كي يعمل كل شيء في سبيل إعادة السلام والطمأنينة ومساعدة الحكومة اللبنانيّة. وقابل السيد مورفي جميع الفرقاء وابتدأ بالرئيس شمعون وفؤاد شهاب. وعندما أراد مقابلة المعارضة أصرّ السيد صائب سلام على مقابلته بمفرده مبعدًا زملاءه في المعارضة. وممّا يُروى أن السيد صائب سلام قال للسيد مورفي كلمتين فقط : "نحن معكم إنما ابعدوا كميل شمعون عن الرئاسة". واتّضح للسيد مورفي من تصرّفات فؤاد شهاب من البداية إلى النهاية، أنه مُسترئس وانه الرجل القويّ ففرضوه رئيسًا على البلاد إرضاءً للرئيس عبد الناصر. ويُقال أن السيد مورفي قابل الرئيس شمعون مرة ثانية بعد جولته على الجميع وقال له انه سينصح بانتخاب اللواء شهاب للرئاسة وبأسرع وقت لأن التهديدات الروسية والوضع الدولي لا يسمح لهم بالبقاء طويلاً، وفي حال عدم انتخاب شهاب فانهم سيضطّرون للانسحاب. ولمذا كان الرئيس شمعون أكثر الناس معرفة بالدول الكبرى ودورها فقد أوعز إلى النوّاب الموالين بوجوب الذهاب إلى جلسة مجلس النوّاب التي حدّدت في 31 تموز 1958 لانتخاب اللواء شهاب. ولقد ثار أكثرهم على هذا الطلب، وكان الرئيس سامي أكثرهم ثورة فصرّح وهو في قصر الضيافة الذي سكنه بعدما أحرقوا منزله، قائلاً : بابا هذا شهاب لازم يتعلّق على المشنقة في ساحة البرج. مش لازمن ينتخب رئيس جمهورية. وقد اعتصم الأمير مجيد إرسلان والنائب سليم لحّود وعدد آخر من النوّاب بمنازلهم ولم يذهبوا لجلسة الاقتراع.

ولقد عيّن رئيس المجلس النيابي السيد عادل عسيران تاريخ 31 تموز 1958 موعدًا لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد. واهتم العقيد أنطون سعد بإحضار النوّاب الفارّين والعصاة. وكان منظر السيد صبري حماده مضحكًا عندما شاهدته في سيارة جيب مكشوفة جالسًا بين السائق والملازم الأول جورج كرم الذي أحضره تحت الحراسة من الهرمل. وهكذا أيضًا أحضر الباقون. ولقد ذكّرني هذا المشهد بانقلاب نابوليون بونابرت في Brumaire 18 عندما ذهب إلى الجمعية الوطنية وأُهين من قِبَل النوّاب وكاد يضرب فخرج غاضبًا وأمر صهره الجنرال Murat قائد فرقة الفرسان الذي كان ينتظر خارجًا، بإخلاء قاعة الجمعية الوطنية من النوّاب بالقوّة قائلاً له : "أخرج هؤلاء الكدش من القاعة". فجاءه (Tallerand) ناصحًا بإعادة قسم منهم لأن العهد الجديد بحاجة لثوب من الشرعية وبعض القوانين. فأعاد الفرسان العدد اللازم من النوّاب الفارّين فصوّتوا على المشاريع بالإجماع تحت رحمة البنادق والحِراب.

وفي يوم الانتخاب منعت قياد الجيش التجوّل في مدينة بيروت وأخذت إحتياطات عديدة، ووزّعت القوّات العسكرية حول مبنى المجلس النيابي بكثرة وعلى مفارق الطرق، وبدت المدينة خالية إلاّ من الخوّذ الفولاذيّة وسيّارات الجيش والنوّاب. وعندما أعلن الرئيس عسيران إنتخاب اللواء شهاب رئيسًا للجمهورية وبإيحاء من الشعبة الثانية، أخذ الجنود يطلقون النار بالهواء كالعصابات المسلّحة ممّا يتنافى وقوانين الإنضباط والتقاليد العسكرية. ولقد ثرت على هذا التصرّف وكنت أمام مبنى المجلس النيابي فأخذت أتنقّل بين الجنود وأمرهم بالتوقّف عن هذا العمل الذي لا يليق بجيش نظامي محترف. ولم أكتفِ بذلك بل عدت إلى الأركان ونظّمت مذكرة خدمة عنيفة اللهجة طالبًا إلى كافة قادة القطع والوحدات معاقبة كل جندي أطلق النار بهذه المناسبة وبهذا الشكل اللاعسكري، وتغريمه بضعفَيّ ثمن الذخيرة التي أنفقها. وعندما أرسلت المذكرة إلى رئيس الأركان المرحوم الزعيم سالم للتوقيع بغية تعميمها أعادها لي غير موقّعة ومكتوب عليها بالحبر الأحمر وبخط كبير من الزاوية إلى الزاوية "للحفظ". عندها قلت في نفسي انتهى الجيش كجيش للبلاد وسيصبح عصابة مسلّحة تخدم مصالح فؤاد شهاب السياسيّة. وتذكّرت كيف أن العقيد جوزف سمعان عاقب في الماضي البعيد ضابطًا لأن صف ضابط من المفصولين عنه بمهمّة كان قد أطلق النار في مقهى بينما كان يحتسي العرق. ولقد احتجّ الضابط المعاقَب قائلاً : عندما أطلق النار "فلان" كان مفصولاً من عندي وموضوعًا تحت إمرة غيري وموجودًا على بُعد 40 كيلومترًا عني فأجابه الزعيم سمعان قائلاً : لو قمت بتربيته تربية عسكرية صالحة لما كان أطلق النار بالفضاء كما يفعل المدنيّون في القرى، وحتى لو كان على بُعد ألف كيلومتر عنّك.

أمّا فيما يتعلّق بشرعية انتخاب فؤاد شهاب، فلقد علّق أحد علماء القانون الدستوري في جامعة القدّيس يوسف على أن الانتخاب لم يكن دستوريًا، لأنه يتوجب على الموظّف الاستقالة قبل ستة أشهر من وظيفته قبل انتخابه، وأضاف قائلاً هذا لم يكن اقتراعًا حرًّا بل كان انقلابًا عسكريًا بطيئًا كلّف البلاد والمواطنين خسائر أضخم من خسائر إنقلاب عسكري سريع وعادي. وقد ارتكب فؤاد شهاب مخالفة دستورية ثانية في 30 تموز 1960 عندما قدّم استقالته المسرحية، وأُذيعت من الإذاعة اللبنانيّة الرسميّة. ويقول علماء القانون أن العودة عن الاستقالة بحرق الرسالة الموجّهة إلى رئيس المجلس النيابي أمام منزله ليس بكافٍ بل يجب إعادة انتخابه في قاعة المجلس لأن الاستقالة تبلّغها الشعب رسميًا بواسطة الاذاعة.

ومن السخف والسخرية أنه عندما قمنا بمحاولتنا الفاشلة 31 كانون الأول 1961 وبعد سنتين تقريبًا استصدر المتسلّطون على الدولة قانونًا يمنح بموجبه وسام لكافة قوى الجيش والأمن الداخلي دعوة : "ذكرى 31 كانون الأول 1961" وسام الدفاع عن الشرعية، شرعية السيد روبرت مورفي. ولقد سمّوا تلك الأعمال البربرية التي قاموا بها بحق كل الخصوم السياسيّين وغير الضالعين في المحاولة، واعتقال خمسين ألف شخص في بلد صغير كلبنان لا يتجاوز عدد سكّانه المليونَيّ نسمة، وقتلهم تحت الضرب والتعذيب لثلاثين متهمًا، يسمّون هذا دفاعًا عن الشرعيّة ؟

ماذا حصل لو اختار السيد " مورفي" مدنيًا لرئاسة الدولة كالسيد ألفرد نقّاش أو أي شخص  آخر ؟ هل كان فؤاد شهاب سيرفض مساعدة الرئيس المدني على تهدئة الوضع في البلاد ؟ نحن واثقون أن البلاد كانت بألف خير اليوم ولكان وفَّر على هذا الشعب المسكين الكثير من المآسي، ولمّا كان فتح باب الإنقلابات العسكرية. لكن عمل فؤاد شهاب كان انقلابًا عسكريًا خطيرًا غيَّر مجرى الحياة السياسية اللبنانيّة، وكان كارثة على الشعب وعلى تطلّعاته اليساريّة إذ أنه بحكمه أعاد وثبَّت الإقطاع اللبناني في مراكز القوّة، وحال دون تطوير البلاد وجعلنا دولة تابعة نخضع في كل تصرّفاتنا الخارجية للقاهرة.

:: الى الجزء الثاني من الفصل الثاني ::

 

Electronic Edition designed by

Webmaster Elie Abboud

back to

Ref: Fouad Awad el-Khoury, فؤاد عوض الخوري

 

These articles are presented for your information. The listing of these articles by Kobayat Website does not constitute an endorsement of all the material that may be found at any given time on all of them.

Les opinions exprimées dans les articles n'engagent que la responsabilité de leur auteur et/ou de leur traducteur. En aucun cas Kobayat Website ne saurait être tenue responsable des propos tenus dans les analyses, témoignages et messages postés par des tierces personnes.