المسيرة، العدد 1027، 27 حزيران 2005

الكاتب أنطوني جعجع وشارل جبور

 

بكركي غداة الانتخابات هي غيرها قبيل الانتخابات، والزوار قبلُ وبعدُ هم غيرهم يوم جاءوها مرشحين ويوم عادوا إليها فائزين او خاسرين، وحده البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لم يتغير ولم يبدل لونه كما تفعل الفصول ولم يغير مواقفه كما تقتضي المصالح.


بعض الزوار ممن جاءوه قبل فتح صناديق الاقتراع متوخين رحمته والبركات يجيئونه بعدها متوخين رضاه والسماح، فالقطيع الذي شرد وابتعد عن أنظار راعيه يعرف أن الخراف لا تستطيع أن تعبر فصل الصقيع بعيداً من قش الحظيرة وعصا الراعي ودفء الرعية.


سيد بكركي الغارق في الصمت منذ سقوط البيان السادس في الفراغ ومنذ تفرق "العشاق" يُسرةً ويُمنةً، والضاغط على خيبة ومرارة منذ رأى أولاده يقطنون منازل كثيرة ويركبون موجات كثيرة، لا يرفع سوطه في وجه أحد ولا يغلق بابه في وجه أحد، فلا يعاتب إذا تمكن ولا يحاسب إذا تحكم، بل يظل الأب الذي لا ينكر أولاده إذا أخطأوا ولا يخلع جبته إذا كفروا ولا يرمي مظلته إذا ضاقت بهم سبل وأحوال.

 

سيد بكركي لم يتغير، وهنا مكمن قوته، هو عُذر لأنه أنذر وهو صَدَق لأنه لم يُخطىء، وهو ربح لأنه لم يقامر ولم يغامر ولم يبنِ حساباته على الأحلام والأوهام ولم يبنِ كنيسته على وحولٍ ورمال… الآخرون هم الذين تحولوا وقامروا وغامروا وهنا مكمن ضعفهم. هو قال كلمته وبقي في مكانه وهم فعلوا ما فعلوه ولم يبقوا في مكانهم فعادوا إليه… لقد عرفوا أن الرعية أنصفت البطريرك وناصرته وأنها لا تتبع صوتاً لا يشبه رنين الجرس ولا تجذبها هامة لا تطل من قبة كنيسة.


الصناديق أُفرغت من أصوات الناخبين وعلت أصوات النواب في أروقة البرلمان، فعرفنا أن العشب لم ينبت على أدراج بكركي وأن موعد الكلام مع البطريرك قد حان وأن موعد البطريرك مع بعض الكلام لم يعد يطيق الانتظار.

 

الشارع المسيحي يسأل: أين البطريرك من الانقسامات المسيحية ـ المسيحية؟
-ماذا أستطيع أن أفعل أكثر؟ فأنا أعلن مواقفي وأطلق تحذيراتي في كل عظة أتلوها في قداديس الأحد وكذلك في بيانات مجلس المطارنة وفي لقاءاتي مع المعنيين.

 

لكن الأمر بدا خطيراً خلال الانتخابات الأخيرة بحيث بدا العماد عون مستعداً للتعاون حتى مع "الشيطان" لضمان الفوز، والعكس صحيح؟
-ما حصل مؤسف حقاً رغم أنه تم في إطار ديمقراطي هادىء ولم يخرج عن السيطرة، لكن هذا الأمر لا يعني أن الامور يجب أن تبقى على ما هي، خصوصاً أن الفريقين يتقاسمان الكثير من الهموم المسيحية المشتركة ويعملان أيضا لكثير من المبادىء والأهداف الوطنية المشتركة، وعلى رأسها استقلال لبنان وسيادته وقراره الحر.

 

يأخذ عليك النائب جنبلاط علناً وبعض "القواتيين" سراً أنك اعترفت بالعماد عون زعيماً للمسيحيين؟
-وهل كنت أبالغ في ذلك؟ ألم ينتصر تيار عون في المناطق المسيحية ويحصل على أكثرية مقاعدها بأصوات المسيحيين؟ ثم لا بد من التساؤل لماذا انتفض المسيحيون واقترعوا في غالبيتهم الى جانب لوائح عون؟ الجواب بسيط، لأنهم في البداية كانوا مهمشين ومستبعدين ويشعرون بأنهم غير موجودين وبأنهم يحتاجون الى مرجعية مسيحية تقودهم كغيرهم من الطوائف، حيث يقود النائب جنبلاط الطائفة الدرزية، والنائب سعد الحريري الطائفة السنية، وحزب الله والرئيس بري الطائفة الشيعية.
أنا لست مرجعية سياسية، لأنني انطلاقاً من مقام البطريركية وعلى قدر الإمكان أقوم بالدفاع عن حقوق المسيحيين وغير المسيحيين كذلك. إن البطريرك لا يستطيع الانحياز الى فئة دون سواها، أنا مع الوطن بكل حدوده ومع المواطنين بكل شرائحهم وطوائفهم.

 

هل ترى عافية وطنية وسياسية في وجود أربع مرجعيات في مكان واحد؟
-على كل حال نحن في خضم مرحلة جديدة وعلى كل واحد أن يعرف كيف يعالجها. نحن قلنا أنهم عندما يصبحون أربع قبائل، يعني أربعة شيوخ، لا يعني أنهم يجب أن يكونوا بعضهم ضد بعض، عليهم أن يعرفوا كيف يتعاونون لمصلحة البلد، وإلا إذا كان العكس صحيحاً فيعني ذلك أننا لم نخلص بعد، لا بل أننا ذاهبون من خراب الى خراب. أنت تعمل كذا وأنا أعمل كذا. يجب التعاون لما فيه خير البلد ومصلحته ومعالجة الأمور بالتوافق والحكمة.

 

وماذا تقول عن التكليف الشرعي؟
-هذا أمر يخص المسلمين ولن أسمح لنفسي بالتدخل في شؤون تتعلق بالديانات السماوية الأخرى. كل ما أستطيع قوله أننا نحن المسيحيين لا نتبع مثل هذه الأمور في قضايا سياسية او انتخابية. ففي مجتمعنا هناك أناس راضون وآخرون مستاؤون، وكل واحد يتصرف انطلاقاً من إقتناعاته وتحالفاته والتزاماته السياسية والحزبية وسواها.
هناك أطراف مشوا لأنهم رأوا أن هذه الطريق تضمن وصولهم، كما أننا كنا نقول سابقاً أن المسيحيين وحدهم غير قادرين على إخراج السوريين من لبنان، يجب أن ينضم إليهم أحد من المسلمين. عندما توحدوا ونطقوا بصوت واحد في 14 آذار، كان لهم تأثير لدى بعض الدول في إخراج السوريين. السوريون كانوا يشجعون المسلمين على المسيحيين ويشجعون المسيحيين على المسلمين من أجل استمرار وجودهم.

 

ملاحظاتك على قانون الانتخاب كانت في محلها خصوصاً مع وصول غالبية المسيحيين بأصوات المسلمين؟
-هل تستطيع إنكار هذه الواقعة، عندما يحصل فرنجية على نسبة 70 في المئة من أصوات الزغرتاويين ثم يسقط لأنه لم يأخذ شيئاً في طرابلس. كنت أردد قبل الانتخابات أنه يجب ترك الحرية للناس لأنهم يعرفون ماذا يريدون، عندما يستقدمون لائحة من 17 اسماً لا أحد يعرف فيها الآخر، هل تعتبر هذا انتخاباً؟ بالطبع يشبه كل شيء إلا الانتخاب. لماذا لا تعتمد الدائرة الفردية فهذا القانون يعمل به في كل بلدان العالم، في أوروبا وأميركا، لكل نائب دائرة يمكن أن يكونوا عشرين مرشحاً ولكن ضمن دائرة واحدة. هذا الأمر هنا ليس على هذا النحو، يجب على الأقل اعتماد القضاء الذي يمكن الناخبين من التواصل مع نوابهم على المستوى الإنساني ويتيح لهم التعرف إليهم من كثب ومحاسبتهم ومساءلتهم، أما عندما يصبحون 17 نائباً في لائحة واحدة، فلا عجب إن ضاعت الأمور وبات بعض النواب يصل على حساب البعض الآخر. من المعلوم أن المسيحيين متقوقعون في هذه النقطة وليس في إمكانهم سوى انتخاب شيعي واحد. أما في المناطق الأخرى فغالبية المسيحيين تصل على حساب المسلمين.

 

البعض يقول إن القضاء يولِّد التوتر والطائفية؟
-يقولون بالنسبية فليجربوا النسبية إذاً!

 

لماذا لم يستجيبوا دعواتك ويعملوا على وضع قانون انتخابي يمثل المسيحيين؟
-لم يقتنعوا منا. لقد كنا نحتج على قانون الألفين منذ سنة ألفين. لم يقوموا بشيء ولم يقدموا على شيء. ظلوا يماطلون ويماطلون حتى أقروا في النهاية القانون الحالي.

 

هل تشعر بأنك طُعنت في ظهرك وأن قسماً كبيراً من المسيحيين قد خانك وتخلى عنك في اللحظة الحاسمة؟
-لا أريد أن أتحدث في هذا الأمر! فما حدث قد حدث وكل فريق قام بما رآه مناسباً.

 

هل من المقبول أن تكون بكركي ملجأ المسيحيين في أيام الشدة ثم لا تجد أحداً الى جانبها يوم تحتاج إليهم تماماً كما حدث بعد إطلاق البيان الشهير عشية الانتخابات؟
-بكركي ستبقى مفتوحة للجميع في أيام الشدة وغير الشدة. ليست المرة الأولى التي يتصرف بها بعض المسيحيين كما تصرفوا، فالتاريخ يشهد على كثير من التحولات والأخطاء التي دفع ثمنها المجتمع المسيحي في كثير من المحطات والمراحل. أنا لا أريد أن أحاسب أحداً وأتمنى أن تكون الخيارات التي اتخذوها محقة وصائبة.

 

كيف تفسر التنديد بوصول نواب الى البرلمان بأصوات المسلمين في العام ألفين ثم تهنئة نواب آخرين وصلوا بالطريقة نفسها في العام 2005؟
-وهل هناك منطق في السياسة؟!

 

نواب "القوات اللبنانية" و "قرنة شهوان" يقولون إنهم تحت عباءتك.
-كل الناس يقولون أنهم تحت عباءتي…

 

هل يعني ذلك عكس ما يقولون؟
-يقولون ما يريدون ويتصرفون كما يريدون. لقد قمت في الأسبوع الماضي بتوجيه ثلاث رسائل لتصحيح بعض ما ورد على لسان الزوار الذين ينسبون إليّ كلاماً لي ويقولون أنهم كانوا معي وأنني موافق على ما يقولونه. وأكثر من ذلك لقد قاموا بتعليق صورهم الى جانب صوري خلال حملاتهم الانتخابية.

 

قال السيد جنبلاط أنك أخطأت في رفض إقالة الرئيس لحود؟
-لقد انطلقت في الأساس من مبدأ معروف، هناك مؤسسات في هذه الدولة، فأنا كنت ضد تعديل الدستور، ولكنهم عدلوه ولم يستجيبوا رأيي، ومواقفي في هذا المجال كلها معلنة وواضحة وصريحة، يا للأسف لم يقتنعوا مني، وفعلوا ما فعلوه ومددوا للرئيس بطريقة شرعية. بعدما تم التمديد لم نواصل اعتراضنا باعتبار أننا كنا معترضين ولم يقتنعوا منا. ماذا كان في إمكاننا أن نفعل، هل نقوم بثورة؟! بالطبع لن نعمل ثورة! حاولوا منذ فترة إزاحته من خلال إجراء اعتصام أمام القصر الجمهوري، إلا أن الاعتصام يؤدي الى صدام، فإذا اعتصموا وأرادوا الهجوم على القصر وقام الأخير بالتصدي لهم وحصل إطلاق نار ذهب ضحيته شخص او شخصان، كيف نخلص بعدها؟ تكون البلد دخلت في أتون نار، هذا ما قلناه، على المؤسسات أن تقوم بعملها، أصبح هناك مجلس جديد، إذا كان لدى هذا المجلس باب لإقالة الرئيس، فليقله عندها، أما إذا لم يكن هناك من باب فعليهم ان يتحملوا نتيجة أعمالهم، لأن الذين يطالبون بإقالة الرئيس اليوم، هم أنفسهم الذين صوتوا من أجل التمديد له. ماذا يمكننا أن نفعل أكثر، هل علينا أن نلحق الناس حسب أهوائهم؟!

 

كيف يريدون إزاحة الرئيس لحود ويعملون لإعادة الرئيس بري الى رئاسة المجلس، علماً أنه رمز من الرموز السورية؟
-لا يوجد منطق في هذا البلد! في كل الأحوال الوضع اليوم أصبح مختلفاً، إذا كانوا يريدون إزاحة هذا ووضع ذاك، فالمجلس سيد أمره. يجوز ألا يكون الجميع مع بري، ولكن إذا التقت معه الأكثرية فسيتم انتخابه.

 

هناك تخوف من تعيين رئيس للجمهورية تابع للأكثرية الحالية؟
-نعم يستطيعون الإتيان بمثل هذا الرئيس، ما الذي يمنعهم من ذلك.

 

هل يجب أن يستكمل هذا المجلس ولايته؟
-يمكن أن يكمل ولايته او لا يكملها، الأمر ليس في يدي.

 

هل ستتمسك بموضوع رئاسة الجمهورية؟
-قلت لهم أن هناك مؤسسات يجب اللجوء إليها والعمل داخلها. هل يعملون ثورة؟ إنهم يعرفون مدى عواقب الاعتصام أمام القصر الجمهوري. هل نسينا عندما تم اغتيال نسيب المتني في العام 1958، وكيف قام الرئيس كميل شمعون بإطلاق النار أمام باب القصر واستمرت الثورة.

 

هل أنت مطمئن الى الموقف الأميركي؟
-الأميركيون يوم معك ويوم عليك، ولكن في مطلق الأحوال لولاهم لما كانت خرجت سوريا من لبنان. فأنا منذ انتخبت بطريركاً كان لي موقف من سوريا وهو أننا نريد أفضل العلاقات معها، ولكن نريد أن ندير أمورنا بذاتنا ولم يتغير موقفنا منذ ذلك الحين. قبل خروج الإسرائيليين من لبنان كنا ساكتين لأنهم كانوا يقولون أنه لا يجوز إخراج الصديق وإبقاء العدو. ولكن بعد رحيل الإسرائيليين لم يبقَ من مبرر لوجود السوريين.
 

يقال إنك لم تعطِ الرئيس بوش عندما التقيته في البيت الأبيض ما أخذه من سعد الحريري ووليد جنبلاط، وإنك رفضت كل الاقتراحات التي عرضها عليك. وهذا ما يفسر الرهان الأميركي على محور الحريري ـ جنبلاط للمرحلة المقبلة…
-هذا كلام غير صحيح. فأنا لم أقدم أي مطالب خفية الى الرئيس الأميركي ولم يعرض علي الأخير أي حلول. لقد كان لقاءً ودياً تطرقنا فيه الى قضية لبنان ككل وتحديداً السبل الآيلة الى سحب الجيش السوري من لبنان، أما ماذا أخذ بوش من الحريري وجنبلاط فهذا أمرٌ لا أعرف عنه شيئاً.

 

وهل تعتقد أن السوريين رحلوا فعلاً وأنه بات من الممكن تصحيح الخلل في التوازن الوطني؟
-السوريون لا يزالون هنا، ألا تشعرون بذلك؟

 

المسيرة، العدد 1027، 27 حزيران 2005

الكاتب أنطوني جعجع وشارل جبور