back to JD Documents

من أجلك


لم أرَ نفسي يومًا عاجزًا عن الجواب كما تلك اللحظة الّتي سمعت فيها لأوّل مرّةٍ، يسأل فيها يسوع بطرس :" أتحبّني؟"، ثمّ استطراده الأكثر إحراجًا:" إرعَ خرافي"، وكأنّه بدا يوجّه سؤاله لي . بماذا أجيبه وأنا الّذي كان قلبه يبحث دومًا عن وجهه، وكنت قد خلت انّني وجدته عندما التزمت الرسالة؟ لكنّ الواقع كشف لي أمورًا أكثر عمقًا وأبعد من إنسانيّتي لا بل أبعد من بشريّتي المحدودة.


أين وجهه؟

ذاك الوجه الألوهيّ، هل قابلتُه؟ هل كلّ ما خطّطه لحياتي من ممارسة أفعالٍ جميلة والقيام بأعمالٍ بنّاءة والتكلّم عن يسوع، تجيب عن سؤاله لي "أتحبّني؟" أم أنّ الجواب عنها يكون " أحبّ نفسي، أحبّ أن يراني الناس مؤمنًا متعبّدًا، لِما يرَوه من أعمالٍ وأقولٍ هدفها تغليف مسيحيّتي؟". هنا حملني قلبي إلى تلك الصبيّة الرقيقة الجميلة، المتواضعة الثابتة في الحبّ، إلى مريم الواثقة من كلمة اللهِ لها، المتوارية عن الأنظار، حتّى في الإنجيل، لكي يَظهر الله في أقانيمه الثلاث، ويظهر الحبّ كلّه في شخص ابنه المتجسّد، يسوع المسيح. لذلك لم تكن بحاجة لذاك السؤال (" أتحبّينني؟"): لقد وثق الآب بحبّها الكبير له. بتخطّيها لذاتها ولبشريّتها بأشواطٍ يوم تعرّفت إليه، وعاشت انتظار ملاقاة الحبيب لتكتشف وجهه، وإذ به يأتيها على حين غرّةٍ ليظللها بروحه فيحلّ فيها وتصبح الكلمة جسدًا. هكذا أحبّته، دون تردّدٍ ولا قيدٍ أو شرط، فنالت الحظوة الأكبر عنده.


من أجلي

من هناك، من التجسّد حتّى الصليب فالقيامة، لماذا فعل "ربّي وإلهي" كلّ ذلك ؟ أليس من أجلي أنا؟ إذا كان قد أحاطني ، منذ الخلق، بكلّ ما هو جميل، وجعلني محبوبًا من أبوين، وفرِحًا مع إخوةٍ وأخواتٍ لي، وناجحًا في عملي أو متخطّيًا فشلي بفضل من يقف إلى جانبي، ووضع في طريقي، ولو القليل من الناس، ليحضنونني عند ضعفي وألمي، ويمسحون دمعتي الخائبة والموجوعة لِيُعَزّونني ويشجّعونني على المضيّ قُدُمًا، أفلا يستحقّ كلّ ذلك أن أفهم ما يهمس به الحبيب في أذني: " من أجلك أنت فعلت"؟ ألم يحن الوقت بعدُ كي أجيبه :" أحبّكَ، سأبدا العمل منذ اللحظة، لا من أجلِ ذاتي بل من أجلكَ أنت، وأنت وحدك"؟


أنت تعلم

إذا كان حبّ الإنسان لأخيه الإنسان يقلب الفؤاد رأسًا على عقب ويولّد فيه الفرح والطمأنينة والسلام، كيف إذًا إن كان ربّ الحبّ كلّه يطلب من الإنسان أن يأخذه بكلّيته في سرّ الإفخارستيا؟ إن أحببنا بكلّ الكيان، ألا نكون قد لبسنا المسيح وأصبحنا من ذوي اليمين الّذين يشبهون الحبيب، ونحظى بإرث القداسة؟


أنتَ بتَّ تعلم يا أخي الإنسان أن الله أحبّك حتّى الصليب. بتَ تعلم أنّه، رغم إنكارك له، سوف لا يهتمّ لذلك كي لا يدعك تخجل من ماضيك فتُحْرَج. لكنّك ربّما ما لا تعلمه أنّه يرغب في أن تشاركه حمل رسالة الحبّ هذه إلى كلّ من تلتقيه، وأنّه يريدك أن تنقل خبرة حبّك له، مهما كانت صغيرة، إلى من لم يدرك بعد حقيقة هذا الحبّ. يريدك أن ترعى الخراف الّتي جنبك وتحبّها كي ترى بدورها وجهه فيك. بتّ تعلم، فَثِق أنّ يسوع لا يريد أن يسجنك في ضيقك أو يكبّلك في خطيئتك، بل أن يحرّرك منها وإلى الأبد. ضع ذاتك بين يديه دون تحسّرٍ وبكاءٍ على الماضي لأنّه لا يجدي نفعًا، " فمن وضع يده على المحراث لا يلتفت مطلقًا إلى الوراء".

 

جميلة ضاهر موسى

06 حزيران 2014

jamileh.daher@hotmail.com