ما أعجب الكراسي
طالما سَمعَهم يتكلّمون عن الكراسي، وأن كثيرين يعملون من أجلِ الوصولِ إليها، فراح يسألُ نفسه:
ألا يوجد كفاية منها لتجنّب هذه الصراعات فيما بينهم؟ وهل هم يَتعبون إلىهذا الحد حتى إنهم يفتّشون عن واحدة يجلسون عليها؟ سأل قائلاً :
أمي لماذا يتسابقُ الكبارُ هكذا إلى الكراسي؟
من قال لك؟
سمعتُ أنهم يُقيمون الأرضَ ويُقعدونها ليحصلوا على إحداها. وهل يُعقلُ أنه لا توجد لهم أماكنُ للجلوس؟ بينما الصغارُ يجلسون أينما شاؤوا، ومتى شاؤوا ولا يهمُهم الأمر.
يا ولدي كلامُك صحيح؛ ولكنّ الكراسيَ التي يتكلّمون عنها هي من نوعٍ آخر.
ولماذا لا يرضون بالأنواعِ العادية؟
كلا يا حبيبي، إنما يُجهدون أنفسهم للوصولِ إلى كراسيَ مختلفةِ الدرجات والمقامات، إنها تُعتبرُ مراكزَ ووظائفَ محدّدةً وهم يتسابقون فيما بينهم بضراوة، ما دام أكثرُ من واحد يريدُ الجلوسُ عليها.
ولِكَمْ شخصٍ تتّسعُ الواحدة؟
إنها لا تتّسعُ إلا للفائز فقط.
ولماذا لا يشتري الآخرونَ كراسيَ لهم؟
أريد أن أشرحَ لك بوضوحٍ علّك تستوعبُ كلامي. فالكراسي التي نتكلّمُ عنها هي أمنيةُ الكثيرين، ليس في بلادنا وحسبُ بل وفي كل بلدان العالم أيضاً.
أمرٌ عجيب. لماذا هذا النقصُ في أعدادها؟
لا نقصَ في أعدادها، لكن الرؤساءَ والنوابَ والحكّامَ بعد انتخابهم يمكنهم الجلوسُ عليها.
والباقون أين يجلسون؟ أم إنهم يبقون واقفين؟
سأصبرُ حتى تفهمَ ما أقصد، إننا نتكلّمُ عن كراسٍ بمفهومٍ آخر.
وهل لها عدةُ مفاهيم؟
بالذات هذا ما أرغبُ أن أقولَه لك. فإن رابحَ الرئاسة له حقُّ الجلوسِ دون سواه على كرسي الرئاسة. ورابحُ النيابةِ له حقُّ دخولِ المجلس، وقائدُ الجيش له حقُّ قيادةِ عسكرهِ من على كرسي القيادة، وكلامي لا يتناولُ كرسياً من خشب أو حديد، بل الحق بأن يكونَ رئيساً أو نائبا أو قائداً. وكرسي القاضي هي المركزُ المحفوظُ لمن عُيّن قاضياً، وكرسيُ المحافظ هي المركز المحفوظ له، ومعنى الكرسي يكون بالمنصبِ أو السلطة التي تخوّلـُه القيامَ بوظيفته.
لماذا المنافسةُ إذاً؟
المنافسةُ ضروريةٌ لمعرفةِ من هو الأحقُّ بسلطةِ هذه الكرسي أو تلك.
الآن فهمتُ السبب، إنهم يتنافسون كما نتنافسُ نحن الصغارُ على قيادةِ اللّعب ومن هو الأكثرُ حظاً في السيطرةِ على الباقين.
بقي شيءٌ أقوله لك يا بني، إنَّ لفي الكراسي سراً عظيماً، لا تعرفُه إلا من خلالِ تصرُّفِ الجالسين عليها.
وكيف ذلك؟
إن أرواحَهم متعلقةٌ بها يُجهدون أنفسَهم ويراهنون بكل شيء كي لا تُفلِتَ من أيديهم. ولا يتخلّون عنها إلا مرغمين ولو استطاعوا لأبقوها لهم مدى الحياة، ولكانوا أورثوها من بعدِهم لبنيهم وبني بنيهم.
ولماذا كلُ هذا؟
إنها محبّةُ الذات القويةُ التي أَنْسَتْهم كلَ ما هو حولهم.
عجيبةٌ هي الكراسي.