back to JD Documents

 

إليك أبي

 


كنت أنظرُ إليك من أسفل وأنا صغير، فتبدو لي شامخاً كالنسر، تظلّلني بوسع ذراعيك المفتوحتان لاستقبالي أما اليوم فما بتّ أراك هكذا : هل هو الزمن الذي قصّر قامتك فغدت عيناي تراك من علو؟ هل الزمن هو المسؤول أيضاً عن نظرتي إلى قلبك وحديثك؟ هل هو المسؤول عن رفضي لأفكارك وتهميشك؟


في ذلك الزمان كنت أنتظر عودتك كي تملأ لحظاتي بكلمات الغنج والدلال، وتمسح شعري بكفّك المبلول بألوان الحبر والمُغبَرّ بفتات الطبشور، كنت أتطلّع إليك فقط فتشبعُ أحاسيسي الصغيرة وتفيض من حنوّ نظراتك ودفءِ قُبَلكَ المشتاقة إلى ثمرة حبّك الصادق الجارف.


أماّ اليوم فكلماتك أحسبها إهانة لي ويدك إن مددتها صوبي، خلتها بندقية، فأُبادرك برشقاتٍ من رصاصِ العبارات التي لا يندمل جرحها إلاّ في قلب الأب وفقط في قلبه. وإن نظرتَ إليّ فما أفهم من حرارة حنانك وغيرتك عليَّ من الشرّ إلاّ شراً يريد تحطيمي وإزلالي. أماّ قُبَلَكَ، إن تجرّأتَ على تقديمها بغير العيد، أبتسم هازءاً، خارقاً حنينك وهناءك بخنجر سفاهتي: "ماذا تريد منيّ أيّها العجوز، إيه؟ ماذا تخفي وراء ذلك؟ ما في شي بلاش مش هيك؟" فتتحوّل يا صخرة الأمس إلى بحصة اليوم، تُلملم ما تناثر من حبّك حزيناً، تتهاوى إلى الأرض وتختبأ تحت خابيتي، بكلّ هدوءٍ وسكينة، خوفاً من أن تنقلب "الجرّة" وتنكسر، وأنا أُلقي بثقلي وما فيه من سائلٍ وجاف على بحصتي كي أرتاح وأثبت غير آبهٍ بما يحصل لك، أمّا أنت فكما أنت، تسندني وتخاف على حياتي من الضياع.
أعترف أمامك اليوم أبي وأنت في حضن الآب، أني عندما حملتُ طفلي بين ذراعيّ كُشِفَت لي حقيقة ذاتي الضعيفة أمام قلبك الوسيع وحبّك الكبير.


قبل أن أنحني إجلالاً لشخصك العظيم، دعني أغسلُ قدميك كالمجدليّة، ربّما أغفر لنفسي واثقاً أنّك لم ترزلني يوماً أو تحقد عليّ حتى ساعة إعدامك بمشنقتي.

• عذراً إن قسوتُ بالتعبير، فمن يزور المهمّشين ويدخل أعماق الآباء فيبكي القلب قبل العين.

 

12 تشرين الثاني 2008

جميلة ضاهر موسى
jamileh.daher@hotmail.com

Ref: Jamileh Daher Moussa