back to Ashya Saghira

من كتاب "اشياء صغيرة"

للدكتور فؤاد سلوم

 

البيــت المهجــور

 بناه، رحمه الله، في الضيعة بيتًا لائقًا وعلى طراز حديث. بناه بالجهد والأمل. وسكنه بالبهجة والاعتزاز، وجعله مضافة يقيم فيها السخاء وتسطع البشاشة ويكرّم الأضياف.

كان سلام يحبّ الضوء ويكره العتمة، ولعلّه كان يعوّض عن لهب فتيلة السراج وعن مشغل اللقش[1]، زمان البيت الوالدي العتيق، فصار، وقبل أن يستتبّ الظلام، يشعشع البيت كلّه، لا سيّما الفراندا، وبأنوار الكهرباء، ليقول لكلّ من يرى، نحن، هنا، ساهرون، أهلاً وسهلاً.

كان سلام مدير مدرسة الضيعة، فكان بيته مقصودًا من أولياء التلاميذ، مرحّبًا بهم فيه، يراجعون بشؤون أبنائهم، ويتداولون بكلّ شأن من شؤون الضيعة، فكأنّهم في نادٍ. كان سعيدًا بأن يكون بيته موئلاً للأهل والجيران، ولِمَن شاء، يلتقون فيه مكرّمين، فكأنّ هذا البيت روضة تفيء إليها العنادل من كلّ صوب تنقّر وتصفّر. لكنّ الطموح ما لبث أن حدا بسلام إلى أن ينظر صوب بيروت وأن يرتقي فيها إلى منصب كبير في إدارة رسميّة. أعدّ العدّة وتقدّم من مباراة أجراها مجلس الخدمة المدنيّة، فحالفه النجاح فصار موظّفًا كبيرًا، كما شاء له طموحه أن يكون. بالنتيجة صار لا بدّ من أن تنتقل العائلة كلّها إلى بيروت، فانتقلت وأقفلت أبواب البيت النادي، وخيّمت العتمة في المكان وهجرت العنادل روضتها.

لم تطب لسلام الإقامة في بيروت، وبقي يحنّ إلى روضته، فكان يعود إليها في عطلات الأعياد، وفي عطلة الصيف مع العائلة، فيبادر، كعادته، قبيل نزول العتمة، إلى شعشعة الأنوار ليقول لِمَن يرى : ها نحن عدنا... في نهارات الشتاء يعلن داخون المدفأة حضوره، ويعني أن الدفء يشيع في المكان.

كذلك لم يكن يفوّت سلام مناسبة إلاّ ويغتنمها ليعود إلى الضيعة منفردًا، من غير العائلة، ولو ليوم واحد، وإن لم تكن هناك مناسبة، إبتدعها ! كانت نفسه موزّعة بين ضرورات العمل وتأمين مستقبل الأولاد، وبين عشقه الضيعة، وألفته للدار، والأنس إلى الأهل، في مسقط الرأس. وكان يحلم بيوم التسريح من الخدمة لبلوغه السنّ ليمضي شيخوخة هانئة في داره، بين أهله، منتظرًا ملاقاة ربّه على خُطى الآباء والأجداد...

ما كلّ حلم يتحقّق ! حتّى بعض الأحلام الخائبة تأخذ صورة المأساة.

ولم تكن تلك الزورات السريعة لتحيّي الأرض الموات، بل كانت كالمطرة الخفيفة تبلّ عطش التراب فما يكاد ينتعش النبت حتّى تحرقه شمس الهجر.

بعد فترة على إقامته في بيروت أصاب سلام مرض عُضال، فتراخت مواعيد زياراته إلى الضيعة. ولم تعد هذه الزيارات القليلة تحمل إليه الانتعاش كما كان يألف، بل كانت تزيده غمًّا فوق غمّ. صارت تريه الأمل الذاوي كشمس الغروب، يتحدّر في أُفقه ليغيب شيئًا فشيئًا، فانقطع عن الزيارة واستسلم إلى يأسه... إلى أن كانت الزيارة الأخيرة التي ملأت الدار بالمودّعين حتّى غصّت، وغصّ بهم ما حول الدار. لكن ربّ الدار لم يكن يرى أحدًا ! كان مُسجّى على نعشه فيها تبكيه الدار والحديقة، وينتحب حوله الأحبّة، ويُرثى له وللدار المؤاجرون والمؤاجرات.

كانت له جنازة مشهودة غصّ المكان بحشود الناس شاركت فيها كلّ الضيعة وبعض ضِيَع الجوار لما كان له من أصدقاء ومقدّرين لشخصه ولدوره...

لكن لا شيء يدوم، لا سيّما الأحزان فهي سرعان ما تتبدّد وتعود الحياة إلى مجاريها. في حال بقيت ذكرى الحبيب الغائب إلى حين في نفوس الأهل، فإنّ حُزن الدار المهجورة يبقى أبدًا. إنّها كالأم الثكلى، لا تنسى مَن أودعته التراب. بل حزنها أقوى من حزن الثكلى إذ كلّما تقدّم الزمن على الغياب، ساءت حال الدار التي عادت تغرق بالعتمة. لم تعد ترى أحدًا يزورها من أهلها. كبر الأولاد فانشغلوا بدواعي حياتهم في المدينة، في جامعاتها، في فرادتها، في دنيا العمل. روابطهم بالدار والضيعة وهَنَت، فلا أيديهم تعبت على ما فيها ولا قلوبهم أشفقت على ما تركوا. آمالهم تجذّرت في مكان إقامتهم، وماضيهم ذكرى بعيدة !

عامًا بعد عام ذبلت الأزهار ويبس النبت في الحديقة وأكلت الأشواك ترابها. العريشة على السطح يبست فيها العناقيد، ثمّ يبست أغصانها. أخشاب الشبابيك تهرّأت وسقط بعض من حاجبات النور فيها فظهر الزجاج الذي صار صفيقًا لكثرة ما لصق به من أتربة رمته بها الرياح. جوانب الفراندا تكدّست عليها الأوراق اليابسة التي كان يحمله إليها الخريف سنة بعد سنة، وتكاثف الغبار في باحتها فصارت تنطبع عليه أقدام أطفال الحيّ الذين كانوا يتسلّقون أسوار الحديقة عندما يلعبون لعبة "الغمّيضة" فيختبئون في زواياها حتّى أنّهم كسروا، ذات مرّة، عندما تراشقوا بالحُصى، زجاج النافذة، فانفتحت فيه كوّة على عالم الداخل المعتم.

وحلّ شتاء من أشتية الجبل، ساقت فيه أقدار أهل الحيّ نمسًا مراوغًا سطا على أخمام دجاجهم، فعاث فيها تقطيع رقاب وامتصاص دماء. كان باستطاعة هذا النمس الكائد أن يضلّل الكلاب وينجو منها بأهون سبيل، وهذا ما كان يحيّر عقول أهل الحيّ. كانوا يترصّدونه وكانت تشمّ ريحة الكلاب فتفرّ نابحة ذات اليمين وذات الشمال، ويخرج الأهالي بمصابيحهم وبعصيّهم وببنادقهم، فلا يعثرون عليه. يتفقّدون أخمامهم فيجدون أن النمس الغازي قد ضرب ضربته الناجحة فأنزل الخسائر بهم ونجا. تبقى الكلاب تنبح مدّة ففي خياشيمها ريحه لكنّ إدراكها مقصّر عن مكان وجوده. كان النمس يختبئ في مكانٍ ما من الحيّ لم يقدر على تخمينه الأهالي ولا تصل إليه قدرة الكلاب... لمّا أعيا أهل الحيّ وعجزوا عن الظفر به قرّروا أن يسمّموا له دجاجة يضعونها بين الأخمام. حبسوا الكلاب حتّى لا تقع في الفخّ، وانتظروا أن يوقعوا بالنمس فأوقعوا به. خمّنوا أنّهم أوقعوا به لأنّه لم يعد يزور الأخمام، وسَلمت دجاجاتهم من شرّه. ومع أنّهم كانوا يشمّون رائحة كريهة كلّما هبّت الريح من جانب، فلم يفطن أحد أنّها ريح النمس الذي سمّموا له، لأن النّموسة والثعالب وما شاكلها، في علمهم، عندما تشعر باقتراب الموت، تعود مسرعة إلى أوكارها تحتمي فيها، إلاّ إذا عاجلها، فتموت في الطريق إليها، بل ظنّوا أنّها ربّما تكون ريح هرّ نافق، أو ما يشبهه، مرميّ بين الأشواك.

مضى الشتاء وجاء الربيع. واجب اجتماعي اضطر ربّة الدار المهجورة أن تأتي إلى الضيعة لتعزية بعض الأقارب الذين فقدوا عزيزًا لهم. قصدتها قبل نهار من موعد أدائها الواجب، عازمة أن تأتي دارها، تتفقّدها، تفتح منافذها للتهوئة، تنظّف داخلها وتعيد ترتيب أثاثها. وصلتها في الضحى. وقفت أمام المدخل وأجالت النظر : أوراق يابسة رطبة تتكدّس عند أسافل الجدران. حشائش خضراء تعلو في كلّ مكان، حتّى بين شقوق الإسمنت، وطحالب على الحجارة، وفيما بينها. أطلّت على الحديقة : أشواك وحشائش فوقها أغصان متقصّفة. أغصان يابسة، لا تزال على أمّاتها الأشجار... انقبض قلبها. أحسّت أنّ تلك الأشجار المنكوبة، تنظر إليها بعتب. رأت اللوم في أخشاب النوافذ المهترئة، ورأت استياءً حتّى في جدران الدار وأبوابها... عصرت الغصّة حلقها وذرفت دمعة، وهزّت برأسها موافقة، وقالت : نعم، هذه حال كلّ دار من غير ديّار ! مات ديّارك، رحمة الله عليه ! سامحيني يا أيتها الدّار. اُعذريني ففي بيروت ما هو أقوى من رغبتي في الحفاظ على الإرث الغالي. مسؤوليتي صارت أكبر... ثمّ فتحت الباب ! زكمت أنفها رائحة غريبة، حامضة. دخلت : الرائحة أقوى ! كلّما فتحت باب غرفة، وهي متهيّبة، ما كانت ترى إلاّ الغبار على الأسرَّة والخزائن. أمام باب الغرفة الجنوبيّة التي يقع شبّاكها ناحية الفراندا اشتمّت رائحة كريهة، كريهة. فتحتها وأضاءت المصباح ! قفزت إلى الوراء وصرخت : يا الله ! رأت كومة سوداء على السرير. جثّة تنبعث منها تلك الرائحة. هربت إلى الفراندا واستغثت بالجيران. أسرعوا واقتحموا الغرفة رجالاً ونساءً، شالاتهم على أنوفهم يتّقون الرائحة، لكنهم سرعان ما خرجوا باسمين... لقد اكتشفوا السرّ ! كانت تنظر إلى وجوههم مدهوشة. ماذا ؟

قالوا : لا تخافي، إنه ذلك الخبيت الماكر. ورووا لها حكاية النمس المراوغ الذي كان يغزوا أخمام دجاجهم في حَلَك الليالي وأعياهم. أدركوا الآن، أنّه كان يقفز فوق سُور الحديقة، تساعده عضلاته المَرنة القويّة، فتعجز الكِلاب عن اللحاق به، فيتسلّل إلى الفراندا ومنها إلى غرفة النوم عبر الزجاج المكسور. عندما أكل السمّ شعر بالموت يقترب فأسرع إلى أقرب مكان حيث اعتاد أن يحتمي، فنفق بعد أن فعل السمّ فعله.

كان الوحش الأسود، هناك، راقدًا على بطنه، مسبّلاً قائمتين إلى أمام وقائمتين إلى وراء. رقد رقاده الأخير هانئًا على فراش الإنسان الوثير. وقد استحقّه.



[1]  نسغ الصنوبر يجمّد في الغصن

   إذا قطع في الربيع فيصير كالشمع سريع الإلتهاب، يصنع منه القطران.

 

 

back to Ashya Saghira